}

عن "الخرطوم الصُّغرى" ومليارات الاتّحاد الأوروبي ومصر

ترجمات عن "الخرطوم الصُّغرى" ومليارات الاتّحاد الأوروبي ومصر
سودانيون يقطعون الحدود إلى مصر (UNHCR: Pedro Costa Gomes)

 

تعهد الاتّحاد الأوروبي مؤخرًا بتقديم خمسة مليارات يورو كمساعدات عاجلة إلى مصر التي تستضيف ملايين اللاجئين وتعاني من أزمات اقتصادية طاحنة، لكن يبدو أن أزمة الحرب السودانية الأخيرة، إلى جوار ما يحدث في غزّة ولبنان، كل هذا ألقى بظلاله على الحالة الاقتصادية والأمنية المصرية. في هذا التقرير الميداني ترصد الصحافية والكاتبة إيرينا فان دير لينده أحوال اللاجئين السودانيين في مصر من أسوان حتى القاهرة، وتتحدث مع المسؤولين في الحكومة المصرية كما مع مسؤولي الاتحاد الأوروبي.

القاهرة

تضرب الأيادي بسرعة وخفة على الطبول البيضاء الصغيرة، فتملأ الغرفة نغمات عميقة من الناي الخشبي لتمتزج بنغمات العود والغيتار وآلات الـ"دي جي"، يسمو الإيقاع الحزين حين يبدأ خالد في الغناء بصوت عالٍ، ثم فجأة بهدوء شديد، يغني فيصفق معه ما يقرب من 40 شخصًا من الصغار والكبار، يضحكون وهم متحلقون حوله على الأرض أو مستندون إلى الحائط، أو جالسون على المقعد "العربي" ذي السجاد المنسوج بشكل تقليدي، المكان ليس أكثر من غرفة في الطابق الثاني من عمارة سكنية في حي فيصل القاهري، وقد تحولت إلى مركز ثقافي، وقد اكتست جدرانها بصور الممثلات المصريات وبصور أخرى لمقهى ريش الشهير في قلب القاهرة.

في مساء كل سبت يجتمعون هنا، شعراء وموسيقيون وفنّانون يعزفون الموسيقى ويستمعون إلى أعمال بعضهم البعض، قبل عامين فقط نظموا هذا النوع من الأمسيات معًا في الخرطوم، وبعد اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل/ نيسان 2023 فروا من بلادهم، أخبرونا أن كل شيء مدمّر في الخرطوم، حتى المتحف الوطني الذي يضم مومياوات عمرها ألف عام، ومكتبة جامعة أم درمان الأهلية التي تضم مخطوطات وكتبًا نادرة، يقول خالد (اسم وهمي، 41 عامًا)، وهو مغنٍ معروف في السودان لا يريد أن ينادى باسمه الحقيقي لأسباب أمنية: "نحن هنا مكسوري القلوب، نحاول البقاء على قيد الحياة، فقراء، لكننا نجتمع هنا لنؤازر بعضنا بعضًا، إنه شكل من أشكال البحث عن الراحة، بدون الحاجة إلى النطق بها".

تتداخل أصوات الشارع عبر أبواب الشرفة المفتوحة، خالد رجل صغير الحجم غير لافت للنظر، يرتدي قميصًا رماديًا باهتًا وبنطالًا من الجينز الضيق، ولكن عندما يبدأ الغناء "عن الفتاة ذات البشرة السمراء، كم هي جميلة، كم أفكر فيها دائمًا..."، يتحوّل إلى نجم بوب جذاب وتتأرجح الغرفة تحت وقع نغماته، عمل موسيقيًا ومدرسًا للغة الإنكليزية في الجامعة في بالخرطوم، كتب أغانيه الخاصة ويعشق الموسيقى السودانية الشعبية كما الغربية والفلامنكو، لكنه منذ اندلاع الحرب لم يعد يعزف، يقول: "ضاعت روحي وفقدنا كل شيء، حتى المشاعر"، إلّا الليلة؛ الليلة سنتوقف عن الحديث عن الحرب، خاصة وأن الشرطة المصرية لم تشن حملاتها على السودانيين كالعادة، يقول خالد: "الليلة سأغني لكم يا ضيوفي"، ثم ينهض ويلتقط غيتاره.

"الخرطوم الصغرى"...

