}

هل علينا التفكير بالحظّ على نحوٍ مختلف؟

ترجمات هل علينا التفكير بالحظّ على نحوٍ مختلف؟
(The Guardian©)


ترجمة: لطفية الدليمي

قريبًا من منتصف نهار التاسع عشر من آب/ أغسطس عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست إلى مانشستر، اصطدمت بجبل في منطقة سادلورث مور في مقاطعة بيك قريبًا من مدينة أولدهام. مات جميع أفراد طاقم الطائرة الثمانية فضلًا عن واحد وعشرين من المسافرين التسعة والعشرين بفعل التأثير المباشر لإصطدام الطائرة بالأرض أو بعده بفترة وجيزة كنتيجة لمفاعيل خطيرة في أجسادهم نجمت بعد الإصطدام. نجا ثمانية مسافرين، بينهم صبي صغير ووالداه؛ لكنّ الابن الأصغر للعائلة لم ينجُ معهم. الصبي الناجي من هذا الحادث المميت صار فيما بعدُ صديقي وزميلي في قسم الإحصاء بالجامعة، وأحد كبار الإحصائيين على مستوى العالم. إنّه البروفسور ستيفن إيفانز.

أعتقدُ أنّنا لن نختلف بشأن أنّ صديقي ستيفن كان محظوظًا. لكن ما الذي نعنيه بِـ "الحظّ" Luck؟ قد نقول إنّ شخصًا ما كان محظوظًا أو سيء الحظّ على أساس مدى انتفاعه أو ضرره من شيء غير متوقّع أو خاضع للتنبؤ المسبق Unpredictable ويقع خارج نطاق سيطرته. تأسيسًا على هذا الفهم يُطلقُ على الحظ "عملية مصادفة حصلت على مستوى شخصي".

يأتي الحظ في ثلاثة أشكال رئيسية. حدّد الفلاسفة الحظ الظرفي Circumstantial Luck بأنّه الحظ الناجم عن التواجد في المكان المناسب في الوقت المناسب، أو على العكس من ذلك: التواجد في المكان الخطأ في الزمان الخطأ (مثال ذلك قرار عائلة صديقي ستيفن إختيار الرحلة على تلك الطائرة البريطانية المنكوبة). ثمّ هناك الحظ الناجم عن محصلة عوامل مختلفة Resultant or Outcome Luck، حيث يكون نصيب بعض الأفراد في موقف بذاته حظًا طيبًا؛ في حين ينال أفراد آخرون يتشاركون الموقف ذاته حظًا سيئًا، وكلّ هذا يحصل بسبب عوامل خارجة عن نطاق سيطرة ذوي الحظ الطيب أو السيء. كان الحظ الطيب هو الذي ناله ستيفن في رحلته الجوية؛ ممّا مكّنه في البقاء على قيد الحياة.

لكن ربّما يكون الحظّ الأكثر أهمية بين كلّ أشكال الحظ هو الحظ التكويني Constitutive Luck، ومنشأ أهميته الفائقة أنّه يغطّي جميع الظروف الطيبة أو السيئة التي يمكن أن تحصل في شكل حياتك ذاتها: في أيّة مرحلة تاريخية ولِدْتَ؟ ومن هم والداك؟ ما خلفيتك المجتمعية؟ وما طبيعة جيناتك التي تحدّدُ سمات شخصيتك؟ لنتساءل هنا: كيف خدم الحظ التكويني ستيفن؟ يكمن الجواب فيما أخبرني به ستيفن من أنّ تجارب والده في سلاح الجو الملكي البريطاني RAF دفعته إلى الإلحاح على جلوس العائلة في مؤخرة الطائرة. المثير أنّ كلّ الناجين الثمانية من الحادثة المميتة للطائرة كانوا بين الجالسين في الخلف. كان لستيفن والد مناسب بخواص محدّدة وخبرات مفيدة أنقذته هو وزوجته وأحد أبنائه من موت مؤكّد. إنّه حظ تكويني طيب.

