ترجمة: نوفل نيّوف
احتفلت الأوساط الثقافية يوم 3 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري بالذكرى الـ 130 لميلاد الشاعر سيرغي يسينين (1). هنا مقتطف من مادة كتبها الشاعر والروائي الروسي أندريه بيلي (2) وقد نُشرت في كتاب يجمع مقالات ونصوصًا كُتبت عن يسينين، ونُشر الكتاب عن دار نشر "برافدا" عام 1990 تحت عنوان "عن يسينين: شعر ونثر لكتّاب معاصرين".
***
غاليةٌ جدًّا علَيّ صورة يسينين كما تبدّت أمامي. وحتى قبل الثورة، عام 1916، أدهشتني خصلة فيه كانت، فيما بعد، تخترق جميع الذكريات، جميع الأحاديث. إنها طِيبتُه الفائقة، ليونتُه الفائقة، رهافتُه الفائقة ولباقتُه العالية. هكذا تبدّى لي بصفتي كاتبًا من مدرسة أُخرى، من عمْر آخر، وكانت تذهلني فيه دائمًا هذه النباهة الروحية العالية. هكذا رأيتُه في عام 1916. هكذا كنت ألتقيه عامَي 1918-1919، وهكذا رأيتُه مريضًا عام 1921، وهكذا كان حديثنا الأخير قبل نهايته المأساوية. لن أتكلّم عن موهبة يسينين العظيمة العطِرة، إذ سيتكلّمون عن ذلك أفضل مني. لقد قيل عنه الكثير، إلا أن ما كان يدهشني دائمًا هو نبرته الإنسانية الصِّرف. فيما بعد، حين كنت ألتقي يسينين وهو في حالة سُكْرٍ، كنتُ ألمس فيه ذلك الحياء نفسه، ولكنه كان حياء آخر. إنني أتكلّم عن حيوية علاقاتنا، كسِمة مميَّزة لعلاقته مع الناس وهم يقتربون منه بمشاعرَ إنسانيةٍ لا غير...
إن الخلاف مع الشاعر كلويِف (3) كان مرحلةً هائلة في حياة يسينين خلّفت أثرًا لا يمّحي على هذا الفتى ذي الروح المرهفة، الشديدة الرقة.
أذكر ظهور يسينين في موسكو. كان ذلك في ربيع سنة 1918. وكانت ظاهرة كلويِِف ونمط العيش في القرية منذ ألف عام وراء ظهره. يومها نبّهني من كانوا أصدقاء له إلى أن يسينين تظهر عليه أعراضٌ مقلقة على شكل اضطرابات عصبية، وبدأت في النتيجة تتّخذ شكل بحث مؤلمٍ وميلٍ إلى الخمر، وطلبوا إليَّ أن أولي ذلك اهتمامًا. ولكن ماذا كان بوسعي أن أفعل، فلم أكن قادرًا أن أمشي خلفه وأقول له طوال الوقت هذا لا يجوز، وذاك لا يجوز. وكانت صورة يسينين ترتسم أمامي وَفقًا لتغيُّر الصبغة الأيديولوجية والدوافع في شعره. فكان تارة يبتعد عنّي، وتارة يقترب منّي، وكنت دائمًا ألعب الدور السلبي في علاقاتنا. فأخذ يظهر فجأة، وفجأة يختفي. وفي اختفائه، كما في ظهوره، كانت ترافقه دائمًا ذاتُ النبرة المفرِطة الحساسيةِ واللباقةِ والطيبة والاهتمام. كان دائمًا يسأل الإنسان عن مشكلاته، وكان ذلك يؤثر فيَّ دائمًا. أذكر أيضًا لقاءاتنا أيام كنت مريضًا (في شقَّتي) في شارع سادوفو- كودْرِنْسكايا، وجاء يسينين فجلس على سريري وشرع يُسدي لي خدماتٍ صغيرة. وانعقد بيننا حديثٌ جادٌّ للغاية ليس هناك أي معنى لذكره، لأننا لا نتذكَّر حديث إنسان مع إنسان.
| |
|
إن الخلاف مع الشاعر كلويِف (يمين) كان مرحلةً هائلة في حياة يسينين خلّفت أثرًا لا يمّحي على هذا الفتى ذي الروح المرهفة، الشديدة الرقة |
سرعان ما التقيتُه بعد ذلك في "بروليتْكولْت" (4)، حيث كنتُ يومها مدرِّسًا، وكان يعيش هناك الشاعران كلويِِف ويسينين. لم يكن ليسينين سكَنٌ، فيجد لنفسه زاوية عنده. وكثيرًا ما كنّا نذهب بعد الاجتماع إلى غرفة عامة، فنعِّرج على كلويِِف ونشاهد حياة يسينين ومتاعَه. ومع أني رجلٌ غريب في بروليتكولت، كنت أراقب الدور الذي يلعبه يسينين في العلاقات التي تنشأ هناك مع آخرين لم أكن دائمًا أميل إليهم في ذلك الوقت، ويجب علَيَّ أن أقول إنه كان ينتظر شيئًا ما هناك من شعار "دعْم القرية"، ولكن خاب أملُه لأن ذلك الـ "شيء" لم يكن موجودًا في بروليتكولت ذلك الزمن...
