لو عدنا إلى محاورة "إيون"، وهي من أولى محاورات أفلاطون، لوجدنا أنها تضم شخصيتين: سقراط من ناحية، ومن جهة ثانية إيون، "الرابسودي"، الذي كان فاز لتوّه في مسابقة شعرية كان عليه فيها أن يقرأ ويفسر عملًا لشاعر، لم يكن يومها سوى هوميروس. من هنا يأتي العنوان الفرعي لهذا الحوار "محاورة أفلاطون": "في الإلياذة"، وقد دار حول الفن الرابسودي، وبشكل عام حول فن الشاعر، وهو ما يضعه سقراط في مقابل فن الحرفي والفيلسوف.
حول هذه القضية، ولفهمها، يتطرق الباحث الفرنسي مايل غوارزين (Maël Goarzin) في ورقته هذه إلى عرضين: الأول، يقدم فيه بطريقة واسعة، الثقافة اليونانية القديمة، أي السياق الذي يتموضع فيه هوميروس نفسه والذي سيرد عليه أفلاطون في إيون. وبذلك نرى أهمية هوميروس والملحمة الهوميرية في الثقافة اليونانية القديمة (ما بين القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد)، وما بعد هذه الفترة، في جميع أنحاء اليونان القديمة. والثاني يعرض فيه بالتفصيل لهذا الحوار من أجل فهمه وفهم الإشكالية التي تتضمنها هذه المحاورة.
وغوارزين تابع دراسته في الفلسفة القديمة بجامعة لوزان ومن ثم المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في باريس. وهو يدير أيضًا مدونة "كيف نعيش حياتنا اليومية؟" وهي مخصصة للفلسفة كأسلوب حياة كما لأهمية الفلسفة القديمة وموضوعها. وهو عضو في جمعية Stoa Gallica لدراسة وممارسة الرواقية المعاصرة.
هذا النص عن مجلة "الفلسفة" (الإلكترونية)، وقد نشر بتاريخ 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020:
إعادة تموضع التساؤل في الثقافة اليونانية القديمة
تتميز، ما يمكن لنا أن نسميها، اليونان القديمة (في القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد) بالشفهية. والشخصية التي تمثل ثقافتها بامتياز هي الشاعر، الذي ينقل شفهيًا القصص الأسطورية والأغاني الشعرية مثل الملاحم والقصائد الطويلة التي تروي المآثر التاريخية أو الأسطورية لبطل أو شعب ما. وتقوم التربية على الاستماع إلى هذه الأغاني الشعرية التي يتناقلها الشعراء من جيل إلى جيل. تم جمع كل المعرفة في هذه القصص الأسطورية التي يرويها الشاعر. وهكذا فإن الشاعر يمثل الذاكرة الجماعية لليونانيين، حيث أن هذه الأغاني الشعرية تجمع كل ما يجب أن يعرفه اليوناني. ولذلك كان لها دور أساسي في الثقافة اليونانية القديمة التي لم تكن قد عرفت الكتابة بعد. أورفيوس، الأمير التراقي الأسطوري، ابن عروس الشعر كاليوب، هو شخصية الشاعر بامتياز. يسحر الحيوانات بجمال أغانيه.
ما الذي ترويه لنا هذه القصص الأسطورية؟ يمكن أن نميز ما بين بُعدين. بداية، هذه القصص الأسطورية لها بعد ديني قوي. الشعراء الأوائل هم كهنة. إنهم يغنون أولًا تمجيد الآلهة، وكذلك نسبهم. وبعد ذلك فقط يغنون مآثر أبطال الماضي: وهكذا يبكي أوديسيوس أثناء الاستماع إلى الشاعر ديمودوكوس وهو يخبره عن حرب طروادة. هنا يغني الشاعر مآثر الأبطال اليونانيين والأبطال الطرواديين الذين شاركوا في حرب طروادة. بيد أن البُعد الديني لا يغيب تمامًا عن هذه القصص، إذ يمكن تعريف البطل بأنه رجل استثنائي ينجز مآثر بفضل شجاعته وبراعته، ويرقى فوق أقرانه، لدرجة أن تكرس له عبادة معينة.
