ترجمة: سارة حبيب
[الحكايات الشعبية والفلسفة الرسمية تجعلنا نعيد التفكير بالقيم التي نعتز بها وبآرائنا إزاء العالم]
لطالما أرعبتني الحكاية الشعبية الهنغارية "الفتاة الجميلة إبرونكا" وعذبتني عندما كنتُ طفلًا. في تلك القصة، على الشابة إبرونكا أن تربط نفسها بالشيطان بواسطة حبل من أجل أن تكتشف حقائق هامة. وأحيانًا هذه الأيام يقلقني أنني، بوصفي طالبة دكتوراه في الفلسفة، فعلتُ المثل. إنني ما أزال أؤمن بقدرة الفلسفة على السعي للحقيقة، لكنني أدرك أنني ربطتُ نفسي بحبلِ إرثٍ أكاديميّ مبتلى بشياطين مرعبة.
تتخذ شياطين الفلسفة الأكاديمية هيئات مألوفة: الحصريّة، الهيمنة، والاستثمار في أسطورة العبقري الفرد. فكما تشير عالمة الأخلاق، جيل هيرناندز، كانت الفلسفة أبطأ تغييرًا من كثير من الاختصاصات الشقيقة في العلوم الإنسانية: "قد يكون هذا مفاجئًا لكثيرين... بما أن علم اللاهوت، وبالتأكيد الدراسات الدينية، تميل لأن تكون شاملة، لكن الفلسفة غالبًا ما تقاوم اشتمال أصوات متنوعة". في الوقت نفسه، أصبحت الفلسفة على نحو متزايد أكثر تخصصًا بسبب ضغوط إضفاء الطابع الاحترافي. يركّز الأكاديميون على مواضيع أضيق فأضيق من أجل تأسيس تخصصات فريدة، وأثناء ذلك، ما كان يومًا حقلًا معرفيًا يسعى لأجوبة على أسئلة البشرية الأكثر جوهرية يصبح أحجيةً مليئة بالمصطلحات مخصصة لمجموعة ضيقة من المطّلعين.
في السنوات الأخيرة، كان "توسيع المعتمد المكرّس" موضوعًا ساخنًا، إذ يجد الفلاسفة أكثر فأكثر أن حصريّة الحقل مناقضةٌ لتطلعاته الساعية نحو العمومية. يشير جي غارفيلد إلى أنه من غير المنطقي "تجاهل كل ما ليس مكتوبًا في المجال الأوروبي" (اليوروسفير) بقدر ما هو غير منطقي "ألا تقرأ سوى الفلسفة المنشورة في أيام الثلاثاء". مع هذا، الفلسفة الأكاديمية، وإلى حد كبير، فعلت ذلك تمامًا. فلم يبدأ الاتجاه السائد سوى في العقود الأخيرة الماضية بالانشغال جديًا بعمل النساء والمفكرين غير الأوروبيين. وغالبًا، يتضمن هذا المسعى تجاوزَ حدود ما يُدعى، تاريخيًا، "فلسفة".
عمومًا، ليس توسيع المعتمد المكرّس أمرًا سهلًا بقدر إعادة إبراز أطروحة فلسفية "معيارية"، أطروحة تتبع أسلوب المعاصرين من الذكور الأبيض وصادف أن تكون مكتوبة من قبل شخص خارج هذه الديمغرافيا. أحيانًا، يحدث هذا بالفعل، كما في حالة مارغريت كافنديش (1623 ــ 1673) التي جذب عملها تقديرًا متزايدًا في السنوات الأخيرة. لكن كافنديش كانت دوقة نيوكاسل، مؤيدة للملكية ونظريتها السياسية تنتقد قابلية الحركة الاجتماعية بوصفها تشكّل تهديدًا للنظام الاجتماعي. بالتالي، كان لديها حق الحصول على التعليم، الأمر الذي كان شيئًا غير معتاد إلى حد بعيد للنساء من خارج خلفيتها، وهو ما يضفي على عملها أسلوبًا وبنية "معياريين". إذًا، لإيجاد أصوات تتجاوز هذه النخبة، علينا غالبًا أن ننظر خارج هذا الأسلوب، وخارج هذه البنية.