وفي النتيجة، كان يسينين يغيب حينًا عن بروليتكولت ليظهر بعد ذلك مرتديًا قبّعة أسطوانية سوداء عالية (5)، يسينين وقبّعتُه.
هذا النمط من الحياة كان عبئًا ثقيلًا على يسينين. كنت أراه وهو يتنقَّل بين مجموعة وأخرى، فأنظر إليه دائمًا وأفكِّر: ها إنسان كأنَّ شيئًا هدّه. مفهومةٌ هذه التقلّبات كلّها، كل هذه الإيماءات التي التصقتْ باسمِه، ولكنْ لم يكن لي ذنْبٌ فيها. ومفهوم أيضًا سيكولوجيًا أن الإنسان حين يكون مُهانًا إلى هذا الحدّ بقسوة القلب، تكون ردّة فعله عاصفةً، تكون تحدِّيًا. فقد رأيته، مثلًا، وهو صاحٍ تمامًا، ورائقُ المزاج جدًّا، وكذلك وهو مريض جدًّا، في مراحلَ مختلفة بطرق مختلفة، حينًا وهو في معطفٍ قصير، فَخورٌ بحياته الفلاحية، وحينًا في قبّعته الأسطوانية، يرتدي الـ "سموِكِنغ" تقريبًا، في زيِّ غندورٍ زاهٍ، ولكنه في الحالات كلِّها، في صحوِه واعتدالِ مزاجه، كان دائمًا يتحلّى باللباقة نفسها. وكنت أنظر إليه، وأعرف سُمعته في بعض الأوساط، وأتعجّب دائمًا. إنّ ما يستطيع أن يوصِل يسينين إلى الفضيحة هو شيء شديد البشاعة، ما يوصل هذا الإنسان الرقيق، المنعزِل إلى الفضائح. قد لا أكون على حقّ، ولكني لا أعرف يسينين آخرَ. إنني لم أرَه غيرَ هذا. كنت أراه فتىً مرهَفًا ورقيقًا.
أعتقد أن الإنسانية البشرية في أسمى درجاتها كانت مجروحةً فيه، لأنّ الشاعر، أيها الرفاق، هو الكائن الاجتماعي الأرقى والأكثرُ امتدادًا، ولكنِ الشاعر وحدَه، هو كائن من القلب إلى القلب، وسَواءٌ أكان هذا حسَنًا أو قبيحًا، وربما في هذه اللحظة تتكلّم فيَّ الرومانسية، إلا أن كل صورة، إذا كانت فنية، هي حصيلة عملية الاحتراق التي يدخل فيها الحب البشريّ، وفيها ينصهر كلُّ شيء بفعل قانون الطاقة. وكيف يمكن أن ننظر إلى ثمرة القلوب هذه من زاوية نظر العالِم الجافّ. وهكذا، فإنه بالإضافة إلى كل شيء في جميع المراحل، وجميع الشعوب، وجميع الأوساط السياسية، لا يكفي تغييرُ ظروف الشاعر الاجتماعية. فليس الشاعر في البلاد الاشتراكية إلا شخصًا يجد نفسه في وسطٍ يلتقط منه خيطًا ويمدّه، لأنه بوقُ الجماعة...
ولكن آن الأوان لنحدِّد بدقَّة إلى أيّ مدى حقّق يسينين في هذا المجال الاجتماعي رسالتَه. لا شكّ في أن ما خلقتْه أغنيتُه سوف يُقدَّر عندما نصل إلى تحديدٍ دقيق لكل حالة في كل شيء، وقبل كل شيء في الفّن، لأن الفنّ هو ذلك الجهاز الحسّّاس المبنيّ على القلوب...
يقف يسينين أمامنا مع منظومة فائقة الرقّة حقًّا، وما كان علينا إلا أن نُحسِن التعاملَ معه. وحين فارق الحياة، وجدت نفسي مذنبًا في أنني بدلًا من أن أساعد على شفائه، يمكن القول إني لم أفعلْ شيئًا لأمنحه العون.
(1928)
***
هوامش المترجم:
(1) سيرغي يسينين (1895- 1925): "آخرُ شعراء القرية"، أحدُ أبرز القامات في شعر العصر الفضّيّ الروسي. قُتِل عمْدًا، وأشيعَ رسميًا أنه مات منتحرًا شنقًا.
(2) أندريه بيلي (1880-1934): هو الاسم الأدبي للشاعر والناقد بوريس نيقولايفيتش بوجاييف. كان أحد أبرز رموز المدرسة الرمزية الروسية في أوائل القرن العشرين، وأحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في الأدب الروسي الحديث.
(3) نيكولاي كلويِف (1884-1937). شاعر روسي، مثّل الاتجاه الفلّاحيّ الجديد في الشعر الروسي خلال القرن العشرين. أُعدِمَ رميًا بالرصاص سنة 1937. بُرِّئ وأُعيدَ له الاعتبار سنة 1960. لم يُعرَف مكانُ قبره حتى الآن.
(4) بروليتْكولْت: منظمة أدبية ثقافية تنويرية بروليتارية ظهرت في روسيا مع ثورة سنة 1917.
(5) cylinder وتسمّى أيضًا البرميل.


تحميل المقال التالي...