أحد الأمثلة على قصة أسطورية ذات بعد ديني قوي جدًا هي قصة هسيود الــ تيوغونيا (Théogonie) (*). يحكي هذا العمل أصل العالم والآلهة، ويظل أحد أسس الأساطير اليونانية كما نعرفها اليوم، مع ملاحم هوميروس. ففيه نجد مثلًا قصة ولادة أفروديت محاطة بــ إيروس وهيميروس. توضح هذه الحلقة خلق العالم: كيف خرجت جايا من الفوضى، ثم جايا أورانوس، التي سيقوم ابنه كرونوس بإخصائها. ومن امتزاج رغوة الموج بنطفة أورانوس ستولد أفروديت، إلهة الجمال. يروي هسيود في التيوغونيا أيضًا ولادة أثينا. زيوس، لحماية سيادته على نسله، ابتلع زوجته الأولى، ميتيس، التي رغم ذلك أعطته ابنة، أثينا، التي ستخرج مسلحة بالكامل من جمجمة زيوس.
هذه هي أنواع القصص التي يرويها الشعراء، ومن خلال هذه القصص كل ما يجب أن يعرفه اليوناني. بمعنى آخر، تتيح لنا قراءتها أن نتخيل كيف فهم اليونانيون العالم. تُظهر أهميتها أيضًا مكانة الأسطورة في الثقافة اليونانية القديمة. يقدم الشاعر من خلال هذه القصص الأسطورية تفسيرًا أسطوريًا للنظام العالمي. وهكذا، فإن نظام العالم كما يمكننا أن ندركه من خلالها هو النظام الذي فرضه زيوس بعد صراعات الآلهة العديدة من أجل السيادة. ولكن إذا كانت الأسطورة تحكي كل ما يحتاج اليوناني إلى معرفته عن الآلهة، فإنها تقدم أيضًا ما يحتاج المرء إلى معرفته عن العالم، وأصوله، والنظام القائم، وما إلى ذلك. وهكذا فإن أسطورة بروميثيوس ستعلمنا ما هي حالة الإنسان، على سبيل المثال، أن الإنسان فان، وأنه يجب أن يطعم نفسه، وأنه يجب عليه أن يعمل، وما إلى ذلك. الأسطورة اليونانية، وبالتالي مجموع القصص التي يتخيلها اليونانيون عن آلهتهم وأبطالهم، تنقل، على شكل سرد، ذكرى الحلقات التأسيسية للعالم وحضارته.
لقد رأينا المكانة المركزية للشاعر والأغاني الشعرية (وبالتالي الأساطير) في الثقافة اليونانية القديمة، أي منذ القرن التاسع، تاريخ تأليف ملاحم هوميروس، حتى القرن السادس، وكتابة، بطلب من بيستراتوس، هذه الملاحم. بالإضافة إلى ثيوغونيا هسيود، تلعب قصص هوميروس (الإلياذة والأوديسة) دورًا مهمًا للغاية في الثقافة اليونانية القديمة. إن تكرار الإشارات إلى هوميروس في الحوارات الأفلاطونية هو مثال على هذه الظاهرة الثقافية، ولهذا السبب فإن معرفة قصص هوميروس مهمة لقراءة وتفسير كتابات أفلاطون.
هوميروس ومكانة الملحمة الهوميرية في اليونان القديمة
كتب هوميروس (القرن التاسع إلى الثامن قبل الميلاد)، وهو النموذج الأصلي للشاعر وممثل الحضارة اليونانية القديمة، ملحمتين: الإلياذة، التي تروي حلقة من حرب طروادة، وهي فترة أزمة استمرت حوالي شهرين؛ والأوديسة، التي تروي رحلة أوديسيوس التي استمرت عشر سنوات للعودة إلى إيثاكا، قريته الأصلية، في نهاية حرب طروادة. ربما عاش هوميروس في القرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد، لكن الملحمتين الهوميريتين لم تُكتبا إلا في القرن السادس، بناءً على طلب بيسستراتوس، طاغية أثينا الأول. لذلك، فمن القرن الثامن إلى القرن السادس، تم نقل هذه القصص شفهيًا، من جيل إلى جيل، من خلال وسيط الشعراء، الذين رأينا أهميتهم في اليونان القديمة.
