الصدف لا تتوقف عند كونها مجرد صدف، بل أحيانًا تكون مدخلًا لحكاية طويلة متشعبة ستُروى لاحقًا.
انفصلتُ عن المجموعة بخطى عشوائية، للانفراد بالملاحظة وتأمل التفاصيل. مررتُ أمام قاعة العرض بمتحف شرائح الخيزران بمدينة لان جو (الصين)، وهناك رأيت معرضًا للفنان لاو شو، وهو فنان صيني معاصر من مقاطعة شان دونغ، يمزج الرسم بالخط الصيني والشعر؛ لوحاته تعكس ملامح الرسم الصيني التقليدي، ومن خلالها يمكن رؤية الطبيعة في الصين وغيرها من التفاصيل، ولكن برؤية معاصرة.
تجولت في معرضه "مذكرات رحلة إلى الغرب" في متحف شرائح الخيزران، وفيه أعماله التي جسّد فيها كل ما رآه وجال بخاطره أثناء زيارته لطريق الحرير. وكما قال لاو شو إن هناك العديد من الأماكن التي ألهمته، وأطلقت العنان لأفكاره، مثل كهوف الألف بوذا، وتماثيل بوذا، وشرائح الخيزران، والخزف الملوّن، والمناظر الساحرة، وأحوال الناس في المدن وغيرها.
ومن هنا انطلقتُ في رحلة البحث عن أعمال الفنان لاو شو المميزة. وقد أصدر مؤخرًا كتابَي: "لا حدود لمباهج الربيع"، و"أحيانًا". وهما كتابان يضمان لوحاته الساحرة التي لا تخلو من الشعر، ويقول لاو شو إنه عادةً يرسم أولًا، ثم يكتب الشعر المصاحب للوحة. بالنسبة له الرسم أسهل قليلًا؛ لأنه بعد أن ينتهي من رسم اللوحة، تمتد أمامه آفاق من المعاني، فاللوحة تحمل تفسيرات شتّى، ويمكن أن يراها كل شخص بعين مختلفة. لكن لو استخدم الشعر أولًا - بكلماته المحددة الواضحة- فرسم لوحة متماشية مع الشعر، يحمل قدرًا من الصعوبة والتعقيد، غير أنّ الكثيرين سيعلقون على اللوحة ويقولون إنها بعيدة عن الكلام المصاحب لها، ولا تعبّر عنه، ولا عن مغزى الشعر. لكن لو قام بالرسم أولًا، وبعد ذلك كتب الشعر، فسيكون هناك حيز متسع لكتابة الشعر بحرية. فبالنسبة له، الرسم أسهل، بينما كتابة الشعر معقدة، وذلك لأن التعبير بالكلمات أصعب من التعبير بالرسم.
بماذا نحن مشغولون؟
تخرج لاو شو عام 1983 في جامعة نان كاي، قسم اللغة الصينية وآدابها. بدأ رحلته مع الرسم منذ عام 1979، والآن يُدرّس بالجامعة المركزية للتمويل والاقتصاد ببكين.
عندما كان طالبًا في الجامعة، التقى بعدد من الأساتذة الممتازين الذين أثروا فيه، وكان من بينهم أساتذة ينتمون إلى فترة الجمهورية. ومن هنا يحكي لنا لاو شو عن الفكرة التي ألهمته بكتاب "لا حدود لمباهج الربيع"، فيقول:
"مع الوقت، عندما وصلتُ إلى سن معين، تذكرتُ ما تشربتُه من أساتذتي، فأكبر شعور طغى بداخلي، هو ترسخ علاقتي بالعالم الخارجي. كنت دائمًا ألاحظ شجرتَي مشمش عند باب الجامعة، عندما كانت تتفتح أزهارهما كل عام، لا تبقى هناك ورقة واحدة خضراء - تمامًا مثل بوادر الربيع في الشمال - بل تتحولان إلى أشجار مزهرة على جانب الطريق، منظرهما يخطف الأنظار.
"وحينها كنت أراقب إذا ما كانت هاتان الشجرتان ستستوقفان المارة، لكنني اكتشفتُ أن قليلين جدًا منهم لاحظوهما. فكان بين كل عشرة أشخاص يتوقف شخصان أو ثلاثة ويتأملهما، وشخص واحد فقط يبطئ خطاه، ويدنو صوبهما ليشم عطر الأزهار المتفتحة. كانت قلة قليلة من الناس تفعل ذلك. بماذا نحن مشغولون؟ ستكتشف أن علاقتك بجمال العالم المحيط بك ناقصة. فلماذا يتملكنا القلق، في حضور هذا الكم من الأشياء البديعة؟
"نحن أصبحنا أسرى عالم البشر. ولماذا لا نستمتع بسحر المناظر الطبيعية المحيطة بنا، وتفتح الأزهار وتساقطها، بل ونستمد منها أشياء تبعث الطمأنينة والراحة، وتشعرنا بالسعادة؟
"ومن ثم، طرأت على عقلي فكرة رسم أربعة ألبومات للوحات تتناول الفصول الأربعة، والجزء الأول هو "لا حدود لمباهج الربيع"، ومن هنا تدفقت الفكرة".
