لستُ أقول أنّ الاقتصاد الكلاسيكي الحديث سيئ. هو - مِثْلُ جميع المدارس الاقتصادية الأخرى، - تأسّس لتفسير أمور معينة على خلفية مُسلّمات أخلاقية وسياسية مُحددة. لذا فهو جيد جدًا في بعض الأمور، وسيئ جدًا في أمور أخرى. المشكلة، في الواقع، تكمنُ في الهيمنة شبه المطلقة لمدرسة واحدة، هي مدرسة الاقتصاد الكلاسيكي الحديث، ممّا حدّ من نطاق علم الاقتصاد، وأوجد تحيزات نظرية ونقاط ضعف بيّنة فيه. وكما جعل رفض البلاد لقبول تقاليد الطهي المتنوعة بريطانيا قبل تسعينيات القرن العشرين مكانًا ذا نظام غذائي مملّ وغير صحي، فإنّ هيمنة مدرسة واحدة على الاقتصاد جعلته محدودًا في نطاقه وضيّقًا في أساسه الأخلاقي.
قد يتساءل بعض القرّاء، وهم محقون تمامًا في تساؤلهم: لماذا أهتمُّ إذا ما أصبح بعض الأكاديميين ضيقي الأفق ومنخرطين في حصر الفكر الاقتصادي في مجال واحد؟ لا. الأمر أبعد وأكثر تعقيدًا من هذا. عليكم جميعًا أن تهتموا، لأن الاقتصاد، شئتم أم لم تشاؤوا، أصبح لغة القوة. لا يمكن تغييرُ العالم من دون فهمه. هكذا كتب ماركس. في الواقع، أعتقد أنّ الديمقراطية، في ظل اقتصاد رأسمالي، لا يمكن أن تعمل بفاعلية مؤثرة من دون أن يفهم جميع المواطنين ولو بعضًا من مبادئ الاقتصاد. في هذه الأيام، ومع هيمنة اقتصاديات السوق، يهيمن المنطق الاقتصادي حتى على القرارات المتعلقة بالقضايا غير الاقتصادية (مثل الصحة والتعليم والأدب والفنون). حتى أنني التقيتُ ببعض البريطانيين الذين يحاولون تسويغ شرعية النظام الملكي على الجمهوري من خلال عائدات السياحة المزعومة التي يدّعون أنّ النظام الملكي يُدرّها على الخزينة البريطانية. أنا لستُ مؤيدًا للملكية؛ ولكن كم هو مُهينٌ أن تُدافع عن المؤسسة الملكية بهذه الكيفية؟ عندما تُصاغ وتُبرّرُ العديد من القرارات الجماعية بمساعدة النظرية الاقتصادية السائدة فإنّك لا تعرف حقًا ما الذي تصوّتُ له أو ضده إذا كنت لا تفهم ولو بعضًا من مبادئ الاقتصاد.
الاقتصاد ليس كدراسة اللغة الإسكندنافية، مثلًا، أو محاولة تحديد كواكب شبيهة بالأرض تبعد مئات السنين الضوئية. للاقتصاد تأثيرٌ مباشرٌ وهائل على حياتنا.
جميعنا نعلم أنّ النظريات الاقتصادية تؤثّرُ على سياسات الحكومة المتعلقة بالضرائب، والإنفاق على الرعاية الاجتماعية، وأسعار الفائدة، ولوائح سوق العمل، مما يؤثر بدوره على حياتنا المادية اليومية من خلال التأثير على وظائفنا، وظروف عملنا، وأجورنا، وأعباء سداد قروضنا العقارية أو التعليمية. فضلًا عن هذا تُشكّلُ النظريات الاقتصادية الآفاق الجماعية طويلة الأجل للاقتصاد من خلال التأثير على السياسات التي تُحدّدُ قدرته على الانخراط في صناعات عالية الإنتاجية، والابتكار، والتطور بطريقة مستدامة بيئيًا. بل أبعد من ذلك: لا يقتصر تأثير الاقتصاد على المتغيّرات الاقتصادية، الشخصية أو الجماعية، بل يُغيّرُ هويتنا.