تمثل لوحة تأليه هوميروس، وهي لوحة رسمها إنغرس، مكانة هوميروس في الثقافة اليونانية القديمة بشكل جيد. شاعر بامتياز، يوضع فوق كل شيء، وينال مكانة شبه إلهية. مكانة الأسطورة مشابهة: تفسير العالم هو تفسير الشعراء، أي تفسير الأساطير. إذا كان نظام العالم كما هو الآن، فذلك لأن زيوس، الإله السيادي، أسسه بهذه الطريقة. وإذا أردنا أن نفهم أصل العالم، فسنقوم بنسب الآلهة. ولذلك تحتل الأسطورة مكانة مرجحة، وذلك بفضل مكانة الشعراء مثل هوميروس أو هسيود. هذا هو الحال في الثقافة اليونانية القديمة، لكنه لن يكون كذلك في القرون التالية، لأنه في القرن السادس ظهرت الكتابة وشكل جديد من الفكر قادر على استبدال التفسير الأسطوري للعالم: الفلسفة.
في القرن السادس قبل الميلاد، في مدينة ميليتس اليونانية، في آسيا الصغرى، ظهر نمط جديد من التفكير والبحث، نوع جديد من الخطاب لم يعد يعتمد على الأسطورة بل على العقل. يعبّر الميليتسيون طاليس وأناكسيمينس وأناكسيماندر في كتابتهم عن نظريات تفسيرية مختلفة تتعلق ببعض الظواهر الطبيعية وتنظيم الكون. يدرس هؤلاء الباحثون الثلاثة الطبيعة (phusis)، ويحاولون إيجاد المبادئ الدائمة التي تسمح بتفسيرها. لقد حاولوا تفسير الظواهر الطبيعية باستخدام مبادئ جوهرية في الطبيعة نفسها، لا الخارجية عنها (مثل الآلهة). لقد حل التفسير العقلاني لـ phosis محل التفسير الأسطوري للعالم بين الميليتسيين. لم يعد نظام العالم نتيجة لسيادة زيوس، الذي كان سيفرض نظامه على الكون، ولكن يمكن تفسيره بالقوانين الجوهرية التي يطيعها.
لقد رأينا أهمية القصص الشاعرية والخرافية، والأساطير، في الثقافة اليونانية القديمة، وهي ثقافة تهيمن عليها الشفهية. ما هو مكان الملحمة الهوميرية الآن في عالم تظهر فيه الكتابة، ولكن أيضًا النثر، ومحاولات معينة لتفسير العالم بشكل عقلاني (الميليتسيون)؟ وكيف يمكن أن نفسر تأثير هوميروس الدائم في اليونان على الرغم من ظهور شكل جديد من الفكر، وهو ما سيسميه أفلاطون بالفلسفة؟
"أجبرني والدي، الذي أراد مني أن أصبح رجلًا بارعًا، على تعلم هوميروس بأكمله؛ لذلك، حتى اليوم، أستطيع أن أتلو الإلياذة والأوديسة عن ظهر قلب (زينوفون، الندوة، III، 5).
يُظهر هذا الاقتباس من زينوفون (القرن الرابع) المكانة الأساسية التي احتلها هوميروس في التعليم اليوناني، حتى القرن الأول قبل الميلاد. ومنذ القرن السادس، يمكننا قراءة هوميروس، وذلك بفضل كتابة الإلياذة والأوديسة. وبالتالي فإن الانتقال من الشفهي إلى المكتوب لا يشكل عائقًا أمام نقل قصص هوميروس. بل على العكس من ذلك، فإن رسالتها التعليمية مستمرة وتنتشر أكثر حيث لم يعد الشاعر هو الوحيد الذي يستطيع أن يروي القصص الهوميرية. لقد أصبح بإمكاننا أن نقرأها أيضًا، كما أصبحت هذه الكتب أساس التعليم اليوناني. يقرأ الشباب اليوناني هوميروس ويحفظون الإلياذة والأوديسة بأكملها عن ظهر قلب، كما يؤكد زينوفون. يعرف أفلاطون بنفسه هوميروس جيدًا، كما أن سقراط، في حواراته الأفلاطونية، يقتبس بانتظام من هوميروس، ولا سيما في محاورة إيون.
التربية الهوميرية
لكن، ماذا نتعلم من قراءة هوميروس؟ يمكن التمييز بين ثلاثة أشكال من التعليم: التعليم الأخلاقي والديني والتاريخي. يسمح التعليم الأخلاقي، في المقام الأول، لقراء قصص هوميروس بتعلم كيفية التصرف بشكل جيد، من خلال مثال الأبطال، نماذج الفضيلة. ويتيح التعليم الديني، تاليًا، معرفة كيفية التصرف تجاه الآلهة، ومعرفة الآلهة اليونانية المختلفة. أخيرًا، يسمح التعليم التاريخي لقراء الإلياذة والأوديسة بمعرفة الأحداث المهمة في ماضيهم.
