}

في مسؤولية الأشخاص الذين يحملون القلم (2/2)

ترجمات في مسؤولية الأشخاص الذين يحملون القلم (2/2)
مقبرة بوغوميل في راديملي

 


ترجمة وتقديم: إسكندر حبش

يشكّل النص الذي نترجمه هنا، للكاتب بريدراغ ماتفييفيتش، النص الذي أدى إلى الحكم عليه بالسجن لمدة عامين، بما في ذلك خمسة أشهر مع وقف التنفيذ، من قبل المحكمة العليا الكرواتية (زغرب). كان ذلك في عام 2005، بسبب معارضته الشديدة لسياسة كرواتيا وعملية تفتيت يوغوسلافيا (السابقة). وقد أثارت المقالة هذه - التي نشرت عام 2001- الكثير من النقاشات والإدانة، وبخاصة أنها حملت عنوانًا مثيرا للجدل هو "طالباننا" (من حركة طالبان)، حيث اتهم فيها كرواتيا بأنها مسؤولة عن جرائم الحرب المرتكبة في البوسنة والهرسك.

بريدراغ ماتفييفيتش من مواليد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1932 في موستار (البوسنة والهرسك، التي كانت جزءًا من يوغوسلافيا) وتوفي في 2 شباط/ فبراير 2017 في زغرب (كرواتيا)، هو كاتب أبحاث ومقالات لم يتوقف يوما عن اعتبار نفسه يوغوسلافيا، على الرغم من حصوله على الجنسية الإيطالية، حيث درّس في جامعاتها. 

هنا القسم الثاني والأخير: 

على بعد حوالي عشرة كيلومترات إلى الجنوب، على طول نهر النيريتفا، توجد بلدة بوسيتيلج الصغيرة، الموصوفة في أحد مقاطع [إيفو] أندريتش المتلألئة: "على الحجر، في بوسيتيلج". كان هذا الموقع في السابق مركزًا للحراسة التركية، وكان يحمي ممر النهر حيث يضيق بين تلتين تهيمن عليهما، من الجانب الأيسر، قلعة تقع على أحد هذه المرتفعات. كان في بوسيتيلج مسجد جميل، وحمام كبير، ومدرسة دينية قديمة، ومنازل ذات طراز خاص. وكان جميع السكان تقريبا من المسلمين. في الصيف، كان ذو الفقار جومهور، الملقب بـ "زوكو" وهو كاتب عمود ورسام موهوب، يأتي إلى هنا من أجل "التسلية". لقد قام هنا بتنظيم لقاءات للفنانين من جميع أنحاء العالم. ولحسن الحظ، فقد مات قبل أن يرى ذلك كله – فهو مسلم بالولادة ومواطن بلغرادي باختياره. المكان مهجور، والمسجد تحوّل إلى أنقاض، والمئذنة مدمرة. تفرق السكان حتى لا يتعرّضوا للقتل أولًا على يد الصرب الذين كانوا ينسحبون، ثم على يد الكروات الذين سيطروا بوحشية على المنطقة. لقد عادت عائلتان أو ثلاث عائلات قديمة لم تجد مكانًا آخر تلجأ إليه. دخلتُ منزلًا (وكانت السماء لا تزال تمطر)، وسلّمت على السكان، وسألتهم عما يعتاشون عليه، "تمر العربات من هنا. في بعض الأحيان يتوقف شخص ما ويشتري نباتات طبية نلتقطها من المرتفعات المجاورة. لقد بقيت ثلاث عائلات فقط بين الأنقاض". كانت هناك امرأة تمسك بيد طفل صغير ينظر حوله، بعينين عرفتا الخوف مبكرًا. في البداية قدموا لي رمانة جميلة، ناضجة، متفجرة، "إنها حلوة الطعم، يمكنك تذوقها".

يوجد للأسف صليبان ضخمان عند مدخلي بوسيتيلج. عندما كنت هناك قبل بضع سنوات، مع أصدقائي الإيطاليين، كان هناك ثالث، في أعلى البرج التركي. لقد قيل لي إنه بأمر من الكاردينال، تم سحبه هو فقط. كان السكان، كما قلت سابقًا، من المسلمين. والعائلات التي بقيت أو عادت، مسلمة بدورها. كل الديانات الأخرى، وليس الإسلام فقط، لديها أصوليوها.