هاكم مثالًا آخر يستحقُّ التفكّر الدقيق فيه. في ليلة أعياد الميلاد عام 1971 كان الحظ السيء نصيب الآنسة جوليان كوبكي ذات السبعة عشر عامًا؛ فقد كانت واحدة من المسافرين على رحلة لانسا رقم 508 عندما ضربتها صاعقة برقية فوق غابات الأمازون؛ فخرجت من الطائرة وهي لم تزل مقيّدة بمقعدها نحو المحيط الخارجي، وهوت من إرتفاع 3000 متر (9800 قدم)؛ وبرغم ذلك فإنّ حظًا طيبًا هو الذي أنقذها من موت مؤكّد عندما حجبتها مظلّة كثيفة من أشجار الغابة الأمازونية من الارتطام العنيف بالأرض. نجت الآنسة جوليان كوبكي في الوقت الذي مات فيه تسعون مسافرًا كانوا على متن الطائرة، وكانت والدتها واحدة بينهم. تمامًا على شاكلة ستيفن في مثالنا السابق، كانت جوليان محظوظة لأنها نشأت في رعاية والديها اللذيْن كانا باحثيْن في علم الطيور Ornithology، وقد أمضيا شطرًا من حياتهما صحبة إبنتهما في جوف غابات الأمازون؛ لذا كانت جوليان تمتلك المهارات اللازمة للاعتناء بجروحها وتطبيبها بالمتاح من الإمكانيات البيئية المحلية، بل وأكثر من هذا استطاعت - مسترشدة بمهاراتها السابقة أيام نشأتها- المشي أحد عشر يومًا وحيدة حتى وجدت معسكرًا قدّم لها الرعاية المناسبة.

لو تناولنا الساحة السياسية لوجدنا أنّ القادة السياسيين يشعرون بدافع ملحّ للتعبير عن الثقة المفرطة والكاملة في آثار ما يفعلون؛ لكنّهم لو علموا بطبيعة الدور الرئيسي للصدفة فيما يحدث فربما قد يحاولون عزو قدر أكبر من المرونة في مواجهة ما هو خارج نطاق التوقّع (بمعنى يجب أن يتواضعوا ولا يثقوا ثقة عمياء في قدراتهم السياسية الشخصية- المترجمة). يمكن أن يكون هذا التواضع السياسي ذا قيمة كبرى حتى على المستوى الشخصي. نعلم أنّ السياسيين (وعامة الناس) يميلون للمبالغة في تقدير جهودهم عند كلّ نجاح يحققونه، وفي الوقت ذاته يميلون لنفخ حجم مهاراتهم المكتسبة بعد كلّ تجربة شخصية؛ في حين أنّهم يتناسون أهمية إبداء إمارات الشعور بالامتنان والتقدير لحظّهم التكويني قبل كلّ شيء.

على المستوى الشخصي أظنّني محظوظًا للغاية بشأن الوقت والمكان والعائلة حيث ولِدْتُ؛ لكنّ هذا الحظ يمكن أن يكون شكلًا رابعًا من الحظ، أهمّ من كلّ أشكال الحظوظ السابقة. إنّه الحظ الوجودي Existantial Luck: أي وجودي الدائم (غير الظرفي أو المؤقت) وسط عائلة ما، أو بترتيب مجتمعي ما، أو وضع اقتصادي ما. نشأنا جميعًا عبر سلسلة غير عادية من الأحداث العشوائية التي كان ممكنًا وبكلّ يسرٍ أن تتّخذ مسارًا آخر تمامًا. ببساطة: لو ولدْتَ في كنف عائلة ثرية أرستقراطية، ما الذي يمنع ولادتك في عائلة مدقعة الفقر تُعاملُ بأشدّ أشكال الاحتقار في مكان قصيّ من هذا العالم لم يسمع به أحد؟

ربما لم تكن البشرية لتوجد أصلًا لو لم يرتطم كويكب Asteroid بالأرض قبل ستة وستين مليون سنة (Getty)