ولتجسيد التعليم المنقول من خلال قراءة أعمال هوميروس، أود أن آخذ مثال التربية الأخلاقية المنقولة على وجه الخصوص من خلال الإلياذة. يعد احترام التقاليد والقانون والدين ثلاثة جوانب مهمة للتربية الأخلاقية التي تنقلها ملاحم هوميروس. أما فيما يتعلق باحترام التقاليد فنجد في الأغنية السادسة من الإلياذة مثالًا جيدًا للسلوك الفاضل:
"وإذ فرغ جلاوكوس من حديثه، اغتبط ديوميديس، البارع في صيحة الحرب، وغرس رمحه في الأرض الفسيحة، وبعباراتٍ رقيقةٍ تحدَّث إلى راعي الجيش قائلًا: إذن فأنت حقًّا صديق بيت أبي منذ القدم؛ إذ أكرم ‘أوينيوس‘ العظيم، ذات مرة، وفادة بيليروفون المنقطع النظير، واستبقاه في أبهائه، عشرين يومًا. وعلاوة على ذلك فقد أعطى كلٌّ منهما الآخرَ هدايا جميلة، تذكارًا للصداقة. فقدَّم أوينيوس حزامًا براقًا بلون القرمز، وقدم بيليروفون كأسَين ذهبيتَين خلفتها ورائي في قصري عندما حضرت إلى هنا. أما توديوس فلا يمكنني أن أتذكره؛ إذ لم أكن سوى طفل صغير أيام أن سافر، في الوقت الذي هلك فيه جيش الآخيين في طيبة. ومن ثم، فأنا الآن ضيفك في أرغوس، وأنت ستكون ضيفي في لوكيا عندما أسافر إليها يومًا ما. إذن، هيَّا نتجنَّب رماح بعضنا، حتى وسط الجموع، فهناك كثيرون أستطيع أن أصرعهم، من الطرواديين والحلفاء الذائعي الصيت، مَن سيمنحهم لي الرب، ومَن تلحق بهم قدماي. وكذلك الحال بالنسبة لك، فهناك كثيرون من الآخيين لتقتلهم، كل من تقوى على قتلهم. ودعنا نتبادل حللنا الحربية، كلٌّ مع الآخر؛ كي يعرف هؤلاء أيضًا أننا نُعلن عن صداقتنا منذ أيام آبائنا".
عندما دار هذا الحديث بينهما، قفزا من عربتيهما إلى الأرض، وأمسك كلٌّ منهما بيد الآخر وأقسما على الوفاء. فلما رأى زوس، ابن كرونوس، أن جلاوكوس قد استبدل حلته الذهبية بأخرى من البرونز، سلبه عقله؛ إذ أعطى لديوميديس، ابن توديوس، ذهبًا قيمته مائة ثور، مقابل برونز قيمته تسعة ثيران". (هوميروس، الإلياذة، النشيد السادس، ترجمة أمين سلامة، منشورات هنداوي).
بينما كان ديوميديس وجلاوكوس على وشك القتال (لأن أحدهما طروادي والآخر يوناني)، يتبادلان الأسلحة ويتصافحان كدليل على الصداقة. لماذا هذا الموقف؟ لأنهما مضيفان وراثيان، ويحترمان تقليد الأجداد هذا: عندما يتم الترحيب بزائر مميز بسخاء في بلد بعيد وتبادل الهدايا القيمة مع مضيفه، يتم إنشاء تحالف يمتد إلى أحفادهم، الذين يجب عليهم، في حالة الحرب، التوقف عن قتل أنفسهم. ثمة تقليدان يونانيان يُحترمان هنا: من ناحية قانون الضيافة، أي استقبال الغرباء، وهو واجب مقدس في اليونان؛ ومن ناحية أخرى، أهمية الصداقة المؤسسة والمنظمة طقوسيًا بين المضيفين الوراثيين. وهذا مثال على التقاليد التي يجب احترامها تمامًا، والتي تشكل أساس السلوك اليوناني. وهذا هو النوع من التقاليد الذي تنقله ملاحم هوميروس، وبالتالي المشاركة في التعليم الأخلاقي لليونانيين.