حين وقفت لاحقًا للحظة في الشرفة، كان باستطاعتي رؤية قمم أهرامات الجيزة التي تجذب السياح من جميع أنحاء العالم كل عام، في نهاية الشارع الكائن بحي فيصل القاهري تبدأ "الخرطوم الصغرى"، حيث يعيش عشرات الآلاف من اللاجئين السودانيين، يقف الباعة على أبواب متاجر بيع البط الحي والأرانب الموجودة داخل أقفاص في الشوارع الضيقة، وتتدلى قطع لحم الضأن من خطاطيف كبيرة، وتخبز النساء "الكفلة"، بينما تقوم أخريات بتحضير القهوة السودانية. قالت صديقة خالد بينما كنت أسير معهما في الحي: "أشم رائحة السودان"، وأضافت كما لو كانت تبحث عن الكلمات المناسبة: "عرق... قهوة... ذرة"....

تستضيف مصر ملايين اللاجئين، ليس فقط من السودانيين، بل الآلاف من السوريين واليمنيين والإريتريين والفلسطينيين الهاربين من غزة، على الرغم من أن مصر لا تعترف بهم كلاجئين، لذا لا أحد يعرف عددهم بالضبط، هناك ما يقرب من 850 ألف لاجئ مسجلين رسميًا من قبل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والتي تقوم بتسجيل اللاجئين نيابة عن الحكومة المصرية، ولكن هذا جزء بسيط من العدد الفعلي، فمعظم اللاجئين غير مسجلين بشكل قانوني كلاجئين في مصر، ووفقًا لأحدث أرقام الحكومة المصرية، فقد فرّ أكثر من مليون سوداني إلى مصر منذ اندلاع الحرب في السودان.

كان من السهل جدًا على اللاجئين والعمال المهاجرين، والذي يقارب عددهم الـ 9 ملايين، العيش والعمل في مصر على مدار سنوات، ولم يكن هناك من الدوائر الحكومية في كثير من الأحيان سوى الثناء عليهم، كما أن مصر لا تقيم معسكرات للاجئين، "نحن ضد ذلك"، كما سيقول وزير الشؤون البرلمانية محمود فوزي في وقت لاحق من مكتبه في "القاهرة الجديدة": "نحن لا نضع إخواننا في المخيمات".

لكن هذا الموقف "الإيجابي" بدأ يتبدل، فالحكومة المصرية تواجه تضخمًا مرتفعًا وأزمات اقتصادية حادّة، ويشكو الناس من ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتضخم أسعار الإيجارات، وفي العام الماضي ألقى المسؤولون الحكوميون اللوم على المهاجرين واللاجئين بشكل متزايد، مصحوبًا بتعليقات معادية وعنصرية ضدهم على الإنترنت وفي وسائل الإعلام، كما كتبت منظمة العفو الدولية في تقريرها العام الماضي: "إنهم يعتقلون طالبي اللجوء ويكبلونهم كما لو كانوا مجرمين خطرين"، ويواجه السودانيون بشكل خاص المداهمات وعمليات الترحيل والاحتجاز في معسكرات مهينة، وجاء في تقرير منظمة العفو الدولية: "إنهم يعتقلون السود بشكل تعسفي، وقد تشمل الاعتقالات من يقيمون في مصر منذ وقت سابق على الحرب، أو الذين يتمتعون بوضع لاجئ ساري المفعول".

هؤلاء الملايين من اللاجئين هم من تستخدمهم مصر للضغط على الاتحاد الأوروبي.

أوروبا

قبل أسبوع، وفي أحد المطاعم اللبنانية في منطقة جاردن سيتي الراقية على النيل، تتحدث عضو البرلمان الأوروبي تينيكه ستريك مع مساعديها الثلاثة على طاولة مستديرة بهدوء في حضور إيلينا بيشلر، الزوجة النمساوية للمعتقل المصري بدر محمد البالغ من العمر 28 عامًا. بدر واحد من عشرات الآلاف من السجناء السياسيين في مصر: كيف تبدو ظروف السجن؟ لماذا تم اعتقاله؟ تريد ستريك معرفة كل شيء، على الرغم من أن زيارة عملها لم تبدأ بعد بشكل رسمي في القاهرة، إلا أنها تريد أن تستفيد من كل دقيقة منها، تقول: "ساعة واحدة في منتصف الظهيرة وفي أسوان؟ يا للعار، ألا يمكننا تحديد موعد آخر"؟.

