}

استعادة مفهوم الطبيعة البشرية

فرانسيس فوكوياما 14 أكتوبر 2025
ترجمات استعادة مفهوم الطبيعة البشرية
(Getty)

 

ترجمة: سارة حبيب

 

لطالما كانت الطبيعة البشرية مفصلية في تطوّر الفلسفة السياسية الغربية، وبالتالي تطوّر السياسة. في "الجمهورية" تساءل سقراط عمّا ينطبق على البشر "بطبيعتهم"، وما هو اعتيادي فحسب. العادات عرضة للتغيير ويمكن أن تشكّلها المجتمعات عمدًا، في حين أن الطبيعة البشرية تتمتع بديمومة تعطيها أولوية فيما يخص الغايات البشرية. على سبيل المثال، تتنوع اللغات البشرية عبر الثقافات، لكن ملَكة اللغة مشتركة بين أفراد كل الثقافات، إغريقية كانت أو بربرية (غير إغريقية)، والقدرة على استخدام اللغة كانت على الدوام مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعقل البشري والتنظيم الاجتماعي.

توماس هوبز، أحد مؤسسي الليبرالية الحديثة، بدأ كتابه "اللفياثان" بقائمة شاملة للانفعالات البشرية، وهو ما يمكن اعتباره فهمَه للطبيعة البشرية. وعُرف عن هوبز تأكيده على عدم وجود قواعد أخلاقية طبيعية، وأن حرب "الكل ضد الكل" أدت إلى حالة من العنف وعدم الأمان جعلت الحياة "بغيضة، فقيرة، همجية وقصيرة". بدورها، كانت هذه الحالة نتاج انفعالين بشريين رئيسيين، الرغبة بـ"الربح" أو بالموارد الأثيرة عند الاقتصاديين، إنما كذلك الرغبة بـ"المجد" - أي، بتقدير الآخرين لقيمة المرء بوصفه متفوقًا. ورغم أن هوبز لم يستخدم مصطلح أفلاطون "الثيموس"، فذلك هو ما كان يتحدث عنه، وعلى وجه الخصوص، مخاطر الميغالوثيميا: رغبة المرء بأن يُعترَف به على أنه متفوق على البشر الآخرين.

بالتالي، توصيف هوبز للطبيعة البشرية يفضي مباشرة إلى فهمه للسياسة. عنف حالة الطبيعة يغذّي الانفعال الطبيعي الأقوى، الذي هو الخوف من الموت العنيف. وهذا يشكّل أساس مناقشته بأن "أول حق في الطبيعة" هو حق المرء بحفظ حياته. في الحالة الأناركية للطبيعة، لا يستطيع البشر تجنب تهديد حيوات واحدهم الآخر. بالتالي، اللفياثان، أو الدولة، كانت ضرورية لخلق ميثاق اجتماعي تخلى بفعله كل شخص عن القليل من الحرية الطبيعية لأجل حفظ حياته أو حياتها. الأمان الناجم عن عدم الخوف من الموت العنيف كان انفعالًا أقوى من، لنقل، الرغبة بعطلة صيفية ممتعة أو بأسبوع عمل من أربعين ساعة، ولذلك كانت له الأولوية في هرمية الحقوق الأساسية. "الحق بالحياة" عند هوبز هو سلف الحق بـ"الحياة، الحرية، والسعي لتحقيق السعادة" عند توماس جيفرسون الذي أكده في إعلان استقلال الولايات المتحدة الأميركية. وكان هذا تقليد "قانون طبيعي" يمتد من أرسطو إلى توما الأكويني مرورًا بهوبز، لوك، والآباء المؤسسين الأميركيين.