كانت النصوص المصنَّفة سابقًا، وعن وجه حق، على أنها لاهوتية، من بين أوائل النصوص التي جذبت اهتمامًا كبيرًا متجددًا. كاتبات كاثوليكيات، مثل تيريزا من أفيلا، أو سور خوانا إينيس دي لا كروز، اللاتي كان عملهن متجاهَلًا إلى حد كبير خارج الأوساط اللاهوتية، يعاد اليوم النظر في عملهن من منظور فلسفي. بالمثل، تشمل أقسام الفلسفة تدريجيًا أعمالًا أكثر لفلاسفة بوذيين، مثل ديغناغا، وراتناكيرتي، حظيت إسهاماتهم المعرفية باهتمام خاص مؤخرًا. وقد يُدرَس الآن أمثال أولئك المفكرين في المناهج الدراسية إلى جانب أوغسطين، أو الأكويني، اللذين رغم ميلهما اللاهوتي، كانا يعدان "جديرين" بالانشغال الفلسفي.
في ما يخص موضوع "الجدارة"، أتحفظ على استخدام مفردة "فلسفة" بوصفها تشريفية. فمن الضروري ألا ينطوي اهتمامنا بتوسيع المعتمد المكرس على تضمين بأن سمة "فلسفي" تسبغ درجة صرامة أكثر من اللاهوتي، الأدبي، إلى آخره. وفعل هذا يعني الانخراط في جدال قصير النظر وممل حول الحدود الأكاديمية. السؤال الذي حفزني لا يدور حول ما يمكن لتصنيف "فلسفة" أن يضفيه على هذه النصوص، بل ما الذي يمكن لهذه النصوص أن تجلبه للفلسفة. إذا كانت الفلسفة تسعى لمعرفة معمقة لطبيعة مواضيع عامة مثل الواقع، المبادئ الأخلاقية، الفن والمعرفة، فعليها أن تبحث عن مدخلات ممّ يتجاوز القلة الضيقة. الانخراط باللاهوت بداية عظيمة، لكن أولئك المؤلفين لا يزالون إلى حد كبير يمثلون ديموغرافيا متعلمة نخبوية، وتثير كثيرًا من المخاوف المماثلة التي تخص الميل الفرداني، الحصري، والمهيمن.
تسخر هيرناندز قائلة: "نعرف أن الرجال البيض الغربيين لم يحتكروا الأسئلة الفلسفية ذات العمق الإنساني". وعلاوة على ذلك، "نعلم أيضًا، عن دراية، أن الفلسفة كحقل معرفي تحتاج إلى (ويجب أن) تخضع لتأمل ذاتي كبير لتنجو... في زمن تزداد صعوبته باستمرار بالنسبة إلى الحقول المعرفية الأكاديمية الحصرية المتجانسة". في ضوء شياطيننا سالفة الذكر، يبدو أن الفلسفة في حاجة ملحّة إلى طرد الأرواح الشريرة.
أقترح أن أحد الطرق المؤدية نحو الأمام هي بالسفر إلى الوراء نحو الطفولة؛ إلى قصص مثل قصة إبرونكا. التراث الشعبي (أو الفولكلور، وهنا القصص الشعبية خصوصًا) يشكّل مخزونًا مهملًا للتفكير الفلسفي القادم من أصوات خارج المعتمد المكرس التقليدي. وهو، على هذا النحو، يقدم نموذجًا لمقاربات جديدة تستجيب مباشرة للمشاكل التي تواجه الفلسفة الأكاديمية اليوم. هكذا، مثل إبرونكا، نجد أنفسنا مربوطين إلى الشيطان، وأحد طرق تحرير أنفسنا قد تكون بنسج حكاية.
نشأ التراث الشعبي وتطور شفهيًا. ازدهر لزمن طويل بعيدًا عن طبقات النخبة، المتعلمة المكونة من ذكور في أغلبها. أي شخص لديه قصة يرويها وصديق، ابن أو حفيد ليستمع إليها، يمكن أن يبتكر تراثًا شعبيًا. ورغم المجازفة بأن هذا القول بديهي، "الشعب" (الناس) هم صميم التراث الشعبي. النساء، على وجه الخصوص، كنّ تاريخيًا مبتكرات رئيسيات للتراث الشعبي وحافظات له. في كتاب "من الوحش إلى الشقراء" (1995)، تكتب المؤرخة مارينا وورنر أن "النمط السائد يُظهر نساء أكبر سنًا، ومن منزلة أدنى، يسلمّن هذه المادة لناس أصغر سنًا".