* * *

أردت أيضًا أن يتم تصوير مقبرة بوغوميل الشهيرة في راديملي، بالقرب من ستولاش. التربة بين بوسيتيلج وكابلينا خصبة: تنمو هناك الكرمى وأشجار التين والرمان وأشجار اللوز وأشجار البرتقال وجميع النباتات والفاكهة وأعشاب البحر الأبيض المتوسط. توقف المطر وتخضبت رائحة أشجار الصنوبر بالرطوبة. أعرف ستولاش، حيث كان والدي في الخدمة لعدة سنوات، كان في المنفى بشكل من الأشكال. إنها مدينة صغيرة متناغمة، تقع على ضفتي نهر بريجافا، عند سفح التل حيث توجد بقايا برج من القرون الوسطى. لقد احتفظ المركز بالسمات الإسلامية المميزة: مسجد، منازل ذات أفاريز، نافورة مياه، نوافذ ذات قضبان، أفنية مبطنة بالحصى المستديرة. لم أكن أعلم أن ستولاش عانت كثيرًا قبل أن نصل إلى المكان الذي يقع فيه الجزء القديم من المدينة. لقد دمر "الكروات" كل ما له أي طابع شرقي، وطردوا العائلات المسلمة من منازلها، بل وذبحوا الكثيرين. وعندما حاول عدد صغير من السكان العائدين مؤخرًا إعادة بناء المسجد، طُردوا، تمامًا كما تصرّف "الصرب" في بانيا لوكا تجاه أولئك الذين أرادوا إعادة بناء مسجد فرهاديا. أشار أحد أصدقائي، وهو أستاذ في الولايات المتحدة، إلى أن ما حدث في فوكوفار حدث هنا أيضًا: "فوكوفار الكرواتية".

عند مدخل مقبرة الــ بوغوميل كان هناك فيما مضى مبنى متواضع حيث يمكن شراء تذاكر الدخول والبطاقات البريدية، وكتب عنهم بلغات مختلفة، وشرب كوب من الشاي والاستراحة. لقد دُمر. وعلى أحد أجزاء الجدار الذي لا يزال قائما كتب مؤمن غيور: "لا نريد هراطقة". أذكّر مجموعتي من الأجانب بأن ميروسلاف كرليزا، بعد عام 1948، عندما كنا في أشد الفترات خطرًا، أكد على أن انتماءنا الحقيقي تجلّى هنا: "لا بيزنطة ولا روما، انتماء ثالث". لا يزال بإمكاننا قراءة أسماء أسلافنا غير المعروفين: ميوغوست، بولاسين، براتوفيتش. بعضها مكتوب بالأبجدية السيريلية البوسنية. الستيكاكس (stecaks) ثقيلة والديناميت باهظ الثمن. ربما هذا هو سبب عدم إزالتها أو تدميرها. بقيت في مكانهما طويلًا، بالقرب من أشجار السرو التي تتمايل في الريح وتراقبها. لا يوجد أحد بالجوار، لم أر سوى شخص بسيط يمشي هنا ذهابًا وإيابًا بعصبية بين الكتل الحجرية، ويتحدث إلى نفسه. طلبت من طاقم التلفزيون تصوير كل هذا. غادرنا المكان، في حالة من الذهول. حدث هذا في نهاية رحلتي الأولى وشهادتي لبرنامج "آرتي".

لا يمكن لسراييفو أن تنسى بسهولة هذا العدد الكبير من مواطنيها، الذين ذبحوا بالرصاص في شارع فاسو ميسكين شرني، بينما كانوا ينتظرون قطعة خبز


رحلتي الثانية، مع ضيوف "مركز أندريه مالرو"، انتهت في بلاغاي، عند منبع نهر البوسنة، "نهر جليدي كالثلج وصافٍ كالدمعة"، كما أشار مؤرخ قديم. ومرة أخرى، أعيد افتتاح "التكية" (دير الدراويش)، حيث يدخل المرء بدون حذاء، وتكون النساء مغطاة الرؤوس بحجاب. ومن الغريب أنه لم يعانِ أحد هنا، ولم يتم تدمير المكان نفسه حيث أنشأ النرويجيون مزرعة أسماك للمساعدة؛ والتي أثبتت أنها مربحة لهم أيضًا. العشرات من أصدقائي، من البوسنة وصربيا، وأجزاء مختلفة من أوروبا الشرقية، لا يستطيعون شراء وجبة مقتصدة، تتكون من سمك السلمون المرقط الذي يتم استزراعه هنا وكأس من النبيذ الأبيض، من الهرسك. يا لبؤسنا!