فهمنا هوبز فهمًا صحيحًا باعتباره أحد مؤسسي الليبرالية الحديثة، رغم أن اللفياثان خاصته بالكاد ينطبق على ما قد نصفه اليوم على أنه دولة ليبرالية. معظم الجدالات السياسية الكبرى في القرون اللاحقة كانت تدور حول ضروب فهم بديلة للطبيعة البشرية، وبالتالي لأنواع النظم السياسية التي كان يجب أن تُشتَّق منها. على سبيل المثال، جون لوك، الذي كان ذا تأثير هائل على الآباء المؤسسين الأميركيين، كانت له نظرة أقل قساوة للطبيعة البشرية تضمنت ميلًا طبيعيًا لاكتساب الممتلكات، ولجعلها أكثر إنتاجية. نشأت الملكية الخاصة عندما اجتمع عمل البشر مع "أشياء الطبيعة عديمة القيمة تقريبًا"، وأصبحت أساس التبادل التجاري في السوق وبالتالي أساس النمو الاقتصادي. أما جان جاك روسو فعارض هوبز صراحة، مناقشًا أن "الإنسان الطبيعي" لم يكن عنيفًا أو جشعًا، بل بالأحرى كائنًا خجولًا ومنعزلًا يحمل في داخله القدرة على تحقيق السعادة. ولم تحدث الشهوة للموارد وللمجد التي وصفها هوبز إلا عندما تجمّع البشر الأوائل في مجتمعات وبدأوا مقارنة واحدهم بالآخر. المجتمع وليس الطبيعة البشرية كان إذًا مصدر المنافسة، العنف، والشعور بالحسد. ولا يمكن استعادة السعادة البشرية إلا باسترجاع "الإنسان الطبيعي" الأصلي الذي يقبع خلف العادات والضغوطات التي خلقها "مجتمع" خارجي.

الافتراضات المتباينة حول الطبيعة البشرية ممثلة بهوبز وروسو لها تبعات كبيرة على المناقشات المعاصرة حول البيئوية (حركة المحافظة على البيئة) وعلى طبيعة السعادة البشرية، في الواقع. قدم هوبز نسخة مدنية من العقيدة المسيحية حول الخطيئة الأصلية: البشر بطبيعتهم جشعون، جبناء، عنيفون، ومتعجرفون؛ اجتماعهم في ظل عقد اجتماعي هو وحده ما أبقى هذه الانفعالات الطبيعية تحت السيطرة. روسو، بالمقابل، عكسَ تكافؤ الداخل والخارج: البشر طيبون بطبيعتهم؛ دخولهم في المجتمع هو وحده ما أفسدهم وجعلهم تعساء. يتشارك الافتراضَ الروسويّ اليوم العديدُ من الأنثروبولوجيين والبيئويين الذين يميلون إلى الاعتقاد بأن المجتمعات الأصلية أكثر مسالمة ومحافظة على البيئة من الغرب الصناعي الحديث.

كذلك، خلال القرنين الماضيين، تشارك الكثيرون في المجتمعات الغربية الليبرالية افتراضَ روسو حول "الطيبة الطبيعية للإنسان". وهذا صحيح بقدر ما يقدّرون الأصالة الداخلية، ويعتقدون أن ضغوطات "المجتمع" هي ما يكبح تلك الأصالة ويحرمهم السعادة التي كانوا ليستمتعون بها بشكل طبيعي. في عالم هوبزي، التقدم في العمر يقتضي قبولَ حقيقة أن المرء لا يستطيع القيام بكل ما يرغب به، وأن الحياة الناجحة تتطلب اتباع القواعد الاجتماعية. بالمقابل، في عالم روسوي، الذات الداخلية تسعى باستمرار للتحرر من القيود الاجتماعية الخانقة، سواء أكانت هذه الأخيرة مفروضة من قبل الدولة، أو ببساطة من قبل العرف الاجتماعي.