وُجِد التراث الشعبي بشكل ما في كل ثقافة، وفي كل منها جلب مجموعات غير ممثلة بشكل جيد إلى الصدارة. وإذ نتطلع إلى توسيع المعتمد المكرس، يشكّل التراث الشعبي مصدرًا فكريًا غنيًا يتناول مواضيع ذات اهتمام فلسفي مع إمكانية رفع مجموعة كبيرة من الأصوات التي كانت حتى الآن مهملة إلى حد كبير.
في قصيدته الساخرة "معضلة الورَش" (1890)، يصف روديارد كيبلينغ الرسم الأول الذي خربشه آدم على تراب عدن بواسطة عصا:
... كان سعادة لقلبه القوي،
إلى أن همس الشيطان من خلف الأوراق: "جميل، ولكن هل هو فن؟"
بالمثل، يمكن لنا أن نسأل: قد يكون التراث الشعبي شاملًا، لكن هل هو فلسفة؟
للإجابة عن هذا السؤال، نحتاج على الأقل إلى تعريف فضفاض للفلسفة. وهذا أمر من العسير تقديمه. لكن، إذا أُلِّح عليّ، سألجأ إلى أرسطو الذي تقدم "الميتافيزيقيا" خاصته تلميحًا: "بسبب دهشتهم يبدأ الرجال الآن، كما بدأوا بداية، بأن يتفلسفوا". حسب رأيي، الفلسفة وسيلة للانخراط المندهش، ممارسةٌ يمكن أن تزاوَل في الدراسات الأكاديمية، في النصوص اللاهوتية، في القصص، في الصلاة، في المحادثات على طاولة العشاء، في التأمل الصامت، وفي التصرفات. وهذا الشعور بالدهشة هو ما يوجهنا نحو اختراق مظاهر القيمة الظاهرية والنظر إلى الواقع من جديد.
وفقًا لهذا المنظور، من غير المفاجئ أن يوجد أحد حلول أزمة الفلسفة في تسالي الطفولة. في الطفولة، نرى العالم حرفيًا بعيون جديدة؛ في هذه المرحلة يكون الشعور بالدهشة على أشدّه. جميعنا سمع طفلًا يسأل "لماذا؟"، فأدركنا ليس أننا لا نعرف الإجابة فحسب، بل أننا نسينا كم هو السؤال أساسًا محيرٌ إلى حد لا يصدق. بالمثل، الدهشة والحكايات الشعبية مرتبطة. Wundermärchen- الكلمة الألمانية الأصلية المقابلة لحكاية شعبية ــ تُترجم حرفيًا إلى "حكاية الدهشة". وربما هذا هو السبب في أن الأطفال يحبون الحكايات الشعبية. في معظم الثقافات، الحكايات الشعبية سابقةٌ على التمييزات الاجتماعية الواسعة بين ترفيه البالغين وترفيه الأطفال. لكن، بينما تجاوزت تسالٍ أخرى أكثر بهرجة مجال البالغين إلى حد كبير، حافظت الحكايات الشعبية على سحرها على الأطفال. إنها تتحدث لغة الطفل. تحير وتفاجئ وتخيّم. إنها تجعلنا نتساءل "لماذا؟" وهي تدعونا لأن نتخيل طرق استجابة جديدة.
نظرة أرسطو المبنية على الدهشة إزاء الفلسفة لم تكن محط قبول الجميع. رفض الراحل هاري فرانكفورت هذا التحليل للذي يجعل سؤالًا ما فلسفيًا، مُعارضًا ذلك في كتابه "أسباب الحب" (2004) بالقول:
من غير الملائم وصف هذه الأشياء على أنها مُحيِّرة فحسب. إنها مذهلة. إنها أعاجيب. ولا بدّ أن الاستجابة التي استحثتها كانت أعمق، وأكثر إقلاقًا، من مجرد "تعجب من أن المسألة كذلك"، على حد تعبير أرسطو. كما لا بد أنها تردد صدى شعور بالغموض، بالخارق للطبيعة، بالرهبة.
لكن الدهشة، الخوف، والرهبة أصدقاءٌ قدامى. ومثل أي طالبة مدرسة كاثوليكية، تعلمتُ أن "الخوف من الله" كان مجرد اسم آخر لـ"الدهشة والروع". ويبدو أن التراث الشعبي والفلسفة يلتقيان عند هذا التقاطع، حيث تجتمع الدهشة والخوف عند شيء مقلق وعجيب. دارسة التراث الشعبي ماريا تاتار تكتب أنه، في عالم التراث الشعبي، "أي شيء يمكن أن يحدث، وما يحدث غالبًا ما يكون مُجفَّلًا... لدرجة أنه غالبًا ما يُنتج صدمة". يعمل كلّ من التراث الشعبي والفلسفة على تجفيلنا. وتطالبنا الفلسفة أن نواجه أعمق ضروب قلق البشرية وتوقها. فحتى لو أخفيناها على هيئة أفعال عامة وتفاعلات، تظل الفلسفة معنية جدًا برعداتنا وتنهيداتنا. وقد يكون التراث الشعبي، بغاباته وأشباحه، المخزونَ التاريخي الأوسع نطاقًا لهذه المخاوف.
