}

إصدارات شعرية وفكرية 2024: بين جمود الواقع وجموح الشعراء

سناء عبد العزيز 6 يناير 2025
تغطيات إصدارات شعرية وفكرية 2024: بين جمود الواقع وجموح الشعراء
حظيت مذكرات نافالني (يسار) بانتشار واسع

احتلت السير الذاتية، والكتب الفكرية، والاستقصائية، نصيبًا معتبرًا من الإصدارات لعام 2024، لعل من أبرزها تلك التي تناولت قضايا وجودية مثل عدم اليقين المستأصل في البشر، ومرض الحنين إلى الماضي، وماهية الحياة والموت. كذلك الكتب التي أخذت على عاتقها تسليط مزيد من الضوء على طبيعة عالمنا الرقمي، كمحاولة أمينة من مؤلفيها لإرشادنا داخل الشبكة العنكبوتية. على النقيض، أحدث صدور بعض الكتب ما يشبه الصدمة، بفضحها بعض الممارسات في عالم السياسة والحرب، أو كشف الجوانب الخفية في حياة الفنانين والقديسين والشهداء.

اختلفت الأسباب والموت واحد
في عام 2020، أثارت محاولة قتل زعيم المعارضة الروسية، أليكسي نافالني، على أيدي أجهزة الأمن الروسية استهجان العالم، بعد أن تصدرت عناوين الصحف والمجلات. وما إن تعافى من أثر السم، شرع نافالني في كتابة مذكراته "وطني/ Patriot: A Memoir" في أكثر السجون وحشية على وجه الأرض. حظيت المذكرات بانتشار واسع، لا سيما بعد موت صاحبها في زنزانته عام 2024 في ظروف غامضة. واعتبرت بمثابة الرسالة الأخيرة التي تركها المناضل الروسي للعالم ضد الأنظمة الديكتاتورية في كل زمان ومكان. يحكي نافالني من محبسه قصة حياته، صحوته السياسية، والتزامه بتحدي قوة عظمى عالمية مدفوعًا بقوة الذكريات، وإحساسه الوشيك بالنهاية. كما يحكي عن محاولات اغتياله المتعددة، وثقته التامة في سقوط الطاغية آجلًا أو عاجلًا، ليبشر روسيا المقموعة بتمرد قادم على غرار ثورات الربيع العربي.
لو بدلنا زاوية الرؤية لتطل على أميركا، بصفتها القطب المقابل، وذلك من خلال كتاب الأميركية مورين كالاهان "لا تسأل: آل كينيدي والنساء اللاتي دمَّروهن"/ Ask Not: The Kennedys and the Women They Destroyed، لظهرت وجوه مخيفة من الاستبداد في تاريخ الزعماء، وما انضوى عليه من اغتصاب، وأعمال شنيعة، تحت ستار السلطة. تحكي كالاهان 13 قصة لنساء مشهورات ومجهولات، على حد سواء، أوقعهن سوء الطالع في طريق آل كينيدي المعبد بكراهية النساء، مع الإفلات من العقاب، من بينهن الممثلة غلوريا سوانسون، وجاكلين أوناسيس، ومارلين مونرو، وحتى نساء العائلة المباركة، مثل روز ماري، التي أجرى لها جوزيف باتريك كينيدي الأب عملية جراحية لاستئصال الجزء المعطوب من مخها، وما ترتب عليه من عجز دائم للفتاة.
تنتقل كالاهان برشاقة بين أفراد عائلة كينيدي، بدءًا من جو الأب، مرورًا بالأبناء، ومنهم الرئيس جون كينيدي، الذي حوَّل البيت الأبيض إلى مختلى لممارسة الجنس، لتنتهي إلى روبرت كينيدي جونيور، المرشح لرئاسة الولايات المتحدة في الدورة الأخيرة، ثم تنتقل من العائلة السيئة إلى بلورة العلاقة بين السلطة والجنس على مستوى العالم.