رغم اختلافهم فيما بينهم، نظرياتُ مفكري بدايات العصر الحديث هؤلاء حول الطبيعة البشرية وضعت أساس الليبرالية الحديثة. هوبز، لوك، وروسو افترضوا جميعًا أن حالة الطبيعة كانت مؤلفة من أفراد منعزلين يسعون وراء غاياتهم الخاصة، وأن المجتمعات البشرية لم تنشأ إلا في وقت لاحق حين وافق البشر على التعاون كوسيلة لتحقيق تلك الغايات. الشكل الطبيعي الوحيد للمجتمع البشري كان العائلة، حيث قادت الرغبة الجنسية الرجالَ والنساء إلى الاعتماد المتبادل. وهذه النظرة لا تزال تشكّل جوهر الاقتصاد الحديث الكلاسيكي- الجديد: الافتراض الأساسي هو أن البشر عقلانيون يعظّمون المنفعة واستطاعوا أن يفهموا أن بوسعهم زيادة رفاهيتهم الفردية بالعمل معًا. ولاحقًا، سيغدو هذا أساسَ نظرية مانكور أولسون عن الفعل الجماعي المستخدمة على نطاق واسع، حيث التعاون الاجتماعي تحفزه دوافع فردية في المقام الأول. في توصيف جون لوك للزواج والتكاثر، لا تستند العائلة إلى روابط عاطفية تنجم عن الطبيعة البشرية، بل هي بالأحرى اتحاد طوعي مبني على حساب عقلاني لمنفعة ذاتية بعيدة الأجل.

بالتالي، الفردانية البدائية هي افتراض حول الطبيعة البشرية يشكّل صلب الليبرالية الحديثة، السياسية والاقتصادية.  في هذا الصدد، خالف الليبراليون نظرةَ أرسطو القائلة بأن الإنسان "حيوان سياسي" بطبيعته، لا يمكنه أن يعيش حياة مزدهرة إلا في مدينة. وهذا الافتراض الفرداني هوجم مباشرة من مفكري اليسار، بدءًا بكارل ماركس الذي اعتبر أن البشر بطبيعتهم كائنات سياسية تسعى إلى غايات جماعية لا فردية. أما الفردانية الليبرالية فكان يُنظر إليها على أنها ظاهرة مشروطة تاريخيًا ظهرت مع نمو الرأسمالية الحديثة، إنما شوَّهت ضروبَ فهم السعادة البشرية تشويهًا كبيرًا.

هوبز ربما كان أقرب إلى الحقيقة من روسو فيما يخص ميول البشر الأوائل تجاه العنف


لم تهاجم الافتراضات الفردانية لليبرالية من اليسار فحسب، إنما من اليمين أيضًا. المنظّر القانوني الإنكليزي العظيم هنري مين سبق وأشار في منتصف القرن التاسع عشر إلى أن ما يُعرَف عن المجتمعات المبكرة يناقض الافتراض الفرداني: لم يكن هنالك وقت، حسب ما أظهرت السجلات التاريخية، لم تكن فيه المجتمعات البشرية موجودة. لم تكن هنالك فترة في التاريخ تتسم بالأفراد المنعزلين الذين تحدث عنهم هوبز، لوك، وروسو. وباتباع تشارلز داروين ونظريته التطورية، أصبح أكثر وضوحًا بحلول القرن العشرين أن أسلاف الجنس البشري من غير البشر عاشوا أيضًا في مجموعات اجتماعية على درجات متفاوتة من التعقيد. لكن، ما ميّز نقاد الفردانية الليبرالية من الجناح اليساري عن نقادها من الجناح اليميني هو نوع المجموعة الاجتماعية التي قالوا إن البشر انجذبوا إليها بشكل طبيعي. بالنسبة إلى ماركس وأتباعه في اليسار، كانت تلك المجموعات هي طبقات اجتماعية كبيرة مثل البرجوازية والبروليتاريا، أو، في نهاية التاريخ الماركسي، الدولة الشيوعية. بالنسبة إلى اليمينيين من يوهان جوتفريد هيردر إلى أوسفالد شبينغلر إلى المحافظين الوطنيين المعاصرين، كانت مجموعات ثقافية من القبائل إلى الأمم إلى الحضارات. وفي حين كانت المعتقدات المحددة التي تشكّل أساس الثقافات المختلفة متغيرة، كان ثمة ميل بشري طبيعي لإنتاج الثقافة، والعيش ضمن أفق ثقافي مغلق.