تذهب دارسة التراث الشعبي رييت هيمي إلى حد القول إن "الخوف الإنساني" هو ما "حفّز نشوء ظواهر التراث الشعبي وصياغتها". التراث الشعبي محاولة تخيّلية لفهم ما يتعذر تفسيره. بتفهم ما يخيفنا، نعرف من نحن. وإذا أردنا أن نكتشف ما الذي يخيفنا، فإن "الغابة السوداء" هي أول مكان علينا البحث فيه.
تثير كل من الفلسفة والتراث الشعبي هذا الإحساس بالخوف المندهش، الرهبة المُجفِّلة. وهما أيضًا يشتركان في هدف مزدوج عبّر عنه جيدًا برونو بيتلهايم في كتابه "استخدامات السحر" (1976). بالنسبة إليه، هدف التراث الشعبي هو مساعدتنا على "ألا نعيش لحظة بلحظة فحسب، بل في وعي حقيقي بوجودنا". هنا، كما في الفلسفة، ثمة بحث عن الحقيقة، ما يعني أن ننتبه بصورة مجدية إلى بنى الواقع التي غالبًا ما نرى فيها أمرًا مفروغًا منه، أن ندرك العالم بوصفه أكثر من مجرد مَشاهد.
ثانيًا، ثمة هدف عيشِ الحياة جيدًا، الرغبة بأن يخدم استقصاؤنا الفكري تجربتَنا المعاشة، أن نعيش فلسفتنا ونتنفسها مثلما نتأملها. والتطبيق الفلسفي الأكثر وضوحًا للتراث الشعبي هو علم الأخلاق. معظمنا يعرف الدرس الأخلاقي الختامي الموجود في نهاية حكايات الطفولة المألوفة. تناقش وورنر أن أحد الجوانب الأكثر قيمة لهذا الوسيط هو وضعه الأصوات المهمشة في مركز الجدالات الأخلاقية. تكتب وورنر أن "الطرق البديلة لغربلة الصواب والخطأ تتطلب أدوات توجيه مختلفة، أدوات توجيه ربما تكون موصومة أو مهملة". وإذا كانت أزمة الفلسفة فعلًا تعود في جزء منها إلى ديمغرافية "أدوات توجيه" محدودة بشكل ضيق، فالتراث الشعبي مكان غني للبحث عن أدوات توجيه جديدة. يقترح بيتلهايم أيضًا أن الحكايات الشعبية في مستواها الأكثر جوهرية مشحونة معياريًا:
موجهًا انتباهه إلى سؤال "هل هذا حقيقي؟"، يشير تولكين إلى أنه "ليس سؤالًا يمكن الإجابة عليه بتسرع، أو بإهمال". يضيف أن السؤال الذي يشغل حقًا الطفل أكثر هو: "هل كان طيبًا؟ هل كان شريرًا؟"، أي أن [الطفل] أكثر اهتمامًا بتوضيح الجانب المحق والجانب المخطئ.
قبل أن يتمكن الطفل من مواجهة الواقع، يجب أن يمتلك إطارًا مرجعيًا لتقييمه. وعندما يسأل فيما إذا كانت القصة حقيقية، فإنه يريد أن يعرف إذا كانت القصة تقدم شيئًا مهمًا للفهم خاصته، وفيما إذا كان لديها شيء هام تخبره إياه فيما يخص أكبر مخاوفه.