الجهل والنعيم في عالم مفلتر


هل نحن في خطر؟ نستيقظ من النوم لنفتش عن أجهزتنا المريحة لتتولى قيادتنا على مدار الساعة! يتحدث الصحافي الأميركي كايل تشايكا في كتابه "عالم الفلترة: كيف أدت الخوارزميات إلى تسطيح الثقافة/ Filterworld: How Algorithms Flattened Culture" عن كثرة التوصيات التي تمليها تلك الخوارزميات على تجاربنا وخياراتنا، من المطاعم العصرية، إلى شبكات المدن، إلى تيك توك، ونتفلكس، وغيرها من المنصات والشبكات. إنها تشكل الأغاني التي نستمع إليها، والأصدقاء الذين نتواصل معهم، ومن ثم تشكل نوع الثقافة التي تُنتَج، والآليات التي تنتشر بها في جميع أنحاء العالم، والنتيجة هي حالة من الخضوع تسمح لشركات التكنولوجيا بتقليص التجارب الإنسانية إلى حد تشابه الأذواق وغياب الإبداع والإرادة الحرة.




في سياق مشابه، يناقش كتاب "الجهل والنعيم: حول الرغبة في عدم المعرفة/ Ignorance and Bliss: On Wanting Not to Know" لأستاذ العلوم الإنسانية في جامعة كولومبيا مارك ليلا، ميل العقل البشري إلى تجنب الحقيقة، ومدى سهولة وقوعه في شرك الوهم، مسترشدًا بالتاريخ، والأسطورة، والكتب السماوية، وأقوال المتصوفة، والفلاسفة، والمبدعين. يسوق الكاتب كثيرًا من الأمثلة عن مريدي الجماعات الدينية والمتطرفين في أماكن كثيرة من العالم، والاعتقاد في سمو براءة الأطفال، وذوي القدرات الخاصة، وقدرة المتصوفة على الوصول إلى أمور غيبية. وبرغم استشراء هذه الظاهرة في عصر ما بعد السيولة، فهي ليست بمسألة حديثة، كما أنها ليست خللًا في طبيعتنا البشرية، بل هي نتيجة طبيعية لتشرذمنا.

انتبه من فضلك!
يُقسِّم المفكر البريطاني ديفيد سبيغلهالتر حظوظ البشر إلى ثلاثة أنواع: "الحظ الظرفي"، المتعلق بتواجدي في مكانٍ محدد ولحظة معينة، أضف إلى ذلك لعبة الاحتمالات، إما أن يحالفني الحظ بأن يشكلا معًا نسيجًا مناسبًا يخدم أغراضي، أو يخونني، فأجد نفسي في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. ثانيًا، "الحظ الناتج"، وهو كل ما تسفر عنه مجموعة الأحداث نتيجة عوامل خارجة عن السيطرة، من خير، أو شر. وأخيرًا، "الحظ التكويني"، ويشمل الفترة التي ولدت فيها، وطبيعة محيطك وسماتك الشخصية. وذلك في كتابه "فن اللايقين: طرق للتعامل مع الصدفة والجهل والحظ والمخاطرة" (The Art of Uncertainty: How to Navigate Chance, Ignorance, Risk and Luck).
يأخذنا ليلًا في رحلة ثرية للتعرف على طبيعة اللايقين الملتصقة بظرفنا التاريخي، ودور الحظ في صنع القرار، لنخلص في النهاية إلى أهمية علم الإحصاء ومبادئ الاحتمال في إدارة حياتنا، ودرء المخاطر على المستويين الشخصي والعام، كالتعامل مع الأوبئة، وأزمة المناخ.
في الذكرى الـ20 لرحيل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، صدرت طبعة جديدة من كتابه المثير للجدل "أشباح ماركس/ SPECTRES DE MARX". نشر الكتاب لأول مرة عام 1993، واستمد عنوانه من تصريح كارل ماركس في بداية البيان الشيوعي بأن "شبحًا يطارد أوروبا".
يرى دريدا أن روح ماركس ازدادت حضورًا بعد سقوط الشيوعية، ويدعوه الحذر إلى تفكيك كلمة شبح لفض الالتباس بشأن تحيزاته الفكرية، متسائلًا: لماذا أشباح، أو أطياف بصيغة الجمع؟ هل يوجد أكثر من واحد؟ يمضي فيلسوف التفكيكية قدمًا في تفكيك بعض الكتابات التي تدعي موت ماركس، مستدعيًا شبح والد هاملت عند شكسبير؛ الشبح الذي لا يموت، بل يبقى إلى الأبد مطالبًا بالثأر. ثم ينتقل إلى إصدار "بيان الحزب الشيوعي"، لينتهي إلى عصرنا الحالي في ما أسماه بـ"المرحلة الجنونية".
وعلى الرغم من تسليم دريدا بانتهاء شكل معين من الماركسية، فإنه يؤمن بوجود بعض الأفكار المهمة في الماركسية، أو بالأحرى بعض الماركسيات التي بوسعها أن تنقذ العالم من آثار الرأسمالية التي لم تألُ جهدًا في نشر الدمار والفقر والشتات في كل مكان عبر العالم.