اكتشاف الحمض النووي (DNA) والشيفرة الجينية في الستينيات قدم توصيفًا بيولوجيًا كان مفقودًا قبل ذلك الوقت للسمات الجسدية والسلوكية الموروثة. وبالبناء على هذا، بالإضافة إلى انتشار الإيمان بالطبيعة البشرية، قد يبدو مفاجئًا وجود كم هائل من الاعتراض على المفهوم بذاته، وضروب إنكار قطعية لوجود الطبيعة البشرية من جانب المفكرين الجادين.

كان ثمة أسباب عديدة لهذا التشكك. في المقام الأول، مع ازدياد المعرفة بعلم الوراثة، أصبح واضحًا أن إرثنا الجيني يتفاعل مع بيئتنا الاجتماعية والجسدية بطرق بالغة التعقيد. البشر ليسوا مبرمجين آليًا ليتصرفوا بطرق محددة مثل أنواع حيوانية معينة. قد تكون الملَكَات متأصلة في الجينوم البشري، لكن تطورها يمكن أن يُوسَّع، يُعزَّز، أو على العكس يُقيَّد بكيفية تنشئة الفرد وتفاعله مع المجتمع. وقد اكتشف علم الوراثة أن ثمة جينات معينة لا تظهر إلا كاستجابة لإشارات بيئية محددة. لذلك، كان صعبًا أحيانًا تحديد أي القدرات البشرية الأساسية موجودة "بالطبيعة".

نعرف اليوم عن الطبيعة البشرية أكثر بكثير مما كنا نعرفه في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، لا بنتيجة التطورات في علم الأحياء فحسب، بل كذلك بسبب البحوث القادمة من علم الآثار، الأنثروبولوجيا المقارنة، وحقًا علم الرئيسيات. من منظور الحاضر، يمكن القول بثقة إن السردية الليبرالية من بدايات الحداثة حول حالة الطبيعة كانت خاطئة في عدة جوانب. وقد قدمتُ دليلًا على هذا في المجلد الأول من سلسلتي "النظام السياسي". البشر اجتماعيون بطبيعتهم، لكن ميلهم الاجتماعي يتخذ أشكالًا معينة تميزه. تقترح نظرية عالم الأحياء وليام هاملتون عن "التلاؤم الشامل" أن البشر - في الواقع، ليس البشر فحسب بل معظم الأنواع التي تتكاثر جنسيًا- هم إيثاريون بالنسبة إلى عدد الجينات التي يتشاركونها مع الأنواع القريبة منهم. إنهم أيضًا ميالون بشدة إلى الإيثار المتبادل، أي، تبادل الخدمات والمنافع مع الزملاء القريبين. يعني هذا أن الشكل الأكثر شيوعًا من الحياة الاجتماعية يكمن في التشارك مع دائرة صغيرة من الأصدقاء والعائلة. وهذا بدوره يعني أيضًا أن الباتريمونيالية - أي الحكم بواسطة الأصدقاء والعائلة- طبيعية جدًا. وأنه، على العكس، نوع السلطة غير الشخصية التي تتطلبها الدولة الحديثة ويتم فيها اختيار المسؤولين على أساس الجدارة ليست جزءًا من طبيعة الجهات الفاعلة السياسية. لهذا السبب، إعادة الباتريمونيالية هي تهديد مستمر للنظم السياسية الحديثة. ونلاحظ هذا اليوم بينما يسعى دونالد ترامب إلى تقويض البيروقراطية القائمة على الجدارة، معتمدًا بدلًا عن ذلك على دائرة مقربة من الأصدقاء والعائلة الموثوقين.

لكن هذا النوع من الميل الاجتماعي ذي النطاق الضيق لا يستهلك القدرة البشرية على التشارك. قد يكون للبشر مصالح فردية، لكنهم أيضًا بطبيعتهم حيوانات متّبِعة للمعايير تكره أن تحيد عن القواعد التي وضعها أقرانهم. واستعدادُ الأفراد للامتثال للقواعد التي وضعتها هرميات كبرى كان أساس سلطة الدولة منذ اختراع الدول الأولى منذ حوالي 6 إلى 8 آلاف سنة. كذلك، الميل لاتباع القواعد يشرح كون السياسيين مستعدين لتنفيذ أوامر من الواضح أنها جائرة ضد مواطنيهم، أو كون ملايين الجنود يذهبون إلى موتهم في المعركة. لكن، إيمان توماس هوبز بالمصلحة الذاتية العقلانية جعله يناقش أن على الجنود أن يتركوا مواقعهم بدلًا من المخاطرة بحيواتهم في محاربة الأعداء. مع هذا، لطالما كانت الطاعة عبر القرون مميّزةً للمؤسسات العسكرية أكثر من الفرار.