بتمشيط التراث الشعبي، من السهل العثور على قصص تنطبق جيدًا على مخاوفنا المعاصرة؛ حتى أن كثيرًا منها تعكس بنية تجارب فكرية أخلاقية جوهرية. على سبيل المثال، في الحكاية الروسية التقليدية "إيليا موروميتس والتنين"، على البطل أن يختار بين مساعدة ملك في أرض بعيدة تكون مملكته مبتلاة بالتنانين، والعودة لخدمة بلده الأم الذي هو في حاجة ماسة أقل إليه. في هذه الحكاية، تبرز ثيمات الانحياز، الجماعة والنزعة القومية. هل الحاجة الكبيرة إلى المرء تهيمن على انحيازه نحو عائلته، أمته، جماعته؟ يمكن أن نرى حالات مشابهة كثيرة في كثير من التجارب الفكرية المشهورة في علم الأخلاق المعاصر. سواء أكان المرء يقفز من رصيف بحري لإنقاذ امرأة تغرق، يُحرّك عربة، أو يفسد حذاءه الجديد في مستنقع لإنقاذ طفل، كان الفلاسفة منشغلين لزمن طويل بما إذا كانت التزاماتنا نحو الأليف والغريب تتباين وكيف تتباين.
وعندما يستبعد أحدهما الآخر، هل يجب على المرء أن ينقذ حياة صديقه، أو حياة غريب؟
يظهر مثال مفحم آخر في الحكاية الشعبية الهاييتية "بابا الله والجنرال موت". ثمة أدب أخلاقي واسع يتناول طبيعة الموت وقيمته: كتاب فريد فيلدمان "مواجهات مع حاصد الأرواح" (1992) يعطي مقدمة مفيدة للجوانب المثيرة للجدال في هذه المسألة. هل الموت شر عظيم؟ هل هو شكل من أشكال الظلم؟ تقدم هذه الحكاية مناقشة تدافع عن الموت. يزعم بابا الله أن الناس يحبونه أكثر من الجنرال موت، لأنه يمنحهم الحياة، في حين أن الموت يسلبها فحسب. ولإثبات ذلك، يطلب بابا الله الماء من رجل من المحليين. الرجل، عند سماعه أن ذلك الشخص هو الله، يرفض أن يعطيه الشراب. وعند سؤاله، يشرح الرجل أنه يفضّل الموت على الله:
لأنه ليس للموت أشخاص مفضلون. الغني، الفقير، الشاب، العجوز جميعهم متساوون عنده... الموت يأخذ من كل المنازل. لكن أنت، أنت تعطي كل الماء لبعض الناس، وتتركني هنا مع عشرة أميال يتعين عليّ أن أقطعها على حماري لأجل قطرة واحدة فقط.
تقلب هذه الحكاية افتراضاتنا رأسًا على عقب، إذ تقيم الحجة الواضحة ضد الفرضيات المسبقة الشائعة التي تقول بأن الموت شر أخلاقي. وبكونه عامًا، الموت في الواقع هو شكل من أشكال العدالة على نحو لا يمكن للحياة أن تكونه قط.
في كثير من الثقافات، كان للتراث الشعبي مغزىً أخلاقي أكبر. على سبيل المثال، يناقش الباحثان أولوالي كوكر، وأديسينا كوكر، أنه في ثقافة اليوروبا يلعب التراث الشعبي دورًا كبيرًا في "توليد القوانين التي تحكم العلاقات الداخلية، والعلاقات بين الأشخاص، التماسك الجماعاتي، النظام الأخلاقي، ونظام العدالة". ويدعون هذه العلاقة باسم "القانون الشعبي"، شارحين أن التراث الشعبي يؤدي وظيفةَ نظام أخلاقي شبيه بالقانون يشكّل أساس الممارسات الاجتماعية. كذلك، يؤكدون أيضًا أن التراث الشعبي هو "ممر للفلسفة الوجودية بين شعب اليوروبا"، حيث أن المآزق الأخلاقية تُستَكشف بشكل رئيسي من خلال قصة. منذ زمن طويل، أخذ شعب اليوروبا التراث الشعبي على محمل الجد بوصفه مصدرًا للاستدلال الأخلاقي.
بالإضافة إلى علم الأخلاق، يلامس التراث الشعبي كل فروع الفلسفة. من حيث فحواه الميتافيزيقي، يشكّل التراث الشعبي البوذي مثالًا لافتًا. عندما تكون "الدارما" ــ التي تعني على وجه التقريب طبيعة الواقع المطلقة ــ "مستدخلة، فإنها تُعلَّم بشكل طبيعي جدًا على شكل قصص شعبية: حكايات جاتاكا في البوذية الكلاسيكية، مسائل الكوان في الزن"، كما يكتب معلم الزن روبرت إيكن روشي. يقدم الفيلسوفان جينغ خوانغ، وجوناردن غانِري، تحليلًا فلسفيًا مذهلًا لحكاية شعبية بوذية يبدو أنها تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، ترجماها إلى "هل هذا أنا؟" ويناقشان أن الحكاية تُنشئ معضلة ميتافيزيقية شبيهة بالتجربة الفكرية "سفينة ثيسيوس" لبلوتارخ حاثة إيانا على التشكيك بطبيعة الهوية الشخصية:
تروي القصة حكاية لقاء مشؤوم بين مسافر وزوج من الشياطين، يحمل أحدهما جثة. وبينما يقتلع الشيطان الأول أحد ذراعي الرجل، يأخذ الشيطان الثاني ذراعًا من الجثة ويزرعها مكانها. ثم تتابع هذه الرياضة إلى أن يُستبدَل بكامل جسد الرجل، عضو مقتلع من عضو، أجزاء جسد الجثة. فيسأل الرجل نفسه بشكل متكرر: "ما الذي حلّ بي؟".