استكشاف الموت والحياة


من فرنسا، صدر كتاب "أنا قادم لأموت عندك، من سافو إلى جان دورموسون، موت الكُتّاب/ Je viens mourir chez toi : De Sappho à Jean d'Ormesson, les morts d'écrivains"، للباحثين فريديريك روفيللوا، وصوفي فاندن. ويتناول اللحظات الأخيرة من حياة 25 كاتبًا وكاتبة بدءًا من الشاعرة الإغريقية سافو، التي انتحرت عام 570 قبل الميلاد، وصولًا إلى جان دورموسون، ومن بينهما تظهر فرجينيا وولف وهي تثقل جيوبها بالحجارة عام 1941 وترمي بجسدها المكدود في أعماق النهر. كذلك الشاعرة المكلومة سيلفيا بلاث، التي طاب لها استنشاق غاز البوتوغاز كريه الرائحة في لحظة لم تستوعبها. وفي مقتبل الستينيات، لم يتورع إرنست همنغواي عن إطلاق النار على نفسه، كما ولم يستطع أحد تفسير حادث السيارة المميت الذي تعرّض له ألبير كامو عام 1960، أو سبب دهس المخرج الإيطالي باولو بازوليني بسيارته على شاطئ قرب روما.




يذهب الباحثان إلى عقد صلات مدهشة لربط الأموات، منها مثلًا أنه بحسب التقويم اليولياني، توفي شكسبير في يوم دفن سرفانتس، وأن الضابط الفرنسي الذي قتل بوشكين في مبارزة يحمل اسم كونت دي مونت كريستو الشهير لألكسندر دوماس. إنه باختصار كتاب عن الموت يدعونا إلى إعادة اكتشاف البصمة التي تركها موت المؤلفين في خيالنا وثقافتنا المشتركة.
على النقيض، يأتي كتاب "أدلاء أفريقيا: مقالات عن الاستكشاف والعودة/ Outriders Africa: Essays on Exploration and Return" لينتصر للحياة. وهو مجموعة من المقالات كتبها عشرة من كتاب أفريقيا بعد أن قاموا برحلات مثيرة في ربيع عام 2020 عبر القارة السمراء، منهم كي ميلر، وإنجيرو كوينانج، وليلى محمد، وغيرهم. على هذه الخلفية، ينجرفون في رحلاتهم من معاقل الراستافاري في أثيوبيا، إلى شواطئ السياح في مدغشقر، وجزر القمر، ملتقطين قصصًا تاريخية عذبة، وألوانًا من الحزن، وما تعنيه حقًا فكرة العودة إلى الوطن، على نحو يعكس رؤى جديدة حول الهوية والانتماء الأفريقي.