كذلك، تشير المعطيات الأحدث إلى أن هوبز ربما كان أقرب إلى الحقيقة من روسو فيما يخص ميول البشر الأوائل تجاه العنف. فافتراض الأخير حول "الطيبة الطبيعية للإنسان" يتناقض للأسف مع قدر كبير من الأدلة التجريبية: الكثير من مجتمعات الصيادين- الجامعين كانت ذات معدلات جريمة أعلى من المدن المكسيكية أو الأميركية المعاصرة، كما أن الأدلة على حروب دموية تمتد في السجلات الأثرية إلى أبعد ما يمكننا رؤيته. البشر مخلوقات اجتماعية بطبيعتهم، لكن ميلهم الاجتماعي مدفوع غالبًا بالحاجة إلى تنظيم العنف. ورعاية البيئة تعود على ما يبدو إلى نقص في المقدرة التكنولوجية أكثر منها مسألة متعمدة. فحيوانات العالم الضخمة قضي عليها بنسبة كبيرة بعد دخول البشر الحديثين إلى المناطق التي وجدت فيها.

إذًا الطبيعة البشرية موجودة، وهي قوة فعالة في تشكيل السياسة. ووجود الطبيعة البشرية شكّل أساس بدايات الفهم الليبرالي للحقوق. فلماذا إذًا واجهت مثل هذه المعارضة؟

الأسباب أخلاقية وسياسية، وهي غالبًا نتائج ثانوية لضروب سوء فهم للطبيعة البشرية. عبر السنين، تحديد ما هو بيولوجي وما هو بيئي كان مصدر جدال سياسي هائل. إجمالًا، مال المحافظون إلى أخذ جانب البيولوجيا، في حين ناقش التقدميون أن السلوك مشروط للغاية بالبيئة المحيطة- أي "مبني على أساس اجتماعي". عبر القرون، اعتقد المحافظون أن الأمم متجذرة في عرق ونسب مشتركين؛ أن ثمة هرمية عرقية شرّعت العبودية في موطنهم وسيطرةَ أوروبا الاستعمارية على معظم بقية العالم؛ أو أن النساء ليست لديهن القدرة العقلية أو الاستقرار العاطفي للالتحاق بسوق العمل، التصويت، أو لأن يصبحن قادة سياسيين.

يمكن القول بثقة إن هذه واستخدامات سياسية أخرى للبيولوجيا كانت اقتراحات خاسرة. والكثير من هذا كان ببساطة نتيجة بحث علمي تجريبي. واحدة من الحالات الشهيرة في العشرينيات كانت عمل الأنثروبولوجي فرانز بواس، أحد مؤسسي الأنثروبولوجيا الثقافية الحديثة. بعد نشر "أصل الأنواع" لداروين، ظهرت مدرسة "العنصرية العلمية"، مناقِشةً أن أعراق العالم تختلف، من بين أشياء أخرى، في متوسط الذكاء، مع وجود البيض من منطقة شمال أوروبا في القمة. في العشرينيات، نادى المحافظون بفرض قيود على الهجرة على أساس أن المجموعات القادمة إلى أميركا خلال الموجة الكبيرة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين - الإيطاليين، اليهود، البولنديين وغيرهم من الأوربيين الشرقيين- كانت أقل ذكاء من الإثنية التي كانت مهيمنة في حينها في الولايات المتحدة. وكانت هذه المناقشة مبنية على قياس لحجم الرأس قام به الجيش الأميركي بينما كان الجنود يُطوَّعون ليحاربوا في أوروبا. أجرى بواس دراسةَ متابعة لهذه، أظهرت أن أحجام رؤوس الأطفال المهاجرين تتقارب مع رؤوس الأووربيين الشماليين عندما يتغذون على حمية أميركية. وأظهرت الدراسات اللاحقة لما يدعى "تأثير فلين" أن متوسطات معدلات الذكاء كانت ترتفع عبر الوقت عند المجموعات السكانية حول العالم بنتيجة حمية وتغذية أفضل، حتى وقت قريب على الأقل.