تم تعيينها مؤخرًا المبعوثة الرسمية للبرلمان الأوروبي إلى مصر لمدة خمس سنوات، وهذه هي أول زيارة لها إلى البلاد، كان أسبوعها الأول في مصر مزدحمًا بشكل مذهل بالمواعيد مع الوزراء والسفراء واللاجئين وممثلي المنظمات غير الحكومية ونشطاء حقوق الإنسان، مهمتها الأساسية هي تقصّي الحقائق لتكوين صورة أفضل عن حالة الديمقراطية في البلاد، كانت تعلم أنها لن تكون مهمة سهلة، إذ رفضت مصر السماح بعودة المبعوثة السابقة للبرلمان الأوروبي بعد زيارتها الأولى.

أبرمت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، مؤخرًا صفقة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بقيمة خمسة مليارات يورو، تم بالفعل تقديم مليار يورو منها إلى القاهرة، وهو مبلغ غير مسبوق، بل أكثر بكثير أيضًا من بضع مئات الملايين التي تعهد بها الاتحاد الأوروبي في صفقات الحد من الهجرة مع تونس وليبيا على سبيل المثال. تقول تينيكه ستريك في السيارة ونحن في الطريق إلى المطعم: "تختلف صفقة مصر عن جميع الصفقات الأخرى، لأنها تدفع لدعم مصر ماليًا واقتصاديًا، خاصة لأنها تقع في منطقة غير مستقرة مع جيرانها في غزة والسودان وليبيا، وبالتالي فإن مصر المستقرة مهمة جدًا من الناحية الجيوسياسية بالنسبة لأوروبا".

المبعوثة الرسمية للبرلمان الأوروبي إلى مصر تينيكه ستريك (يمين) ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين  


ويبقى السؤال الآن: ما الذي ستطلبه أوروبا في مقابل الأربعة مليارات يورو المتبقية من المساعدات؟

تعد مصر، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 113 مليون نسمة، أكبر دولة في المنطقة، وهي أيضًا واحدة من أكثر الدول قمعًا وعسكرة، وقد تمت مقارنة نظام السيسي بنظام الرئيس السوري بشار الأسد الذي تمت الإطاحة به مؤخرًا، فهناك عشرات الآلاف من السجناء السياسيين مثل بدر محمد، وهم محتجزون بدون محاكمة عادلة في ظل "ظروف قاسية وغير إنسانية، وبدون الحصول على الرعاية الطبية المناسبة"، وفقًا لما سجلته منظمة العفو الدولية.

تقول إيلينا بيشلر: "التقيت ببدر خلال حفلة على متن قارب شراعي في النيل"، ما لم تكن تعرفه بيشلر في ذلك الوقت هو أن بدر كان قد قُبض عليه فيما عرف بالثورة المصرية الثانية عام 2013، وكان حينها في السابعة عشرة من عمره، بعد أن خرج ما يقرب من 14 مليون مصري إلى الشوارع للاحتجاج ضد حكومة محمد مرسي، زعيم جماعة الإخوان المسلمين. ولكن بعد أيام قليلة، قام الجيش بانقلاب وتولى الرئيس الحالي السيسي السلطة، وهو ما أنهى العملية الديمقراطية التي كانت قد بدأت بعد الربيع العربي، أو الثورة الأولى في ميدان التحرير عام 2011، بعد أن تنحى الرئيس المصري السابق حسني مبارك عن الحكم، ولكن نظام السيسي يعد أكثر انعدامًا للحرية والديمقراطية، مضافًا إليهما المزيد من السيطرة والقمع كما يقول المطلعون، وعلاوة على ذلك، فإن الملايين من المصريين صاروا بالكاد يستطيعون الحفاظ على رؤوسهم فوق الماء بسبب غلاء الأسعار.

تقول إيلينا إنه تم إطلاق سراح بدر في البداية، وخلال تلك الفترة كانا قد التقيا وتزوجا وأصبحت حاملًا، ليتم القبض عليه مرة أخرى، وحُكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات، وبينما كان في السجن وُلدت ابنتهما أمينة، وبحلول نهاية عام 2024 كان من المفترض أن تنظر المحكمة العليا في استئناف محمد بدر الذي تأجل لمدة شهرين، وكتبت منظمة العفو الدولية في تقريرها آنذاك: "لا يوجد دليل على أن بدر شارك في الاحتجاجات، وأيضًا لا دليل يؤكد أنه مارس العنف ضد الشرطة كما تزعم التحقيقات معه".