تختبر هذه الحكاية بداهاتنا حول العلاقة بين أجزاء كينونة ما وكليتها. عند أي حد يصبح إجمالي الأجزاء هو الرجل؟ أي نوع من الاستبدال المادي ينطوي على تغيير في الهوية؟
خلاصة الحكاية تضع في الصدارة مقاربةً بديلة لعلم المعرفة. وباتباع تقليد مدرسة المادياماكا البوذي المسمى "التيتراليما" (منهج يتيح التفكير في أربعة اتجاهات) تحدد الحكاية أربع استجابات ممكنة للمعضلة: هل الجسد المستبدَل هو الرجل الأصلي؟ 1) نعم، إنه الرجل. 2) لا، ليس الرجل. 3) إنه الرجل وليس الرجل. 4) إنه ليس الرجل وليس ليس الرجل. تتقدم الحكاية لتُظهر أن كلًا من هذه الخيارات يقود إلى عبث ما. وهذا يؤدي دور مناقشة "دحض النقيض" ضد فكرة الهوية الشخصية ككل، مقترِحًا أن المفهوم كان، منذ البداية، فارغًا أو معرَّفًا بشكل غير صحيح. كذلك، تؤكد حكايات أخرى الفكرةَ الأكثر جذرية القائلة بأنه من الاتساق رفض أو قبول كل الاستجابات الأربع في الآن ذاته.
ألهمت هذه المقاربة غير التقليدية لعلم المعرفة فكرةَ المشتغلِ بالمنطق غراهام بريست عن الدياليثية (من الكلمتين اليونانيتين "di" مزدوجة و"alḗtheia" حقيقة) التي تفترض انسجام الدياليثيات (المتناقضات الصحيحة)؛ فرضيات مترابطة تتضمن جملة ونفيها. يقدم تطور الدياليثية مثالًا على حالة لعبت فيها الحكايات القديمة سلفًا دورًا محوريًا في تحدي افتراضات معرفية لا جدال فيها. أيٌّ رؤى فلسفية أخرى يمكن أن تقبع مختبئة في التراث الشعبي؟ أي أسئلة جديدة يمكن لها أن تُطرَح، وكيف يمكن لها أن توسّع فهمنا لنطاق الأجوبة المتوفرة؟
ثم هنالك مسألة المنهجية: عندما يواجَه بحكاية شعبية، كيف يمكن لفيلسوف متعاطف أن يمضي؟ عمومًا، سوف لن تعطينا الحكايات مناقشات معبأة مسبقًا بترتيب في قالب "مقدمة ــ نتيجة". وسنحتاج إلى وضعها قيد التأويل من أجل فهم السمات السياقية والأسلوبية الضرورية لاستخلاص الرؤى الفلسفية. ستكون هناك حقائق تأويلية، أدبية وأنثروبولوجية، لأخذها بعين الاعتبار. وربما يكون الفلاسفة غير مهيئين للقيام بهذا الفعل لوحدهم- لحسن الحظ! الاشتغال المشترك بين الاختصاصات يوسّع استقصاءنا ويُثري كل المنخرطين فيه. وكم سيكون رائعًا أن تتعاون الأقسام أكثر، أن نرى أبحاثًا منشورة بشكل مشترك بين مشتغلين في التراث الشعبي وميتافيزيقيين، أن يتجاوز بحثنا عن الحقيقة التقسيمات الأكاديمية البيروقراطية، ويقودنا عبر طرق القصص اللولبية، طرق تشاركناها في الطفولة، لكننا نسيناها منذ زمن بعيد.