عدنا إلى سراييفو مرة أخرى عن طريق "القطار بدون جدول زمني". كان معنا في القاطرة فريق من صحافيي المجلة الأسبوعية المعارضة "فيرال تريبون". كانت هذه الصحيفة من بين الصحف القليلة التي تمكنت فيها، في عهد تودجمان، من نشر مقالات عن بلدي من دون إخفاء رأيي في قادتها. لقد حافظ على شرف المدينة التي ميزت نفسها بمقاومتها للفاشية، والتي ألقى عليها عار هذه الفاشية بظلالها مرة أخرى. فرد "الفيراليون" خلال الرحلة منشوراتهم. قمنا بغسلها بالكونياك الذي اشتريته من المطار لأخذه إلى أصدقائي في البوسنة. أهدوني كتابين قيمين: "رسائل إلى جريدة العاصمة" بقلم أريستيد تيوفانوفيتش (الذي كتب لي الكثير من الرسائل العبثية)، و"الباني اللعين" بقلم بوغدان بوغدانوفيتش، عمدة بلغراد السابق. يعيش هذان المؤلفان حاليًا في الهجرة، الأول في أمستردام، والثاني في فيينا. التقينا في جميع أنحاء العالم، وأصبحنا أصدقاء في بلدان أجنبية.

استقرت هذه المجموعة من "المسافرين المذهلين" (هذا المقطع من شعر بودلير الذي نقله المنظم الفرنسي) عند عودتهم، مع محرري "فيرال"، في العربة حيث "سكبوا ليشربوا". كنا نأتي من كل مكان. نقف أمام المشرب. نحتسي النبيذ الأحمر والأبيض أو الــ زيلافكا أو الــ بلاتينا. بدأنا نغني بأعلى صوتنا أغاني من مناطق مختلفة من البلد الذي كنا نعيش فيه حتى وقت قريب معًا، الذي كنّا نعرفه جميعًا. كم أصبح تعسا هذا البلد الذي لم يعد مضطرًا أو لم يعد يعرف كيف يغني الأغاني معًا. ما يهمني ليس أن ننشئ مرة أخرى دولة أو نظامًا يمكن أن يكون أفضل مما كان عليه، بل التواصل والصداقة التي لا يمكن لأي شيء أن يحل محلها.

حتى وقت متأخر من الليل بقينا معًا في سراييفو. مدينتنا المدمرة لم تعد موجودة بالنسبة لنا.

في اليوم التالي عدنا إلى جديتنا مرة أخرى. يقترب مني كاتب، "مواطن"؛ ويذكرني بأنني تحدثت "بقسوة شديدة" عن الجرائم الكرواتية في الهرسك. أخبرته أنه لم يفهم شيئًا أساسيًا واحدًا: إن التحدث "بكل هذه القسوة" كان في نفس الوقت استفزازًا. نعم، أريد أن أستفز الكتّاب الصرب أو البوسنيين أو المونتينغريين أو أي شخص آخر، ليقولوا بنفس الطريقة ما كان ينبغي أن يقولوه عن الشر الذي ارتكبه شعبهم. كان بين يدي مقالة نشرت مؤخرًا في بلغراد عبر "ميثاق هلسنكي"، تتحدث عن المسؤولية التي يتحملها ميلوسيفيتش وكارادزيتش وملاديتش وغيرهم من المحاربين الصرب تجاه صربيا الكبرى التي تمتد إلى خط كارلوباغ - أوغولين - كارلوفاك - فيروفيتيكا، عن قصف سراييفو، ودوبروفنيك، الذي استمر ثلاث سنوات ونصف السنة، عن حرق كونافليي، وتدمير فوكوفار، وذبح سبعة آلاف مدني في سريبرينيتشا، ومعسكرات الاعتقال في كيراتيرم، وأومارسكا، وترنوبوليي، ومانياكا، وجثث الأطفال الرضع والفتيات الألبانيات اللاتي يظهرن عند الانجرافات من الغرف الباردة، عن نهر الدانوب والحفر القريبة من قوات الشرطة في محيط بلغراد، عن مقتل آلاف الشباب أو الذين أصبحوا معوقين في حروب "لم تشارك فيها" صربيا.... عن الكنيسة الصربية الحصرية، غير المتسامحة، الصارمة والرجعية، إلخ. هذا النص كتبه ووقعه أحد الصربيين.