في 30 يناير/ كانون الثاني الماضي، صوتت لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي في بروكسل على إضافة شروط إلى المساعدات التي تبلغ قيمتها أربعة مليارات يورو إلى مصر، من بينها "تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان"، ولكن اليوم لا يذكر مشروع قانون أورسولا فون دير لاين الحالي أية شروط ملموسة، ما دفع تينيكه ستريك، المبعوثة الأوروبية إلى مصر، إلى أن تعمل جاهدةً من أجل إضافة المزيد من الشروط بصفتها مقررة البرلمان الأوروبي، تقول: "من المهم أن تُستخدم حزمة الدعم الأوروبي أيضًا لتحسين حقوق الإنسان والديمقراطية في مصر". وقد جعلتها زيارتها الأولى هذه إلى مصر أكثر اقتناعًا بذلك.



المعادي

شقت سيارة التاكسي البيضاء التي تقل النائبة البرلمانية تينيكه ستريك وموظفيها طريقها وسط سيل السيارات على جسر قصر النيل في اليوم التالي، كان سائقو الدراجات البخارية يعبرون بجوارها فوق الجسر، وشاب يقود دراجة هوائية حاملًا صينية من الساندويتشات المكدسة فوق رأسه، وعربة قديمة يجرها حمار، كانت المدينة التي يقطنها رسميًا 12 مليون نسمة، وبشكل غير رسمي ملايين أخر، تتحرك من حولنا بشكل شبه طبيعي في الليل كما في النهار، بعد أكثر من ساعة في السيارة وصلنا إلى مقر منظمة إنقاذ الطفولة Save the Children بضاحية المعادي على الجانب الشرقي من المدينة.

يجلس عشرة أطفال سودانيين منحنين في دائرة على الأرض، يخربشون بأقلام الحبر على أوراق بيضاء، كانوا قد صنعوا مجسمات صغيرة من الطين في وقت سابق، رفع صبي يرتدي بدلة رياضية سوداء مجسمه أمامنا بخجل، كان المجسم يصور مشهدًا لمنزل صغير وبجانبه فيل وجمل وطفل رضيع، يقول مشرفه المصري: "هذا يذكره بمنزله، من الجيد أن يعبّر الأطفال عن مشاعرهم عبر الفن".

تقول مديرة المشروع، رباب منصور، بعد الجولة إن منظمة "أنقذوا الأطفال" هي واحدة من المنظمات غير الحكومية القليلة المسموح لها بالعمل هنا، إذ أن هناك القليل من المخصصات للأطفال اللاجئين في مصر، وتضيف: "70 في المئة من اللاجئين السودانيين هم من النساء والأطفال، أي من الفئات الضعيفة، ولكن الحكومة المصرية أغلقت جميع المدارس السودانية مؤخرًا، وتزيد التوترات المطردة بين اللاجئين والمصريين من خطر استغلال طالبي اللجوء، كما أن مداهمات الشرطة المكثفة تؤثر عليهم أيضًا، على سبيل المثال، بعد عبور الحدود في الجنوب، يجب على السودانيين أولًا أن يشقوا طريقهم إلى مكتب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في القاهرة للتسجيل كلاجئين، وفي الطريق عليهم أن يمروا بالعديد من نقاط التفتيش، وبالتالي يمكن القبض عليهم وترحيلهم في أي لحظة".

أسوان

"أسوان أرض الذهب"، كُتبت الجملة على لافتات صغيرة في الميدان، فالذهب موجود هنا منذ القدم، تطل تينيكه ستريك على نهر النيل الذي يمتد على اتساعه من شرفة غرفة الفندق وبيدها كأس من النبيذ، لقد غربت الشمس، وعلى الجانب الآخر لا يوجد شيء يمكن رؤيته سوى بعض الأنوار وليل حالك السواد في الصحراء، كنا في مساء اليوم نفسه قد ركبنا الطائرة المتجهة إلى أسوان، المدينة الواقعة في أقصى جنوب مصر، وأول مكان رئيسي يصل إليه اللاجئون السودانيون، تقول ستريك: "غدًا سنذهب إلى الحدود، أشعر بالفضول، أريد أن أسمع كيف تسير الأمور هناك".