أما عن كتابه الثاني "أحيانًا"، فيحكي لنا الفنان لاو شو قصة مؤثرة عن صديقه الفيلسوف داي بينغ الذي رحل فجأة. فبعد انتهائه من ساعات الدوام، ظل منكفئًا أمام الحاسوب. وعندما قال له زميله إن وقت العمل قد انتهى، وبوسعه أن يعود إلى بيته، ظل متجمدًا لا يبدي حراكًا؛ كان قد تعرض لنوبة قلبية ومات.
ويقول لاو شو عن صديقه الراحل داي بينغ:
"كان صديقًا عزيزًا على قلبي. أتذكر جيدًا أنه كان يوم الخميس، وكنت قد اتفقتُ معه أن نذهب لاحتساء الخمر في عطلة نهاية الأسبوع، ولكنه رحل فجأة، وتركني حبيس حزن عميق.
"تخصّص صديقي في دراسة الفلسفة، ولكنه كان أيضًا خبيرًا في الموسيقى الكلاسيكية. وحتى الآن، ما زالت هناك بعض المقالات النقدية التي كتبها - منذ زمن - حول الموسيقى الكلاسيكية.
"بعدما رحل صديقي، قمت بتحميل مقالاته المتعلقة بالموسيقى من على الإنترنت. أردت أن أصدر له كتابًا، فكنت حينذاك مشرفًا على قسم التصميم، فعزمت على تصميم كتاب صغير له، وبداخل الكتاب وضعت أسطوانة سيرجي رحمانينوف "حفل البيانو رقم 2".
ولكنني شعرت أنه لو سيقتصر محتوى الكتاب على الكلام والأسطوانة، فسيكون بسيطًا، لذا؛ أردت إهداء كتاب له. ولكنني احترت ماذا أرسم؟ فلم أكن ملمًا بالعديد من تفاصيل حياته.
"ذات يوم، بينما كنت متمددًا، تنهدت قائلًا: ‘الإنسان حقًا متغير الحال‘. فانبثقت إلى رأسي فكرة رسم كتاب تحت عنوان ‘أحيانًا‘. فالحياة أحيانًا تكون بهذا الشكل، وأحيانًا تكون بذلك الشكل... ومن ثم رسمت ألبوم ‘أحيانًا‘".
يحب الفنان لاو شو رسم ألبومات اللوحات، بل ويعتبرها الأقرب إلى قلبه، فيقول:
"في السنوات الماضية، رسمت عددًا كبيرًا من الألبومات التي ضمت لوحاتي. وهي تختلف عن رسم اللوحات القائمة بذاتها؛ لأن ألبوم اللوحات - عادة - يتمحور حول موضوع بعينه، وبعد ذلك شرح مفصل، ويكون به علاقة منطقية، وسرد، وإحساس بالإيقاع، ورؤية متحررة ومتغيرة، كما أن محتواه يكمل بعضه، فلو نظرنا إليه سنجده ثريًا ومكتملًا".
عندما تجتاز التجربة المشاعر، وتتجسد في شكل عمل فني، يتفرد الإبداع، والذي حينها لا يعبر عن فكرة أو خيال وحسب، بل رحلة خاصة داخل النفس.
*من أعمال الفنان ونصوصه عنها:
أحيانًا، في الصباح، أحلم أن لدي قدرة خارقة، بوسعي اختراق الأبواب والجدران، وفعل كل ما يخطر ببالي.
ذهبتُ وحدي للبحث عن الأزهار، تأرجحتُ خلف الجبال وأمامها- خطوتُ سهوًا في أغوار غيمةٍ بيضاء، فابتلعتني ولم أعد مجددًا.
أحيانًا، بعد الانتهاء من العمل، أشعر بالجوع والتعب، يخنق الطريق الازدحام، بينما أتطلع إلى الانكفاء على وجهي لأنام.
أحيانًا، أفكر أنني في الحقيقة شخص طالح، ولكنني يوميًا - سواء بالكلام أو التصرفات- أتظاهر باللطف وكأنني إنسان صالح.


تحميل المقال التالي...