تجربتنا البشرية تشكّلها إلى حد بعيد أجسادُنا المادية ونقاط القوة والقيود التي تقتضيها. لهذا السبب ألفتُ كتابي "مستقبلنا بعد البشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية"


عادت الجدالات حول دور البيولوجيا للظهور بشكل كبير مع صعود النسوية في الستينيات. الكثير من النسويات وقفن بقوة إلى جانب التكوين الاجتماعي، مناقِشاتٍ أن الاختلافات الظاهرية بين الذكور والإناث سواء في السلوك أو المخرجات الاجتماعية تعود حصرًا إلى طريقة تنشئة الفتيات مقارنة بالصبيان. وأن على النساء أن يتحررن من الأعراف الاجتماعية التي جعلت من الصعب عليهن، على سبيل المثال، أن يلتحقن بمجموعة من المهن من قيادة الشاحنات وقيادة الطائرات إلى الالتحاق بالشرطة والجيش.

لكن، ورغم أن هذه النقاشات البيولوجية حول ما تستطيع وما لا تستطيع الفتيات والنساء القيام به كُشف زيفها باطّراد، ظلت هنالك مجموعة أساسية من الاختلافات بين الذكور والإناث لم يكن بالإمكان تجاوزها. فمن الواضح أن الرجال والنساء يختلفون فيما يتعلق بالمواصفات الجسدية، ما يتجاوز حقيقة أن لهم أعضاء تناسلية مختلفة. طول القامة، قوة الجزء العلوي من الجسم، طول العمر، وسمات أخرى قد تكون موزعة بشكل طبيعي على كلا الجنسين، وسيكون هنالك أفراد في أطراف سلسلة التوزيعات يتفوقون في الأداء على الغالبية العظمى من أفراد الجنس الآخر. لكن متوسطات تلك التوزيعات تختلف. لذلك، في حين أن أيّ امرأة مفردة قد تكون أقوى أو أطول من أي رجل مفرد، فإن مواصفات الجنسين إجمالًا لن تكون متماثلة. لهذا، لا تزال رياضات الذكور والإناث منفصلة حتى هذا اليوم.

على الأرجح، تمتد هذه الفروقات إلى مواصفات نفسية كذلك. في الثمانينيات، بدأ علماء النفس التطوريين يناقشون أن الاستراتيجيات التكاثرية عند الذكور والإناث تختلف، لا عند البشر فحسب، بل عند الكثير جدًا من الأنواع التي تتكاثر جنسيًا. فالرجال يميلون لأن يكونوا مختلطي العلاقات الجنسية أكثر من النساء لأن تلك كانت استراتيجيتهم المثلى لإيصال جيناتهم إلى الجيل التالي؛ النساء على العكس بحاجة إلى بيوت مستقرة يربون فيها أطفالهن حتى سن البلوغ. والنساء البالغات كنّ أيضًا أقل ميلًا للمخاطرة، وهو السبب في أن الغالبية العظمى من الجرائم في الثقافات حول العالم يرتكبها رجال يافعون.

كذلك، فكرة أن أيّ سمة سلوكية يمكن أن تُفسَّر بيولوجيًا لم ترُقْ للكثير من النسويات. عالم الأحياء الاجتماعي إدوارد أو ويلسون، الذي ناقش أن الاختلافات الجندرية مبنية على أساس بيولوجي، تلقى إبريقًا من الماء على رأسه في أحد المؤتمرات من قبل ناشطة راحت تصيح: "أنت مبتل تمامًا" (حرفيًا بما أنها سكبت الماء عليه، ومجازًا بما أن التعبير يعني في الإنكليزية "أنت مخطئ تمامًا").