وصل خالد أيضًا إلى أسوان قبل عام، بعد أسبوعين من اندلاع الحرب غادر الخرطوم إلى مدينة وادي حلفا الحدودية، ليقدم طلبًا للحصول على تأشيرة دخول إلى القنصلية المصرية، كان والده المقيم في القاهرة يحتضر آنذاك، أراد رؤيته وتوديعه، لكن الحدود بين مصر والسودان، والتي كانت مفتوحة دائمًا في السابق، كانت قد أغلقت للتو بواسطة السلطات المصرية، بعد سبعة أشهر من انتظار تأشيرته اكتشف انتهاء صلاحية جواز سفره، قال: "إنها قصة حزينة، الأمر كله يتعلق بالمال، إذا كان لديك ما يكفي منه يمكنك شراء التأشيرة، لكنهم في القنصلية طلبوا مني ألفي دولار"!

العاصمة الإدارية الجديدة في القاهرة التي لا تزال قيد الإنشاء (المصدر: شاترستوك عبر كاتييك)


لم يكن لدى خالد مأوى، فعاش مع آلاف اللاجئين الآخرين في الشوارع، يقول: "وادي حلفا جميل جدًا بالنسبة للسياح، إذ تحيط بالمدينة حفريات نوبية من العصور القديمة، لكن كلاجئ، فهو مكان صعب لأنه يقع في الوادي، وبالتالي يصبح حارًا جدًا في الصيف، وتصل درجة الحرارة أحيانًا إلى 56 درجة مئوية، وفي الشتاء يصبح قارص البرودة، لا أحب التفكير في تلك الأوقات".

قرر خالد يائسًا أن يدفع مائتي دولار لأحد المهربين ليدخل مصر عبر الحدود، ركب مع 26 آخرين على ظهر شاحنة صغيرة، الرجال متشبثون تتدلى أرجلهم خارج السيارة، فيما النساء والأطفال في الداخل، كانوا مربوطين جميعهم بحبل حتى لا يسقطوا، وكان يعلم أن ذلك لم يكن مضمونًا، فأحيانًا كان الناس يسقطون من الشاحنات الصغيرة، التي كانت تتركهم وتمضي دونهم.

قادوا السيارة لمدة يومين، وكانوا لا يزالون وسط الصحراء عندما ارتفعت درجة حرارة المحرك، لم يتمكنوا من الاستمرار وتوقفت السيارة، لم يكن بحوزتهم سوى بعض التمر والبسكويت والقليل جدًا من الماء، فاضطروا إلى انتظار إحضار قطع الغيار، قام المهربون بخلط الماء بالغاز، لذا لم يشرب أحد إلا قطرات قليلة، وبعد مرور ستة أيام كاملة جاء أحدهم بقطع الغيار المطلوبة، يقول خالد: "كان ذلك في الوقت المناسب"، لكن عندما وصل أخيرًا إلى أسوان، عرف أن والده قد مات، وأنه تأخر عن اللحاق به حيًا، وصل بعد فوات الأوان.

يحاول خالد الآن البقاء على قيد الحياة في القاهرة، قام بالتسجيل في مكتب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين كلاجئ، وهو ما يحميه "نظريًا" من الترحيل، وأصبح همه الرئيسي هو كسب المال: "أعمل كعامل نظافة أو كاتب أو أي شيء أجده، نحن لا نحصل على أي شيء من الدولة، ولا نريد ذلك، فالسودانيون أناس لديهم كرامة ولا يحبون أن يذلوا أنفسهم".



كركر

نستقل سيارة تاكسي من أسوان في صباح اليوم التالي على طول نهر النيل عبر سد أسوان القديم، الذي بناه البريطانيون في السابق، عابرين الصحراء إلى قرية "كركر" التي تقع على الحدود مع السودان، اختفت العديد من القرى النوبية ومعها الثقافة القديمة عندما تم بناء السد العالي الجديد في الستينيات، وللتعويض عن ذلك، قامت الحكومة المصرية منذ 10 سنوات ببناء قرية جديدة على الطراز النوبي على الطريق، ومُنحت العائلات التي رحلت الحق في بيوت هناك، ولكن بما أن "كركر" لم تعد الآن على ضفة النيل الخصبة، بل في وسط الصحراء، لم يعد إليها سوى بضع مئات من الأسر، وظلت بقية المنازل، التي يزيد عددها عن ألفي منزل، خاوية، حيث وصلنا للتو.

