}

في ذكرى جاك لوي دافيد: "فنّان الثورة الفرنسية"

سمير رمان سمير رمان 3 نوفمبر 2025
تغطيات في ذكرى جاك لوي دافيد: "فنّان الثورة الفرنسية"
نابليون بونابرت (جاك لوي دافيد)

يحتفل متحف اللوفر في باريس بالذكرى المئوية الثانية لوفاة جاك لوي دافيد/ Jaques- Louis David بإقامة معرضٍ تذكاريّ لأعماله.
وفي الوقت الذي فقد فيه متحف اللوفر مجموعة من مجوهراتٍ نابليون بونابرت التي لا تقدّر بثمن، في حادثةٍ وصفت بأنّها "سرقة العصر"، يستضيف المتحف نفسه معرضًا ضخمًا بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لوفاة الفنان الفرنسي جاك لوي ديفيد، رسّام بلاط نابليون بونابرت. في هذا المعرض الذي يحمل طابعًا عصريًّا للغاية، تجتمع مئات من أعمال الرسّام، التي تمّ جلبها من متاحف في فرنسا وأوروبا والولايات المتحدة الأميركية. سيكون البحث في كيف يمكن أن يكون أحدٌ ما رجل دولةٍ، فنانًا، وسياسيّا (ملتزمًا في الوقت نفسه) أحد محاور المعرض الرئيسة.
وبالحديث عن مجوهرات نابليون النفيسة، تجدر الإشارة إلى جاك لوي دافيد، الذي كان يومًا ما صديقًا لكبار زعماء الثورة الفرنسية، روبسبير، ومارات، هو بالتحديد من صوّر نابليون بونابرت كأيقونة!
يوضّح سيباستيان ألار، أمين المعرض، قائلًا: "تحوّل الرسام المعلّم، الذي يعد أبًا للمدرسة الفرنسية، إلى نصبٍ تذكاريّ لا يمكن المساس به". وأضاف: "عاش جاك دافيد في ظلّ ستة أنظمة سياسية، ليجسّد أيضًا الانتقال فنيًّا من التقاليد الأكاديمية للنظام القديم إلى الثورة، ومن الثورة إلى الإمبراطورية، ومن الإمبراطورية إلى عصر الترميم". في الواقع، وضع جاك لوي دافيد (1725 ــ 1748) لنفسه هدفين واضحين، وبذل كلّ ما في وسعه لتحقيقهما: أولًا، أن يصبح الرسّام الفرنسيّ الرئيس، وثانيًا أن يصبح "رسّام الدولة". وقد نجح نجاحًا واضحًا في مسعاه.
كان يُنظر إلى جاك دافيد على أنّه "الرسّام الأهمّ"، بدءًا من أفول عهد لويس السادس عشر، ثمّ خلال عصر روبسبير المضطرب، والإمبراطورية النابليونية، وأخيرًا في عصر الإصلاح. أمّا آل بوربون العائدون إلى السلطة فقد رأوا فيه مجرمًا، ولكنّهم، وفي الوقت نفسه، كانوا يدركون أنّه شخصية استثنائية تتمتع بنفوذٍ واسع وشهرة كبيرة، فقد قرروا عدم السماح لها بالبقاء في فرنسا. وعندما مات قبل مائتي عامٍ في منفاه في بروكسل، رفضوا العفو عنه، ولم يسمحوا بعودة جسده إلى الوطن. في نهاية الأمر، عاد جسد الفنان ليدفن في مقبرة Pere lachaise على مسافة تقارب 20 كيلومترًا من باريس.
في أواخر حياته، اتضح أن "فنّان الدولة"، وهو اللقب الرسمي في عهد نابليون، كان في حقيقة الأمر منشقّا متطرفًا، وحتى إرهابيًا شرسًا خلال "فترة الإرهاب"...
كان جاك دافيد صديقًا شخصيًا للثوري البارز في الثورة الفرنسية، المحامي والخطيب المفوّه روبسبير/ Robespierre، ومقربًا للغاية من مارات/ Marat، الصحافي اللامع، وزعيم اليعقوبيين في الثورة الفرنسية. كما كان ديفيد في الوقت نفسه موظفًا بارزًا في محاكم التفتيش السياسيّة، يجري التحقيقات، ويوقّع أوامر الإعدام بخط يده الجميل (بطاقة توقيعه موجودة تحت الزجاج في الغرفة الأولى). بالإضافة إلى ذلك، كان دافيد من بين من صوّت لصالح قرار إعدام لويس السادس عشر، ليصبح بذلك قاتلًا للملك وذريته.