حتى وقت متأخر من الليل بقينا معًا في سراييفو؛ مدينتنا المدمرة لم تعد موجودة بالنسبة لنا (Getty)


لا يمكن لسراييفو أن تنسى بسهولة هذا العدد الكبير من مواطنيها، الذين ذبحوا بالرصاص في شارع فاسو ميسكين شرني، بينما كانوا ينتظرون قطعة خبز، أو في سوق ماركالا، حيث جاؤوا لشراء حفنة من البطاطس: الجثث المقطعة، الميتة على الفور، أو الأشخاص المحتضرين الذين كانوا يحاولون نقلهم إلى المستشفى حيث لم يعد هناك مكان، والجروح النازفة وبرك الدماء على الرصيف، والآهات التي لم يعد من الممكن استرضاؤها. وبعد ذلك كله، نتذكر جميعا الأخبار الكاذبة والمخزية، التي تزعم أن البوسنيين فعلوا كل هذا بأنفسهم، من أجل لفت انتباه العالم. والأكثر فظاعة، بل الأكثر خزيًا من ذلك، هو فكرة هذه الأخبار وهذه الأكاذيب التي حاول مروجّو النظام نشرها بكل الوسائل: إن نية قيادة شخص ما لقتل نفسه كانت أسوأ من قتله.

إن الأشخاص الذين يحملون القلم يتحملون الكثير من اللوم في كل هذا. سيكون من الجيد لو أن هناك محكمة خاصة، ليس فقط محكمة لاهاي، بل محكمة أخرى أعلى وأفضل وأشد قسوة من محاكم الشرف التي حكمت، بعد الحرب العالمية الثانية، هنا وفي أوروبا على الكتّاب الخائنين. فلتحكم محكمة مماثلة أمام الرأي العام على كل من يتحمل المسؤولية عن كل ما حدث، وقبل كل شيء تنطق بأسمائهم كلها: اسم من قام منذ البداية بإعداد وتعليم "الزعيم" (دوبريكا كوسيتش وأتباعه)، الذي دعم وحمى "الزعيم" واستخدم قلمه الحاد لتبرير العدوان على البوسنة (إيفان أراليكا، على سبيل المثال)، من وضع الميكروفون على ذقن عازف الغوسل ومجّد مآثره أثناء قصف سراييفو (مومو كابور). كذلك كل الآخرين الذين وقفوا إلى جانب الجريمة وشجعوها وأخفوها وبرروا لها بكل الوسائل وما زالوا يحاولون تبريرها: ماتيا بيكوفيتش الذي وضع في ذلك حدًا لموهبته، ونوغو بغموضه الكاريكاتوري، المدافع عن بوبان وتوتين أنجيلكو فيوليتيك، مايل بيسوردا، الذي ذهب إلى حد تسمية زملائه الذين بقوا في سراييفو تحت قنابل شيتنيك بـ "المتصربنين"، ومعهم كثيرون آخرون.

سوف يتعيّن على بعض البوسنيين والبوشناق، على الرغم من أن شعبهم عانى أكثر من غيره، التحدث عمّا حدث في جرابوفيتشا وسيليبيسي وبرادينا وبوسوفاكا ومن يدري في أي مكان آخر، عمّا فعله مجرمون مثل سيلو وريساتسا. كل هذا لم يكن مبررًا.

تمامًا كما وضع الكتّاب الألمان بعد الحرب العالمية الثانية، من دون أن يخلو الأمر من المخاطرة، مرآة أمام وجه أمتهم وحاولوا أن يظهروا لها ما فعله النازيون باسمها، يجب علينا أيضًا، في وقت أو آخر، أن نتصرف بنفس الطريقة. 

قليلون منا يفكرون في النظر إلى أنفسهم في مرآة التاريخ، خوفًا من صورتهم. يتجنّب الكتّاب(؟) مثل هذا العمل الناكر للجميل. إن المثقفين الوطنيين لا يرغبون في النظر إلى أمتهم بهذه الطريقة. إن القادة الجدد، مثل القادة الأكبر سنًا، يقدّرون القوة قبل كل شيء، أما بالنسبة لنا، فإننا غالبًا ما نسلّط الضوء على جرائم الآخرين، بينما نخفي جرائمنا. وإلى أن ينغلق الجميع على أنفسهم ويشككون في ضميرهم، لن يكون هناك وعي حقيقي أو تنفيس صادق. 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.