عندما دخلنا إلى مسجد "كركر" كانت هناك حلقة كبيرة من الناس في انتظارنا؛ قرويون من ساكني القرية ولاجئون معًا، بعد إعطائنا زجاجة من عصير الليمون، شرح لنا زعيم القرية أنه بعد فترة وجيزة من اندلاع الحرب الأهلية في السودان في أبريل/ نيسان 2023، نزلت المجموعات الأولى من اللاجئين في محطة الحافلات بالقرية، كانت "كركر" هي المحطة الأولى بعد الحدود، قدم لهم سكان القرية الماء والطعام ووفروا لهم المأوى، ثم استمر وصول المزيد من السودانيين عبر الحدود، وسرعان ما أغلقت الحكومة المصرية حدودها، والآن تقيم حوالي 1150 عائلة سودانية هناك، جزء منهم  يقطن الآن في المنازل الفارغة التي استأجروها من أصحابها النوبيين.

يقول زعيم القرية أخيرًا: "إنه عبء ثقيل على سكان القرية، نحن بحاجة ماسة إلى الدعم"، فيما يقول أحد اللاجئين: "يجب أن نكون قادرين على التسجيل هنا، لأن السفر إلى القاهرة محفوف بمخاطر الاعتقال والترحيل"، وتقول امرأة مسنة ترتدي ثوبًا أسود: "ليس لدينا هنا أي شيء"، ويقول رجل يرتدي قميص أديداس البالي: "ليست لديّ أوراق وأخشى الاعتقال، ولكن لا يوجد عمل هنا". ويقول آخر: "لا يستطيع الأطفال الذهاب إلى المدرسة بعد هذه الحرب التي جاءت من حيث لا نحتسب".

لاجئون سودانيون يقطعون الحدود إلى مصر (Getty)


بينما يستمر الحديث في المسجد، أسير إلى القرية، تسطع الشمس ملتهبة على الرمال الصفراء، كل شيء عار، لا توجد حتى شجرة لتوفر ظلًا، بعض الأطفال يركضون في إحدى الزوايا، فيما عدا ذلك كان المكان خاليًا وهادئًا، أمام أحد البيوت الصغيرة تقف امرأة مسنّة وتدعوني للدخول، تعيش هنا مع ثلاث عائلات في غرفتين، كانت الغرفة الأولى عارية الجدران مفروشة بالأغطية، وفي الأخرى تجلس مجموعة من النساء يرتدين ملابس ملونة على الأرض ويأكلن من وعاء كبير، فيما تجمع ما يقرب من 14 طفلًا في الباحة، إنهم يشعرون بالملل: "إن شاء الله ستفتح المدرسة قريبًا"، تقول فتاة في العاشرة من عمرها بخجل من وراء ظهر جدتها.

يقول القنصل السوداني بصوت خافت: "سيعود 95 بالمئة من اللاجئين بمجرد أن يستقر بلدنا مرة أخرى"، إنه متأكد من ذلك، عدنا إلى أسوان ونجلس الآن في القنصلية السودانية التي تقع أعلى الطريق المشرف على منحدر، في مكتبه مقعد بنفسجي اللون وعلى جانبيه العلمان السوداني والمصري، يجلس القنصل على رأس طاولة مستطيلة يحيط به موظفوه على الجانبين، يدعو، من بين أمور أخرى، إلى توفير شاحنة متنقلة تابعة لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين حتى يتمكن الناس من التسجيل هنا أيضًا، وبالتالي تكون محمية بشكل أفضل من الترحيل، تعده ستريك بأنها ستطلب من البرلمان الأوروبي المزيد من الدعم للاجئين في مصر: "وسوف أؤكد على أن بعض الأموال سيتم إنفاقها هنا أيضًا". أومأ القنصل برأسه.

على الرغم من الانتقادات المحلية والدولية، صدّق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على قانون جديد للجوء في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وسيحول هذا القانون مسؤولية تسجيل طالبي اللجوء، وخاصة تحديد وضعهم كلاجئين، من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى الحكومة المصرية. وقد انتقدت منظمات حقوق الإنسان، بما في ذلك منظمة العفو الدولية، القانون بشدة، إذ لم تر فيه ضمانات مناسبة لحقوق اللاجئين، وكتبت منظمة العفو الدولية في بيان لها: "خاصة في ظل الاعتقالات الجماعية، وعمليات الترحيل غير القانونية التي تقوم بها الشرطة المصرية ضدهم"، وتضيف ستريك أيضًا: "بالإضافة إلى ذلك، هناك حزمة مالية منفصلة بقيمة 200 مليون يورو من أوروبا للتعاون في مجال الهجرة، يذهب معظم هذا المبلغ الآن إلى مراقبة الحدود وإعادة طالبي اللجوء، ولكن يذهب جزء صغير جدًا لحماية اللاجئين، ويجب أن يتغير هذا الوضع، فالتوازن مفقود".