لكنْ، قبل أن نشحذ أقلامنا للبحث عن براهين، سأدعو زملائي الفلاسفة أن يكونوا منفتحين على مقاربات بديلة للانخراط بالأفكار الفلسفية. لا تسيئوا فهمي، أحب قالب مقدمة ــ نتيجة بقدر أي شخص آخر (وربما أكثر بكثير، ما لم يكن الشخص الآخر هو أيضًا خريج قسم الميتافيزيقيا). لكن من الواضح أنه سيكون من غير المنطقي افتراضُ أن كل الفهم الفلسفي يُسجَّل بذلك القالب. (ونحن محبو الدلائل نشتهر بمقت اللامنطقية).
في الحكايات الشعبية، قد لا نجد دومًا مناقشات، على الأقل كما يتم تأويلها عادة. وهذا ليس دليلًا على العجز الفلسفي. التحيز الأوروبي للمعتمد المكرس يميل لأن يميز بنية جدلية خاصة. لكن القصص ليست جديدة على الفلسفة: أفلاطون، فريدريك نيتشه، سورين كيركيغارد، كانوا جميعًا رواة قصص على نحو واضح. واليوم حتى الفلسفة التحليلية الأكثر صرامة منهجيًا ليست منيعة أمام إغراء السرد. أنظر فحسب إلى توصيف بيتلهايم لوظيفة الحكايات الخرافية، والذي قد نخلط بينه وبين توصيف التجربة الفكرية المعاصرة:
من خصائص الحكايات الخرافية أن تعرض معضلة وجودية باختصار وبتركيز... [من أجل] التعامل مع المشكلة بشكلها الأكثر أساسية...
القص وثيق الصلة بالتقليد الفلسفي، رغم تراجع تلك الصلة بشكل عام في الآونة الأخيرة ("الأخيرة" في تاريخ الفلسفة الطويل يمكن أن تعني بضعة قرون). لكن السابقة التاريخية للسرد في الفلسفة ليست تبريره الوحيد. فحيث تنحرف بنية التراث الشعبي عن التقليد الفلسفي هو ربما الحيز الذي يمكن فيه لتأثير هذا التراث أن يكون أكثر نفعًا. التراث الشعبي مليءٌ بالتحول السحري. إنه يلقي تعويذته، وأعتقد أن علينا أن نسمح له بذلك. والتوسيع الأكثر فعالية للمعتمد المكرس من شأنه أن يتجاوز مجرد الإضافة إلى التغيير المنهجي.
يقدم التراث الشعبي نموذجًا جديدًا للاستقصاء يتمتع بقدرة على تغيير الحقل المعرفي الفلسفي بطرق مشوقة، معيدًا إحياءه من الداخل. كيف يمكن للفلسفة أن تبدو خارج افتراضات المؤسسات الأكاديمية المعاصرة؟ كيف يمكن للتراث الشعبي أن يلقي ضوءًا على طرق استدلال بديلة، يطرح أحجيات جديدة، ويوسّع نطاق الأجوبة قيد البحث؟
يناقش لودفيغ إدلشتاين، وهو دارس لأفلاطون، أن قص الحكايات يلعب دورًا تفسيريًا هامًا: من خلال القصص، "نقاوم الشعوذة بالشعوذة". ويؤكد أن البحث الإنساني عن المعنى يتحقق على النحو الأفضل عندما نستخدم كلًا من طبيعتنا العقلانية وطبيعتنا العاطفية. بما أن "كلا هذين الجزأين من الروح الإنسانية يجب أن يكونا موضع اهتمام متساو من قبل الفيلسوف"، القصص أداة قيمة لنقل الأفكار بأقصى قدر من التأثير.
هذه القيمة مجدية في سعينا لتوسيع امتداد الفلسفة خارج قلة متخصصة ضيقة. التراث الشعبي وسيلة احتواء موسع؛ إنه يتجاوز الحدود الطبقية والتعليمية. يشير كاتب التخييل كارل تشابيك: "الحكاية الشعبية الخيالية الحقيقية لا تنشأ من كونها تُدوَّن من قبل جامع التراث الشعبي، بل من كونها تُروى من الجدة لأحفادها". إنها معدة لمشاركة واسعة، وبنيتها المألوفة والمسلية تجعل الأفكار المعقدة في متناول مجموعة من الجماهير عبر حقول معرفية مختلفة، وتتجاوز المؤسسات الأكاديمية.