ثمة سبب آخر، أكثر جوهرية حتى، في أن الليبراليين التقدميين يعارضون منحَ أهمية للبيولوجيا البشرية: إنها تمثل احتمالَ وجود حدٍّ لا يمكن تخطيه للاستقلال الذاتي البشري.

في صميم الليبرالية الحديثة ثمة تأكيد على المساواة في الكرامة الإنسانية، بناء على قدرة بشرية عامة مفترضة على الاختيار. قد يختلف البشر فيما يخص الذكاء، القوة، لون البشرة، والجندر (النوع الاجتماعي)، لكنهم جميعًا يُعتَبرون فاعلين أخلاقيين يمتلكون القدرة والحق على اتخاذ خيارات حول حيواتهم - حق التعبير، المعتقد، الحق في تكوين الجمعيات والانضمام إليها، وما شابه ذلك. وحماية ذلك الاستقلال الذاتي اعتُبِرت الجوهر الأخلاقي للمجتمع الليبرالي. في بدايات أوروبا الحديثة، كان الاستقلال الذاتي يُفهم على أنه الحق باتخاذ الخيارات ضمن أطر أخلاقية موجودة مسبقًا، أطر أرستها تقاليد دينية عديدة. لذلك، كانت حرية المعتقد الديني إحدى القيم الأساسية التي تحميها حقوق مثل ما تضمنه التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة الأميركية.

لكن، مع الوقت، اتّسع مجال الاستقلال الذاتي بلا هوادة ليشمل لا القدرة على اتخاذ الخيارات ضمن قانون أخلاقي تحدده تقاليد دينية موجودة فحسب، بل كذلك القدرة على أن يختار المرء الإطار الخاص به، وحتى القدرة على أن يبتكر قواعد أخلاقية لنفسه.

يظهر هذا الأمر بأوضح صورة في مجال الجنسانية، الجندر، والحياة الأسرية. الكثير من البلدان شرّعت الإجهاض، وهو ما يُصاغ عادة على أنه طريقة لحماية الاستقلال الذاتي للنساء بحيث يتحكمن بأجسادهن. لكن الحاجز الأخير في إنكار أهمية البيولوجيا هو حركة العبور الجندري المعاصرة. الكثير من الناشطين في مجال العبور الجندري، مدعومين بجزء كبير من المؤسسة الطبية، يؤكدون أن الجندر لا علاقة له على الإطلاق بالجنس البيولوجي، أي، بكروموسومات XY عند الشخص. بالأحرى، إنها مسألة خيار فردي، مثلما قد يختار المرء اسمًا جديدًا أو مكانًا للعيش. فهم لا يريدون أن يُقال لهم إن صفاتهم الجينية الموروثة (المنحة الوراثية) ستكون لها آثار كبيرة على هويتهم الجندرية.

خلال العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، أصبح تصور أن ثمة علاقة أساسية قوية بين الجنس البيولوجي والهوية الجندرية أحدَ الأفكار المحظورة في أوساط ليبرالية معينة، وهو منعٌ فُرِض بصرامة من قبل الكثير من الناشطين في مجال العبور الجندري. لكن هذه الفكرة ليست فكرة معقولة كثيرًا. فمن غير المنطقي التفكير أن البشر كانوا يختارون هويتهم الجندرية عبر القرون بنتيجة ضغط اجتماعي ليس إلا: تجذّر البشر في جنسهم البيولوجي هو شرط مسبق ضروري لحدوث التكاثر والحياة الأسرية. وذلك من شأنه أن يقوض نظرية داروين عن الانتخاب الطبيعي، ناهيك عن نظريته الكاملة عن الانتخاب الجنسي، التي ستذهب هباء منثورًا في ظل هذه الشروط. على المجتمع الليبرالي أن يحترم خيارات الناس العابرين جندريًا ويحمي حقوقهم، لكن هذا يختلف كثيرًا عن المطالبات الأكثر تطرفًا من قبل الناشطين الذين يرغبون بفرض رفض عام للحقائق البيولوجية.