كان جدّي محظوظًا لأنّ سنّه أهّله للانضمام إلى الجيش البريطاني مع بداية الحرب العالمية الأولى، وانتهى به الأمر ضابطًا مسؤولًا عن الوقاية من الغازات السامة في اللواء البريطاني 104 حيث كان يتفقّدُ الدفاعات المتّخذة بالضد من الغازات السامة والأسلحة الأخرى شمال قرية باسينديلين في منطقة إيبرس في بلجيكا على الجبهة الغربية. كثيرًا ما تنقّل جدّي بين الطرق والخنادق التي كانت أهدافًا مباشرة للمدفعية الألمانية، وفي الأسابيع الستّة التي أمضاها في منصبه سجّل في مذكّراته عبارات مختلفة تشي بحظّه الطيب في الإفلات من قبضة الموت، وحوت مذكراته عبارات على شاكلة: نجوت بمشقة في رحلة العودة، كنت محظوظًا بالوصول في الوقت المناسب، قصف مدفعي بدا أنّ لا أحد سينجو منه. في 29 يناير/ كانون الثاني 1918 نفد الحظ الظرفي لجدّي؛ فقد أصيب بجروح مميتة، ونُقِل إلى محطّة إخلاء الضحايا 64. لم يمُت جدّي.

لكنّ محصّلة الحظ الطيب الذي حالف جدّي كان في صالحه برغم إصابته المميتة التي نجا منها؛ فقد تمّ تصنيفه وفقًا للوائح الجيش البريطاني بأنّه غير لائق للمهام الشاقة في الخطوط الأمامية من جبهة الحرب. في الوقت ذاته نُقِلت كتيبته القديمة (فوج لانكشاير الثامن عشر) إلى منطقة السوم شمال فرنسا والتي كان مفترضًا فيها أنّها منطقة هادئة تصلح لأن تكون واحة استراحة من معارك عام 1916 التي قضى فيها حوالي مليون ضحية. وصلت كتيبة لانكشاير منطقة السوم في وقت سيء تمامًا؛ إذ واجهت الهجوم الربيعي الألماني واسع النطاق عام 1918. خاضت الكتيبة معركة يائسة خسرتها، ثمّ بذل مقاتلوها أقصى جهودهم لإستعادة ما خسروه من أراضٍ لكنّهم فشلوا وتكبّدوا خسائر مفجعة.

من المؤكّد لو سقطت واحدة من تلك القذائف الألمانية في موضع أقرب قليلًا من جدّي، أو لو كان جدّي مكلّفًا بقيادة جنوده في معركة السوم لما كنتُ هنا لأروي هذه الحكاية. هذه ليست سوى حكاية واحدة من سلسلة طويلة لحكايات كثيرة قادت إلى وجودي لأكون ما أنا عليه اليوم: أسِرَتْ والدتي من قبل قراصنة في الصين ثمّ هربت من شنغهاي عام 1937 تحت وابل شديد من القذائف. التقى والدي بوالدتي أثناء الحرب (العالمية الثانية) وكان والدي حينها يشتغل على مشروع لتجنّب حوادث تحطّم الطائرات أثناء عمله في سلاح الجو الملكي البريطاني، ثمّ بلغ به الأمر حدًّا اقترب فيه من الموت بسبب داء السل. عندما ضربت موجة فظيعة من البرد المملكة المتّحدة في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1952 كان والداي يعيشان في كوخ حجري لا يحوي شيئًا من الأمتعة (مثل التلفاز أو المذياع). بالكاد كانا ينالان نصيبًا ضئيلًا من التدفئة التي تمنع عنهما غائلة الموت بردًا. لم يكن لديهما ما يفعلانه سوى الذهاب مبكرًا للنوم بسبب المفعول اللذيذ للتدفئة وسط البرد. أظنّني كنتُ نتاجًا لواحدة من ليالي الحب الحميمة بينهما وسط الدفء اللذيذ في ذلك الكوخ البعيد.