لم يقتصر الأمر على أن ظهور الكتابة والشكل الجديد من التفكير العقلاني لم يتسبب في اختفاء قصص هوميروس، بل كان هوميروس في مركز التعليم اليوناني وحياة المدينة. يقرأ الأطفال اليونانيون قصائد هوميروس ويحفظونها عن ظهر قلب، ويتم تلاوتها أيضًا خلال المهرجانات الدينية الكبرى مثل باناثينيا أو ديونيسيا، وفي المسابقات الأدبية. فبينما كان الشاعر يتلو الأغاني الشعرية التي لحنها بنفسه، كان الراوي يقرأ الأعمال التي ألفها آخر. إيون، محاور سقراط في حوار أفلاطون، هو راوٍ متخصص في قصص هوميروس ويتنقل من مدينة إلى أخرى للعثور على جمهور. وبالتالي، فإن قصائد هوميروس هي جزء لا يتجزأ من حياة المدينة، وفي هذا السياق ينبغي قراءة إيون. من الشاعر إلى الراوي، الأسطورة منتشرة في كل مكان في اليونان، من العصر الكلاسيكي إلى العصر الهلنستي.
الإلهام الإلهي للراوي
الـ إيون هو حوار بين سقراط وإيون، الشخصية التي، باتباع الإطار السردي للحوار، فازت للتو بمسابقة الراوي خلال مهرجان أسكليبيوس في إبيداوروس. يتم تنظيم هذا المهرجان الديني على شرف الإله أسكليبيوس. بالإضافة إلى المسابقات الرياضية، تقام أيضًا خلال هذا المهرجان مسابقات موسيقية أو أدبية، بما في ذلك مسابقة الرواة. لذلك فإن السياق هو بالضبط ما تم وصفه في المنشور السابق. وفي هذا السياق يشعر إيون بالشرعية التامة، كما تؤكد السطور الأولى من الحوار:
"لا أعتقد أن هناك أي شخص في العالم يتحدث عن هوميروس مثلي."؛ "سيكون من العدل أن يقدم لي الهوميريون تاجًا ذهبيًا". [2]
تظهر هذه الكلمات الأولى لإيون كبرياءه وغروره. يعتقد إيون، الممتلئ بنفسه، أنه يعرف كل شيء عن هوميروس. فيواجهه سقراط، الذي يدرك جيدًا هذا الكبرياء المفرط. ولمواجهة هذا الكبرياء، سيقابل سقراط فن الراوي مع فن العراف والطبيب والحوذي وغيرهم، وذلك من أجل توضيح طبيعة هذا الفن الذي يدّعي إيون أنه يمتلكه على أكمل وجه. كما هو الحال غالبًا في حوارات سقراط، أي حوارات أفلاطون في شبابه، سيسعى سقراط إلى تحديد فكرة مع محاوره: ما هو فن الراوي؟ وقبل كل شيء، ما هو الشيء الذي يركز عليه فنه؟ لذلك سوف يدفع سقراط إيون إلى تحديد موضوع فنه:
"حسنًا، من أنت أو العراف الجيد، من سيشرح بشكل أفضل ما يقوله هذان الشاعران عن الشيء نفسه وما يقولانه عن العرافة بشكل مختلف؟" [3].
بمقارنة فن الراوي بفن العراف، واتخاذ العرافة كمثال، والتي يذكرها الراوي بانتظام في قصصه، يدفع سقراط إيون إلى الاعتراف بأن العراف الجيد يمتلك فن العرافة، وليس الشاعر. وهكذا بالنسبة إلى موضوع فن الطبيب، والحوذي، وما إلى ذلك. وإذا ذكر الشاعر في قصصه طريقة حسن قيادة الخيل، فهو لا يعرف فن الحوذي كما يعرف الحوذي الجيد. وبعد هذا التساؤل، واستحالة الراوي في تحديد موضوع فنه [4]، يجب على أيون أن يدرك أن الراوي لا يمتلك أي فن. لذلك يقود سقراط إيون إلى الاعتراف بجهله، حيث إن إدراك جهله هو هدف الفحص السقراطي لفن الراوي. فماذا عن فن الراوية إذا لم نتمكن من تحديد موضوعه؟ بالنسبة لسقراط، فإن قدرة الراوي على التحدث عن هوميروس لا تأتي من فن يمتلكه الراوي، بل من الإلهام الإلهي:
"أنت غير قادر على التحدث عن هوميروس بالفن والعلم" [5].