أخيرًا، رغم أن التكنولوجيا تعدُ بإزالة قيود الطبيعة البشرية، فهذا وعد زائف. وأعتقد أننا ندخل منطقة خطرة هنا. البشر ليسوا إراداتٍ بلا جسد تطفو في الفضاء وبوسعها اختيار أن تحط بأي هيئة أو شكل تختاره. فتجربتنا البشرية، وبالتالي الغايات والمنافع التي نسعى إليها، تشكّلها إلى حد بعيد أجسادُنا المادية ونقاط القوة والقيود التي تقتضيها. لهذا السبب ألفتُ كتابي "مستقبلنا بعد البشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية" عام 2004. لطالما استخدم البشر التكنولوجيا لتعزيز ملَكاتهم الجسدية والعقلية باستمرار على مر التاريخ. نحن أسرع، أقوى، نرى بشكل أفضل، نسافر أبعد، ونعيش أطول بفضل التقنيات من النظارات إلى السيارات إلى اللقاحات. والتكنولوجيا الطبية الحيوية يمكن سلفًا أن تشكّل السلوك والمخرجات من خلال الجراحة، الأدوية، وغيرها من التدخلات. لكن ظهور الهندسة الجينية التي أصبحت ممكنة بفضل تقنيات مثل "كريسبر- كاس 9" تعدُ بتغييرات أكثر جوهرية على تلك الملكات الأساسية، تغييرات يمكن يومًا ما أن تغير فهمنا للحقوق السياسية.

السؤال هنا: هل نريد حقًا أن نكون قادرين على تغيير طبيعتنا الأساسية بحرية، أن نجعل البشر أكثر أو أقل عدوانية، أكثر أو أقل عطفًا، أكثر ذكاءً أو أكثر خنوعًا؟ قد لا نحب الميل للمخاطرة أو العنف، لكن أيّة عواقب غير متوقعة قد تنشأ من محاولة استئصالها من الجنس البشري بنوع من التحكم بالنسل؟ ومَن الذي سيمارس سلطة تقرير مثل هذه المسائل، القرارات التي لن تؤثر على الخاضعين لها في الجيل الحالي فحسب، بل كل سلالاتهم؟ وهل ستمارَس هذه السلطات من قبل النخب الغنية التي يمكن عندها أن تعطي لسلالاتها أولوية في التنافس الاجتماعي في القرون القادمة؟

على الليبراليين أن يدركوا أنه حتى وإن كان الاستقلال الذاتي منفعة بشرية، فهو ليس المنفعة البشرية الوحيدة التي تفوق كل الغايات الأخرى التي يختارها البشر. فجزء من التجربة البشرية يكمن في تقبّل القيود، تلك التي تنطبق علينا كأفراد، وتلك التي تصح على البشر كنوع. في الواقع، تلك القيود هي ما يربطنا ببعضنا ضمن جماعات. والكثير من البشر يريدون بإرادتهم أن يعيشوا في ظل تقليد ديني أو ثقافي يربطهم ضمن جماعات، حتى وإن كان يقيد حريتهم في الخيارات الفردية.

أخيرًا، كما قال الشاعر اللاتيني هوراس: "بوسعك أن تطرد الطبيعة بمذراة، لكنها سرعان ما ستعود". لن نصبح آلهة قط، وقد لا نتعلم ذلك الدرس إلا ونحن نقترب من المائتين من عمرنا حاملين الملكات المنقوصة لطفل في الخامسة من عمره.

 

(*) فرانسيس فوكوياما: (1952-) باحث ومنظّر سياسي أميركي من أصول يابانية. يحمل دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هارفرد وأكثر من دكتوراه فخرية. أشهر كتبه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" (1992)، "مستقبلنا بعد البشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية" (2004)، "النظام السياسي والانحطاط السياسي" (2014). آخر كتبه "الليبرالية ونقادها الساخطون" (2022).

 

رابط النص الأصلي:

https://www.persuasion.community/p/bringing-human-nature-back-in

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.