في مستطاعنا الذهابُ إلى حدود أبعد مما فعلنا حتى الآن في التفكّر بحظّنا الوجودي. ربما لم تكن البشرية لتوجد أصلًا لو لم يرتطم كويكب Asteroid بالأرض قبل ستة وستين مليون سنة؛ الأمر الذي تسبّب في تغيير مناخ الأرض، وموت الديناصورات وانقراضها، وفي الوقت ذاته سمح للثدييّات بالتطوّر. الحياة من جانبها لم تكن لتنال فرصة للانبثاق والتطوّر لو لم يكن كوكب الأرض مستقرًّا على نحو ساعد في تشكيل الحياة واستمراريتها وتطورها بالشكل الذي نعرف على مدى مليارات السنين. إنّ كوننا بكامله لم يكن ممكنًا أن يكون له وجود لولا الحظ الكوني Cosmic Luck المتمثّل في وجوده داخل نطاق غولديلوكس (1) Goldilocks وما ترتّب على هذا الوجود من أن تكون نسبة المادة إلى المادة المضادة ذات قيمة تسمح للأشياء بالاندماج بعد الانفجار الكبير The Big Bang.

من البداهة القولُ إنّنا ما كنّا نستطيع أن نوجد في هذا العالم وهذه اللحظة لنتأمّل حظّنا السعيد لو لم تحدث سلسلة طويلة عشوائية وصدفوية من الأحداث، وهذا التحيّز للبقاء Survivorship Bias من جانب هذه الأحداث بدلًا من خيار التحيّز للفناء، يعني أنّ الحديث عن احتمال وجودنا في هذا الكون يمثلُ تحدّيًا فلسفيًا مستعصيًا، وأرى أن لا منفعة ترتجى منه. ربما يتوجّبُ علينا في أقلّ تقدير أن نمتلك خصيصة التواضع إزاء الأهمية المفترضة التي نخلعها على أنفسنا. لنفكّرْ قبل أي شعور بالغطرسة والتفوّق: هل تساءلنا كم هي هشّة هذه السلسلة من الأحداث التي قادت لوجودنا في هذا العالم؟ كان يمكن ببساطة أن لا نكون.

لنختصر الأمر علينا. متى ما قبلنا الاعتراف بشكل صحيح ومتماسك بحظنا الوجودي والتكويني فحينها سنواجه مهمّة شاقة لكنّها مكتنفة بأمل عريض: ضرورة أن نحاول تحقيق أقصى استفادة من الفرصة الغريبة والنادرة التي مُنِحَت لنا.


قراءات إضافية:

- Fluke: The Maths and Myths of Coincidences by Joseph Mazur (John Murray)
- On the Edge: The Art of Risking Everything by Nate Silver (Allen Lane)
- The Mathematics of Love by Hannah Fry (Simon & Schuster) 

1. يمكن إختصار المقصود بهذا المبدأ في العبارة التالية: يجب أن تكون الظروف مناسبة لأي نوع من التعقيد حتى يتشكل أو يستمر في الوجود (المترجمة)

* (سير) ديفيد سبيغلهالتر  Sir David Spiegelhalter: حاصل على لقب الفروسية البريطانية، وأستاذ متمرّس للإحصاء في جامعة كامبردج. أحدث كتبه المنشورة هو كتاب "فنّ اللايقين: كيف نتعامل مع الصدفة والجهل والمخاطرة والحظ" The Art of Uncertainty: How to Navigate Chance, Ignorance, Risk and Luck. الكتاب منشور بتاريخ 24 سبتمبر (أيلول) 2024 عن دار نشر Pelican.   

- الموضوع المترجم أعلاه منشور بتاريخ 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) في صحيفة (غارديان The Guardian) البريطانية ضمن سلسلة The Big Idea الأسبوعية. العنوان الأصلي للمادة المنشورة باللغة الإنكليزية:  

Should we be thinking about luck differently?  

     

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.