خلال حياته، ارتقى دافيد مرارًا وتكرارًا إلى أقصى ما يمكن أن يحلم به فنّان، ثمّ هوى بعد ذلك أكثر فأكثر. وبسبب قربه الخطير من زعماء الثورة، خسر بعد الإطاحة بالملك عمولاتٍ كبيرة كانت تأتيه من البلاط، ونجا بأعجوبةٍ من المقصلة، حيث ورد اسمه ضمن قائمة من أنصار روبسبير، أطيح برؤوس كثيرٍ من أفرادها. بعد الإطاحة بنابليون ونفيه ليموت بعيدًا من باريس، بذل الرسّام جهودًا جبّارة لإنقاذ لوحاته البونابرتية، فتمكّن من إرسالها سرًّا إلى سويسرا وبلجيكا. من بين أشهر لوحات الفنان، التي يعرضها المعرض، ثلاث لوحات بعنوان "موت مارات" الشهيرة، التي رسمها عام 1793. تبدو هذه اللوحات وكأنّها أحجية فريدة تقول "ابحث عن الأوّل". ويحتفظ متحف بروكسل في العاصمة البلجيكية باللوحةٍ. أمّا متحف اللوفر فلا يمتلك سوى نسخةٍ واحدة من النسخ التي أنتجت في مرسمه.
لضمان تكريم الجمهورية بأكملها للفنان "صديق الشعب"، كان عليه أن يرسم عددًا من اللوحات التي تخلّد المعذَّبين. وزّعت أعمال دافيد في نسخٍ ونقوش تحولت جميعها عمليًّا إلى إنتاجٍ واسع انتشر في كلّ مكان. لم يكن الهدف من رسم ديفيد نقوش لوحة "القَسَم في ملعب التنس/ Serment du jeu de paume" (1790 ــ 1794) يقتصر على تعريف المواطنين باللحظة الحاسمة في تاريخ الثورة، بل وأيضًا جمع التبرعات ليتمكّن من إتمامها (الأمر الذي لم يتمّ). أمّا لوحة "تتويج نابليون/ The Conoration of Napoleon" الضخمة (1805 ــ 1808)، فقد أصبحت نموذجًا لما يمكن أن نطلق عليه التقارير الاجتماعيّة. في هذه اللوحة العملاقة، رسم الفنان الحضور بدقةٍ كبيرة، ووصل به الأمر أن أضاف أشخاصًا لم يحضروا التتويج أصلًا (طلب الإمبراطور من الفنان إدراج والدته، التي لم تزر باريس قط). لم يرفض الفنان طلب الإمبراطور. وكيف لرسّام حكوميّ رفض طلب راعيه؟
أصبحت صور نابليون رسميّة في الإمبراطورية، ويظهر من خلالها شابًا وسيمًا، وخاصّةً "لوحة نابليون في ممرّ سان برنارد" (1801)، التي لاقت استحسانًا كبيرًا في فرنسا، على الرغم من تحمّل البلاط الملكي الإسباني جميع تكاليفها. عمل دافيد للاحتفاء بمصالحته مع السلطات، ليس فقط من خلال هذه اللوحات، بل وأيضًا من خلال لوحة "نساء سابين/ Les Sabines" (1799)، التي خلّدت موقف نساء قبيلة سابين الإيطالية، اللاتي تمكنَّ من الحيلولة دون اندلاع معركةٍ دموية بين الرومان وبين قبيلتهنّ، السابين: وهنا، ومن خلال لوحةٍ فنيّة، يحاول القنصل الأول، الطامح إلى العرش الإمبراطوري، التوفيق بين الأرستقراطيين وقاطعي الرؤوس.
بسبب التغيرات المستمرة أبدًا في تفسير التاريخ وتقلبات التوجهات الحزبية، ظلّت لوحة "قسم ملعب التنس" غير مكتملة، على الرغم من أنّ الفنان قضى أربع سنواتٍ في رسم هذه اللوحة الضخمة، ولم يتمكّن قطّ من التعامل معها، ليس مع اللوحة نفسها، بل مع السياسة.
من بين غيرها من اللوحات، جذب انتباه الجميع في معروضات اللوفر رسمٌ كاريكاتوريّ للوحة فنيّة تُظهر رؤوسًا وأجسادًا عارية لأفراد مختلفين من المجموعة، مرسومة بخطوط شفافة، لدرجة اضطر معها الفنان، في رسالةٍ خاصّة، إلى شرح السبب الذي دفعه لرسمه أبناء وطنه الأماجد من دون سراويل.
في هذه اللوحة، يتضح جليًّا أنّ أبطال الطبقة الثالثة لم يكونوا مثل هوراس (شاعر روما الشهير)، ولا على شاكلة أبولو (إله الشمس عند الإغريق)، بل كانوا ساتير وفافن بمؤخراتٍ ضخمة (آلهتا الغابات والمراعي، ساتير وفافن، مخلوقتان نصفهما بشري ونصفهما الآخر بقوائم وقرون وأذيال الماعز). لم يعمل جاك دافيد على تجميل نماذجه التي يرسمها أبدًا: لا عندما كان يرسم بورتريهات باهظة الثمن يطلبها علية القوم، ولا حتى عندما يرسم زوجته الوحيدة طيلة حياته. ولكنّ الأمر بدا مختلفًا تمامًا عند رسمه أصحاب السلطة التي كان يخدمهم.
في لوحة "قسم ملعب التنس"، اتضح أنّ كثيرًا من المتواجدين يومها كانوا في واقع الأمر أعداءً للثورة، لذا كان رسمهم في حقيقة الأمر بلا معنى، وهذا مثال ساطع عن تخلف الحسابات الفنيّة، مهما كانت دقيقة، عن ركب واقع السياسة القاسي. ولكنّ الحقيقة الساطعة تقول: عندما يعمل الفنان خادمًا للسلطة فإنّه في طريقه لفقدان القلب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.