سمة أخرى جديرة بالملاحظة للتراث الشعبي هي تأكيده على الجماعية (كون الشيء جماعيًا). بالنسبة إلى الغالبية، كلمة "فلسفة" تستحضر سلالة من العباقرة: كثيرون من أمثال أرسطو، أمثال سارتر، أمثال كانط. وقد أعطى هذا الحقل المعرفي قيمة أعلى لأفراد لا علاقة بينهم، مصوِّرًا إسهاماتهم الثورية في الفراغ. في السنوات الأخيرة، طعن كثيرون بهذه السردية. ويعلن عالم الاجتماع سال ريستيفو: "أعطني عبقريًا، أعطِك شبكة اجتماعية". بالتالي، ثمة ميل متزايد نحو إدراك التطور بوصفه مسألة تعاون أكثر منه مسألة ملكية تعود لأفراد لا علاقة بينهم.
للتراث الشعبي باع طويل في هذه الروح. في "الجلوس عند قدمي الماضي" (1992)، وهي مجموعة من المقالات حول الحكاية الشعبية في أميركا الشمالية، يكتب ستيف سانفيلد: "لا أحد يملك هذه القصص... إنها تتغير مع كل مرة تروى فيها". الحكايات بطبيعتها مشاع، ليس لها مؤلف واحد. المستمعون يغيرون القصص، يتذكرونها على نحو خاطئ، ينمّقونها، ويغيّرون معناها مع كل إعادة قص. على هذا النحو، إنها أسلوب تفكير جمعي وعابر للزمن، استقصاء تعاوني يستمر عبر القرون.
كذلك، يتناقض النموذج الجيلي للتراث الشعبي مع عمى الفلسفة عن تاريخيتها التي لطالما كانت موضع تذمر، عماها عن السياق والطارئية. لاحظ الباحث الأدبي كارل كروبر في كتابه "إعادة القص/ إعادة القراءة: مصير قص الحكايات في الأزمنة الحديثة" (1992):
كل السرديات الهامة تروى من جديد، ومن المفترض أن تروى من جديد، رغم أن كل إعادة قص هي تجديد. هكذا، يمكن للقصة أن تحفظ الأفكار، والمعتقدات، والقناعات، من دون أن تسمح لها أن تقسو متحولة إلى عقيدة مجردة. يتيح لنا السرد أن نختبر مبادئنا الأخلاقية في مخيلاتنا، حيث يمكن لنا أن نُشركها في إبهامات الظرف الطارئ وفوضاه.
التراث الشعبي تاريخيّ صراحةً، ومتغير باستمرار صراحة. تتطور الحكايات مع إسهامات الرواة المتعاقبين، ومع هذا، في ما يبقى منها، بوسعنا أن نشهد العمليات الفكرية التي تقارب رجع الصدى الأزلي. وتتفوق هذه الطريقة على النموذج الفلسفي الأوروبي الذي يمكن أن يحجب التاريخ الأوسع للأفكار في إصراره على سعي مختصر وفردي للعالميّ. القص لا يخشى الانخراط بالسياقي، بالفوضوي وبخصوصية الحقيقي على نحو تجد بنى الفلسفة البدائية صعوبة في فعله. وهو، بهذا، يقدم طريقًا أكثر خضوعًا لدراسة متعمقة نحو ما يمكن أن يدعى بالعالمي. التراث الشعبي انعكاس للآن الذي يُروى منه، وهو كذلك تسجيل لما يبقى على مدى حقبِ آناتٍ متتالية. التراث الشعبي، إذا استخدمنا استعارة كروبر، يحفظ الأفكار "برقّة". إنه وضع الأزهار في مزهرية بدلًا من تجفيفها؛ السرد الرطب متحرك باستمرار، متغير باستمرار، لذلك تبقى الأفكار خضراء ولا تصبح هشة.
لطالما أثرت بي نهاية قصة "الفتاة الجميلة إبرونكا". تقف إبرونكا عند مقبرة القرية، فتاة شابة تواجه شيطانًا في هيئة رجل رفيع الثقافة. نتوقع أن تصرخ، أن تركض، أو تقاتل. لكنها بدلًا من ذلك، تروي له قصة، قصة تحتوي على الحقيقة. تبدأ من بداية الحكاية ذاتها، مختطِفةً دور الراوي، رابطة القصة بحلقة من التكرار. وبفعلها هذا فحسب يُهزم الشيطان، وتُستعاد حيوات ضحيته.
(*) أبيغايل تولينكو: كاتبة، مصورة، وطالبة دكتوراه في قسم الفلسفة، جامعة هارفرد، تدرس فلسفة العلم.
رابط النص الأصلي:
https://aeon.co/essays/folktales-like-philosophy-startle-us-into-rethinking-our-values