القاهرة الجديدة

"مرحبًا بكم في العاصمة الجديدة"، يقول وزير الشؤون البرلمانية والقانونية والاتصال السياسي المصري محمود فوزي عند دخولنا مكتبه الفسيح في الوزارة، منذ عام 2015، يعمل الرئيس السيسي على بناء عاصمة جديدة على بعد حوالي 50 كيلومترًا شرق القاهرة وسط الصحراء، ومن المفترض أن تعكس المدينة "عظمة التاريخ المصري"، لكن كانت النتيجة مدينة مهووسة بالعظمة؛ بشوارعها الواسعة ومتنزهاتها ورخامها اللامع ونوافذها العاكسة، و"أطول ناطحة سحاب في العالم على شكل مسلة"، و"أطول سارية علم"، و"أطول برج"، و"أكبر مسجد في أفريقيا"، و"أكبر كنيسة قبطية في الشرق الأوسط"، والتكلفة: ما يقرب من 53 مليار يورو! وقد انتقل البرلمان والوزارات بالفعل إلى المدينة الجديدة.

يشير الوزير إلى النائبة البرلمانية تينيكه ستريك لتجلس على المقعد بجواره: "أود أن أتحدث عن الوظائف"، ثم يقول بعد انتهاء مراسم الترحيب الرسمية: "مصر بلد كبير، نحن نتحدث عن علاقة لا تتسم بالشروط بيننا وبين أوروبا". إنها نفس الكلمات التي سمعتها ستريك من السلطات من قبل، لا يريد الوزير أن يتدخل الاتحاد الأوروبي في حقوق الإنسان والديمقراطية وحرية التعبير كشرط للحصول على الأربعة مليارات التي تحصل بلاده عليها، وينفي وجود سجناء سياسيين (يقول لاحقًا إنه تم إطلاق سراح العديد منهم!)، وينفي أيضًا أن يكون قد تم حجب أي مواقع إعلامية على الإنترنت، إلا في حالة "الإرهابيين"، وتابع الوزير: "مصر تدخل الآن عصر الانفتاح"، ثم قام بتوزيع كتيب بعنوان: "الحوار الوطني، الطريق إلى الجمهورية الجديدة"، والذي يقول عنه القادة السياسيون في البلاد إن من شأنه أن يأخذ البلاد إلى مستقبل جديد "تُحترم فيه حقوق الإنسان".

يتم إحضار أطباق مليئة بالوجبات الخفيفة؛ خبز محمص مع سمك السلمون المدخن والشطائر والكعك مغطى بغلاف بلاستيكي، وكوب من عصير البرتقال الطازج، تمامًا كما حدث في ذلك الصباح عندما قدم لنا نفس الشيء أثناء زيارتنا لسجن العاشر من رمضان القمعي، وهو "مركز الإصلاح والتأهيل" رسميًا، بعد أن رفضت السلطات السماح لنا بزيارة السجين السياسي بدر محمد، وخلال الجولة، أظهرت السلطات المحتجزين وهم يرسمون ويدرسون ويقرأون الكتب في المكتبة، ويلعبون كرة القدم، ويغنون في مجموعات، ويحضرون القداس في قاعة الكنيسة، ويتلقون طعامًا شهيًا مكونًا من أطباق غنية محشوة بالدجاج مع الأرز بالزعفران، ويعالجون في مستشفى حديث متطور تقنيًا، قالت تينيكه ستريك بعد ذلك: "تعرف مصر جيدًا الصورة التي يجب أن تظهرها لأوروبا".