ساهم الاقتصاد في تشكيلنا بطريقتين:
أولًا، يُنشئ الأفكار: تفترض النظريات الاقتصادية المختلفة صفاتٍ مختلفةً تُشكّلُ جوهر الطبيعة البشرية، لذا تُشكّل النظرية الاقتصادية السائدة معايير ثقافية حول ما يراه الناس "طبيعيًا" و"طبيعة بشرية". تسبّبت هيمنة الاقتصاد الكلاسيكي الجديد في العقود القليلة الماضية، والذي يفترِضُ أنّ البشر أنانيون، في تطبيع السلوك الأناني (بمعنى النظر إلى الأنانية باعتبارها السلوك الطبيعي للكائن البشري، المترجمة)، حتى بات يُستهزَأُ بالأشخاص الذين يتصرّفون بطريقة إيثارية ويُوصفون بـ"الحمقى" أو يُشتبَهُ في أنّ لديهم بعض الدوافع (الأنانية) الخفية. لو كانت النظريات الاقتصادية السلوكية أو المؤسسية هي السائدة لاعتقدنا أن للبشر دوافع مُعقدة، وأن الأنانية ليست سوى واحدة منها؛ ووفقًا لهذه الآراء يُمكن لتصاميم المجتمع المختلفة أن تُبرز دوافع مُتنوعة، بل وتُشكّل دوافع الناس بطرق مُتنوعة. بمعنى آخر، يؤثّرُ الاقتصاد على ما يراه الناس طبيعيًا، وكيف ينظرون إلى بعضهم، وما يُظهرونه من سلوكيات للاندماج.
يؤثر الاقتصاد أيضًا على هويتنا من خلال تأثيره على طريقة تطوّر الاقتصاد، وبالتالي على طريقة عيشنا وعملنا، والتي بدورها تُشكّلُنا. على سبيل المثال تُقدّم النظريات الاقتصادية المختلفة آراءً متباينة حول ما إذا كان ينبغي للدول النامية تعزيز التصنيع من خلال تدخل السياسات العامة. تُنتج درجات التصنيع المختلفة، بدورها، أنواعًا مُتنوعة من الأفراد. على سبيل المثال، بالمقارنة مع من يعيشون في مجتمعات زراعية، يميل سكان الدول الأكثر تصنيعًا إلى أن يكونوا أفضل في ضبط الوقت، حيث يُنَظّمُ عملهُمْ - وبالتالي بقية حياتهم - وفقًا للساعة. كما يُعزز التصنيع الحركات النقابية من خلال حشد أعداد كبيرة من العمال في المصانع حيث يحتاجون أيضًا إلى تعاون أوثق فيما بينهم مقارنةً بالمَزارِع. تُنشئ هذه الحركات بدورها أحزابًا سياسية يسارية وسطية تدفع نحو سياسات أكثر مساواة، قد تَضعُفُ لكنها لا تختفي حتى مع اختفاء المصانع، كما حدث في معظم الدول الغنية في العقود القليلة الماضية.
يمكننا أن نمضي قدمًا ونؤكد أنّ الاقتصاد يؤثّرُ على نوع المجتمع الذي نعيش فيه. أولًا، من خلال تشكيل الأفراد بشكل مختلف، تُنشئ النظريات الاقتصادية المختلفة مجتمعات ذات أنماط متباينة. وهكذا، فإنّ النظرية الاقتصادية التي تشجّعُ التصنيع ستؤدي إلى مجتمع ذي قوى أكبر تدفع نحو سياسات أكثر مساواة، كما هو موضح أعلاه. على سبيل المثال، فإن النظرية الاقتصادية التي تعتقد أن البشر مدفوعون (تقريبًا) بالمصلحة الذاتية ستخلق مجتمعًا يصعب فيه التعاون.
ثانيًا، تختلف النظريات الاقتصادية المختلفة في وجهات نظرها حول حدود "المجال الاقتصادي". لذا، إذا أوصت نظرية اقتصادية بخصخصة ما يعتبره الكثيرون خدمات أساسية - كالرعاية الصحية والتعليم والمياه والنقل العام والكهرباء والإسكان، على سبيل المثال - فإنها توصي بتوسيع منطق السوق القائم على "دولار واحد صوت واحد" ليُقابله منطق الديمقراطية القائم على "شخص واحد صوت واحد". وأخيرًا، تُمثل النظريات الاقتصادية تأثيرات متباينة على المتغيرات الاقتصادية، مثل عدم المساواة (في الدخل أو الثروة) أو الحقوق الاقتصادية (العمل مقابل رأس المال، المستهلك مقابل المنتج). تؤثّر الاختلافات في هذه المتغيرات، بدورها، على مدى الصراعات القائمة في المجتمع؛ فزيادة التفاوت في الدخل أو قلة حقوق العمل لا تولّدُ المزيد من الصراعات بين الأقوياء ومن هم تحت سلطتهم فحسب، بل تولد أيضًا المزيد من الصراعات بين الأقل امتيازًا، حيث يتقاتلون على القطعة المتضائلة من الفطيرة المتاحة لهم.