"في الواقع، ليس بالفن، بل بالإلهام والإيحاء الإلهي، جعل كل شعراء الملحمة العظماء يؤلفون كل هذه القصائد العظيمة؛ والشعراء الغنائيون العظماء كذلك" [6].
يقرأ الراوي ويفسر هوميروس بالإلهام الإلهي. ثم يقبل إيون اقتراح سقراط، الذي يعرّف الراوي بأنه رجل إلهي. إن فن الراوي ليس فنًا، بل هو هبة إلهية. الراوي ملهم، خارج نفسه، وليس لديه معرفة بالموضوع الذي يتحدث عنه. إذا قال الحقيقة، فليس لأنه يعرف ذلك، ولكن لأن الألوهية تلهمه. إن الإله هو الذي يملك المعرفة، وليس الراوي. يقارن سقراط الراوي بالكوريبانتيين والباخوسيين الذين، خارج أنفسهم، جردوا من أنفسهم، يرقصون، محمولين وممسوسين، تمامًا كما استحوذت على الشاعر ربة الشعر التي ألهمته بالأبيات التي يتلوها [7]:
"فالشاعر شيء خفيف مجنح مقدس، ولا يستطيع أن يبدع قبل أن يشعر بالإلهام، ويخرج عن نفسه، ويفقد استخدام عقله. وإلى أن ينال هذه العطية الإلهية، يكون كل إنسان غير قادر على كتابة الآيات وإلقاء الأقوال" [8].
يصف هذا الاقتباس الامتلاك الشعري، وحالة الشاعر الملهم، خارج نفسه. ولذلك يكتب الشاعر الأبيات كما يلقي الوحي: المصدر هو نفسه، أي إلهي. إن فن الشاعر وفن العرافة متشابهان، ولكن في حين أن العراف سيجعل المستقبل حاضرا، من خلال الوحي الذي يسلمه، فإن الشاعر يجعل الماضي حاضرا، من خلال أبياته. الشاعر يحيي الماضي كما يحيي العراف المستقبل. وهذه القدرة على جعل الماضي والمستقبل حاضرًا تأتي من العنصر الإلهي الذي يلهمهم، والذي يجردهم من ذواتهم.
ومن دون هذا الإلهام الإلهي لا يستطيع الوحي والشاعر أن يكتبا الشعر أو يتنبآ بالمستقبل. المصدر الإلهي الذي يجرّد الشاعر من نفسه هو ربات الإلهام. إنها الملهمة التي تمتلك المعرفة وتلهم الشاعر أو الراوي. لذلك فإن إيون، وهو راوي، يكون مجنونًا عندما يقرأ هوميروس ويفسره، وهو الأمر الذي يجد إيون صعوبة في قبوله، لكنه لا يستطيع الرد عليه، لأنه غير قادر على تحديد ما سيكون موضوع فن الراوية. إن قدرة إيون على التحدث عن هوميروس لا تأتي من الفن بل من الإلهام الإلهي.
ومن خلال دعم هذه الأطروحة ضد إيون، فإن سقراط بعيد عن أن يكون مبتكرًا. وهذه ليست في الواقع الأطروحة التي يرغب في الدفاع عنها. إن الإلهام الإلهي للشعراء هو رأي شائع تبرره، على وجه الخصوص، الأبيات الأولى من الإلياذة والأوديسة (الدعاء):
"غني أيتها الربة بغضب "أخيل" Achilles بن "بيليوس" Peleus ذلك الغضب المدمر الذي نكب الآخيين Achaeans بآلامٍ لا تحصى، وبعث إلى "هاديس" Hades بكثيرٍ من أرواح المحاربين الباسلة، وجعلها غنيمة للكلاب وشتى أنواع الطير، وبذا تحققت مشيئة زوس Zeus، ولتبدئي الغناء بقصة الشجار الذي اشتبك فيه ابن أتريوس Atreus ملك البشر مع أخيل الطيب". (هوميروس، الإلياذة، النشيد الأول، ترجمة أمين سلامة، منشورات هنداوي).
لدينا هنا نداءين من هوميروس إلى ربة الإلهام أو إلى إله. النظرية الشعرية التي دافع عنها أفلاطون، والتي كانت موجودة بالفعل عند هوميروس، ليست أصلية. وهذا يدعوني إلى الاعتقاد بأن القضية الحقيقية للحوار ليست في تقديم نظرية في الفن الشعري كمصدر إلهام، وأن الاهتمام الأساسي للحوار يكمن في مكان آخر.