لكن منظمات حقوق الإنسان ترسم واقعًا أكثر قتامة، فهم يصفون كيف يتم احتجاز المعتقلين بشكل تعسفي، وتقول إن الجميع خائفون، فسجن العاشر من رمضان الذي زارته ستريك هو مركز اعتقال للسجناء السياسيين، "حيث يتعرض المعتقلون لأشكال مختلفة من التعذيب النفسي والجسدي، فضلًا عن الإهمال الطبي والتضييق على الزيارات"، وإن إضرابًا عن الطعام قد اندلع هناك في الرابع من كانون الثاني/ يناير الماضي احتجاجًا على الظروف المهينة التي يتعرضون لها واحتجازهم المطول قبل المحاكمة، والذي يصل أحيانًا إلى سبع سنوات من دون محاكمة ومن دون سبب واضح، إضافة إلى أن السجناء يقضون أحيانًا سنوات في الحبس الانفرادي مع إضاءة الأنوار على مدار 24 ساعة، وأن أبسط حقوق الإنسان الأساسية لا تُحترم في السجون، وأن هذه الانتهاكات تتزايد باطراد.

كما لاحظت منظمات حقوق الإنسان أيضًا أن ما يسمى بـ "الجمهورية الجديدة" لم يتم تحقيقها، وأن "الحوار الوطني" برمته ما هو إلا "أداة للعلاقات العامة"، وأن عدد السجناء السياسيين قد ازداد، خاصة بعد تفكيك النظام القانوني في مصر بشكل منهجي منذ عام 2013، كل هذا في غياب صحافة مستقلة، وازدياد القمع، كما أكدت منظمات حقوقية دولية أن حرية التعبير في مصر شهدت أكبر انتكاسة لها في فترة حكم ترامب الأولى، وأنها تخشى من ازديادها مع بدء فترة حكمه الثانية.

يمكن رؤية المسجد الكبير - وبجواره رافعات طويلة تواصل بناء المدينة الجديدة - عبر نوافذ مكتب وزير الشؤون البرلمانية والقانونية والاتصال السياسي المصري محمود فوزي، الذي يقول في النهاية: "نحن نبذل قصارى جهدنا لوقف جميع أشكال الهجرة غير الشرعية عن طريق القوارب باتجاه أوروبا"، ثم يجلس ويبتسم مضيفًا: "أتساءل ماذا سيحدث إذا أرسلنا حرس حدودنا في عطلة لمدة شهر؟".

في وقت لاحق، تقول تينيكه ستريك في السيارة: "مصر بحاجة ماسة إلى تلك الأموال، على عكس المليارات التي تستثمرها الإمارات على سبيل المثال في بناء مدينة جديدة على البحر، فإن الحكومة المصرية يمكنها أن تفعل ما تريد بالمليارات الأوروبية، لذلك يحق لنا أن نطالب بشيء في مقابلها، فما يحتاج المصريون إليه الآن، كما تقول منظمات حقوق الإنسان، هو تقليل حجم القمع، حتى يتمكن الشعب من التنفس قليلًا".

بينما أشرب كوبًا من القهوة السودانية على شرفة مقهى في حي فيصل القاهري، يأتي مكاشف البالغ من العمر 55 عامًا، رجل يرتدي ملابس سوداء، قبعة صوفية وسترة جلدية وبنطالًا من الجينز الأسود، يجلس على الطاولة المقابلة لي ويقول: "آتي إلى هنا كل يوم لأنسى الحرب"، ثم يكمل وهو يجاهد منع دموعه: "كانت حياتي جميلة في الخرطوم، لقد فقدنا بعضنا البعض، وهذا أسوأ ما في الأمر، نحن السودانيون شعب واحد ونريد السلام، اطلبوا من المحكمة الجنائية ودول العالم أن يوقفوا هذه الحرب".

(*) إيرينا فان دير لينده: كاتبة وصحافية هولندية من مواليد عام 1963، تعمل ضمن هيئة تحرير مجلة "ده خرونه أمستردامر" الأسبوعية منذ عام 2001، درست علوم التاريخ في جامعة أمستردام، وعملت لسنوات ككاتبة وصحافية مستقلة في العديد من الصحف اليومية والأسبوعية الهولندية والبلجيكية، كما سافرت على طول حدود أوروبا مع المصورة الوثائقية نيكول سيغرز، ونشرتا عام 2020 كتاب "دم وعسل: لقاءات على حدود البلقان"، وهو مزيج من الأدب الواقعي والتصوير الفوتوغرافي حول معنى الحدود الجديدة في بلدان يوغوسلافيا السابقة وألبانيا، وهو استكمال لكتابيهما السابقين "نهاية أوروبا: لقاءات على طول الحدود الشرقية الجديدة" (2004)، و"ريشة إسطنبول" (2010).

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.