إذا فهمنا الاقتصاد على هذا النحو فإنه يؤثر علينا بطرق أكثر جوهرية بكثير مما لو تم تعريفه بشكل ضيق من البوّابة الكلاسيكية: الدخل والوظائف والمعاشات التقاعدية. ولذلك، من الضروري أن يتعلّم كلُّ مواطن ولو القليل من الاقتصاد. إذا أردنا إصلاح الاقتصاد لصالح الأغلبية، وجَعْلَ ديمقراطيتنا أكثر فعالية، وجَعْلَ العالم مكانًا أفضل للعيش لنا وللأجيال القادمة، فعلينا ضمانُ بعض المعرفة الاقتصادية الأساسية لكلّ فرد فينا.
كانت الأزمة المالية العالمية في عامي 2007-2008، وما أعقبها من ركود واستقطاب اقتصادي، بمثابة تذكير قاسٍ بحقيقة عبثية ترك اقتصادنا للاقتصاديين المحترفين وغيرهم من "التكنوقراط" ليتلاعبوا فيه كما يشاؤون. يجب علينا جميعًا أن نشارك في إدارة الاقتصاد كمواطنين اقتصاديين فاعلين.
بالطبع، هناك "ينبغي" وهناك "يمكن". كثيرٌ منا منهك جسديًا للغاية بسبب صراعنا اليومي من أجل البقاء، ومنشغلٌ ذهنيًا بشؤونه الشخصية والمالية. قد يبدو احتمال القيام بالاستثمارات اللازمة لكي يصبح المرء مواطنًا اقتصاديًا نشطًا - أي تعلّمُ أساسيات الاقتصاد، والانتباه إلى ما يجري في الاقتصاد - أمرًا شاقًا ومخيفًا. مع ذلك، فإنّ القيام بهذه الاستثمارات في الجهد والوقت أسهلُ بكثير مما تظن. الاقتصاد أسهل فهمًا بكثير مما يُقنعك به العديدُ من الاقتصاديين. في كتابي 23Things They Don't Tell You About Capitalism، المنشور عام 2010 (الكتاب مترجم إلى العربية، المترجمة) أثرتُ غضب بعض زملائي المهنيين بإعلاني أن 95% من الاقتصاد قائم على البداهة السليمة Common Sense التي يُضفى عليها تعقيد باستخدام المصطلحات والرياضيات والإحصاء؛ بينما يُمكن فهم الـ 5% المتبقية في جوهرها (إن لم يكن بتفاصيلها التقنية الكاملة) إذا شُرِحَ الأمر جيدًا من قبل معلّم شغوف يتحلى ببصيرة كافية.
إحالات:
(*) ها. جوون تشانج Ha-Joon Chang: عالم اقتصاد بريطاني من كوريا الجنوبية، متخصص في اقتصاديات التنمية. يعمل أستاذًا متميزًا في الاقتصاد بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن (SOAS). في عام 2013 صنفت مجلة Prospect تشانج كواحد من أفضل 20 مفكرًا عالميًا. ألّف العديد من الكتب التي حققت مبيعات كبرى، منها الكتب الثلاثة التالية المترجمة إلى العربية:
- السامريون الأشرار: أسطورة التجارة الحرّة والتاريخ السرّي للرأسمالية.
- 23 حقيقة يخفونها عنك بخصوص الرأسمالية.
- الاقتصاد: دليل المستخدم. (المترجمة)
(**) الموضوع المترجم أعلاه منشور في مجلّة Aeon بتاريخ 10 نيسان/ أبريل 2023. العنوان الأصلي للموضوع باللغة الإنكليزيّة هو: The Empty Basket


تحميل المقال التالي...