أزهار تتفتح بغير أوان


إننا ندين بكثير للشعر، ربما لأنه يشبه البرزخ بين جمود الحقيقة وسيولة الخيال، على الرغم من ندرة الدواوين القوية في حصاد هذا العام. ولعل تأملات الشاعر لي سيونج بوك في الفن والحياة المعنونة بـ"إزهار بلا أوان/ Indeterminate Inflorescence" تمثل قطعًا خالصة من الشعر. فهي تتضمن 470 حكمة مأثورة، وتجربة فكرية، إلى جانب قصائد نثرية مأخوذة من محاضرات الشاعر في الكتابة الإبداعية، تتأمل في طرق العيش، والعثور على معنى للحياة، كما تعيد النظر في الحالة الذهنية لصناعة القصائد التي أطلق عليها كيتس اسم "القدرة السلبية"؛ وهي القدرة التي تتربى من رفض الانزلاق إلى اليقينيات المألوفة، وطرق التفكير السهلة.
ويعد سيونج بوك واحدًا من أبرز الشعراء الأحياء في كوريا الجنوبية، وتأخذ هذه الملاحظات، التي جمعها طلابه، وقام أنطون هور بترجمتها، عنوانها من المصطلح النباتي الذي يشير إلى أن الزهور على ساق واحدة تتفتح بترتيب تصاعدي غير محدد لأنه، من حيث المبدأ، يمكن أن يستمر في تفتحه بلا حدود. استفزازي وملهم، هذا هو الشعر الجديد الضروري. يقول سيونج: "إن القطعة الكتابية مملة... الشعر همسة تجعل القراء يخرجون من جلدهم"، ناصحًا الشعراء بالانقياد إلى "الإيقاع أو "الشكل" الأساسي في عملك [الذي] يجب أن يكون حيًا"، وهو ما يمكن تحقيقه على النحو التالي: "اركل الكلمات كما لو كنت تركل الأرجوحة. ينبغي أن تشعر كما لو أن باطن قدمك تلامس السماء".
من ضمن الشعراء الذين يرفضون الطرق السهلة في التفكير الشاعرة الأميركية ديان سوس، المعروفة ببراعتها في المزج بين التجريب والعمق العاطفي، مع التركيز على تجارب الحياة اليومية والطبقة العاملة بطريقة تجعل شعرها يلامس القارئ على مستويات متعددة. في ديوانها "صريح: سوناتات"، تمكنت سوس من توسيع شكل السوناتة التقليدي، ما أهلها للفوز بجائزة بوليتزر 2022، أما ديوانها الجديد "الشعر الحديث/ Modern Poetry"، الذي ترشح لجائزة الكتاب الوطني، فاستمدت سوس عنوانه من أول كتاب مدرسي صادفته عندما كانت طفلة، وراحت توظف في قصائده أشكالًا ومصطلحات من الموسيقى، والقصيدة الغنائية، والفوجة، والأريا، واللحن المكرر، والخاتمة، في سعيها لاستكشاف العزلة العميقة والانقسام الذي نعيشه رغم كثرتنا. في الوقت نفسه، يطرح الديوان عددًا من الأسئلة عن الشعر الحديث: ما الذي يمكن أن يكون عليه الشعر الآن؟ هل لا تزال القصائد قادرة على التعبير عن المعنى؟ تكتب سيوس: "يبدو من الخطأ/ أن تتلوى الآن داخل حدود/ القصيدة. لا يمكنك الاختباء/ مما صنعته/ داخل ما صنعته".

الشعر والخلود
أخيرًا، أصبح في وسع قراء الإنكليزية الاستمتاع بقصائد فابيو مورابيتو، أحد كبار شعراء المكسيك، وذلك بالتعاون مع مترجمه ريتشارد جوين في اختيار مجموعة من القصائد بعنوان "كلب غير مرئي/ Invisible Dog" تتألف من 54 قصيدة من خمس مجموعات شعرية كتبها مورابيتو على مدى أربعة عقود، وتتناول قضايا الهجرة، والازدواجية، وفقدان اللغة، وتقلب الهوية.
تبدأ المختارات بمقدمة وافية عن الشاعر الذي ولد في الإسكندرية لأبوين من إيطاليا، وتميزت أشعاره بسخريتها اللاذعة، وحسها الفلسفي. كما تسلط الضوء على مراحله الفنية، مع موضعة تجربته في السياق الأوسع للكتابة في أميركا اللاتينية الحديثة. يقول مورابيتو:
"كل المسافات/ ولدت من الفاكهة/ التي ينبغي قطفها/ على الغصن التالي،/ من الشجرة القريبة"، ليصل إلى الحب والرغبة، وحبيبته التي يقول عنها ولها "كنت أقطفها كل يوم/ وأجلبها إلى هذا الجانب من النهر/ وألتهمك وأقضمك وأحتفظ بك/ وأخاف أن أتجشأك".
إن أول مجموعة كاملة للكاتب والشاعر الصومالي سماتار علمي "ملحمة عرش إدريس/ The Epic of Cader Idris" تستعين بأسطورة عرش إدريس، أو كرسي إدريس، التي تزعم أن من يقضي ليلة عليه إما أن ينزل مجنونًا، أو شاعرًا. وهي تعيد "الملحمة" إلى فكرة القصيدة الغنائية الطويلة التي تحكي القصص. وعلى غرار سوس، تتحرك الموسيقى على طول الديوان لتعكس تجاربه الشخصية وتراثه الثقافي بنبرة تتراوح من السخرية "لو كنت أعرف ما يمكن أن يفعله اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة/ لبعت جهاز التلفاز خاصتي"، إلى الرعب "أعطيت رجل الخوص عود ثقاب"، إلى ما يشبه الخلود: "ما القصيدة إن لم تكن روح رجل مُلقى أمامها".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.