الشعر مقابل التقنية، أو معرفة الحرفي
يسمح الحوار أيضًا لسقراط بتوضيح ما يعنيه بالفن (technè باليونانية)، والذي يتناقض مع الإلهام الإلهي للمقصود. ما هو الفن؟ الفن عند أفلاطون علم، وهذا ما كتبه:
"في حين أنني، بناءً على ما إذا كانت المعرفة في حكمي تتعلق بهذا الشيء أو ذاك، أطلق عليه اسم هذا الفن أو ذاك" [10].
الفن هو المعرفة والدراية التي يمتلكها الحرفيون، مثل الحوذي أو النحات أو الصياد، ولكن أيضًا الطبيب أو عالم الرياضيات. أن يكون لديك أو أن تمتلك تقنية، أي فن، يعني أولًا وقبل كل شيء معرفة شيء محدد. الفن إذن هو قبل كل شيء علم (نظرية)، علم موضوع محدد. يتوافق كل فن مع المعرفة التي تتعلق بموضوع هذا الفن. وبالتالي، إذا كان امتلاك الفن يعادل امتلاك المعرفة بشيء معين، فإن صاحب الفن هو أولى بالحكم على هذا الشيء والتحدث عنه:
"لذلك نسب الإله لكل فن القدرة على الحكم على عمل معين؛ وفي الواقع، أعتقد أنه ليس من خلال الطب سنتعلم ما نعرفه من خلال فن التخصص" [11].
الشخص الذي يمتلك فنًا لديه القدرة على الحكم على موضوع ذلك الفن على وجه التحديد لأن فنه يعتمد على معرفة ذلك الشيء المعين. علاوة على ذلك، فإن من يمتلك فنًا يعرف أيضًا كيف ينتج الشيء الذي يتوافق مع هذا الفن. في الواقع، بالنسبة لأفلاطون، من يعرف هو أيضًا من يعرف كيف ينتج. إن المعرفة والدراية يسيران جنبًا إلى جنب، لأن المعرفة تسمح للفرد بممارسة فنه. هذا البعد الإنتاجي للتقنية لم يسلط الضوء عليه سقراط في إيون، مما يسلط الضوء بشكل أكبر على قدرة الشخص الذي يمتلك فنًا على الحكم على ما يقال بشأن موضوع فنه. في الواقع، إن قدرة إيون على الحكم على أبيات هوميروس هي التي شكك فيها سقراط، وليس قدرته على تلاوة أو تفسير هذه الآيات نفسها، وهو ما يفعله بشكل جيد للغاية.
أفلاطون مقابل هوميروس أو الشاعر مقابل الفيلسوف
وعلى عكس الشاعر الذي تأتي معرفته بالكامل من ربة الفن التي تلهمه، فإن فن أو معرفة الحرفي هي معرفة الشيء الذي يثير اهتمامه. لماذا الدفاع عن هذه الأطروحة؟ ولماذا نضع الشاعر في مواجهة الصانع، أو بتعبير أدق الإلهام الإلهي للشاعر في مواجهة معرفة الصانع؟ في الجزء الأخير من هذا المقال، أود أن أطرح سؤالًا حول ما هو على المحك في هذا الحوار السقراطي.
أولًا، يتعارض الحوار، كما رأينا، مع الفن (technè) باعتباره معرفة ودراية، والشعر باعتباره إلهاما إلهيا. لماذا هذا التعارض، وأي منهما يقدره أفلاطون؟ في نهاية الحوار، ترك سقراط لإيون الاختيار بين الإلهام الإلهي أو الجهل (لأنه فشل في تحديد موضوع فنه)، ويفضل إيون الإلهام الإلهي، الذي يزيد من كبريائه. يقدم سقراط لإيون مخرجًا، لكن ما يهم في النهاية، وما يستخلصه القارئ من هذا الحوار، هو عدم قدرة إيون على تعريف فنه، هذا الفن الذي يقول إنه الأفضل فيه، الأفضل في اليونان كلها. إن اختيار إيون في نهاية الحوار هو في الواقع اعتراف بالجهل. على العكس من ذلك، قام سقراط باختيار المعرفة في مواجهة الجهل، واختيار الفن في مواجهة الإلهام الإلهي. الشاعر الملهم لا يعرف شيئا بنفسه. إنها ربة الفن التي تعرف. على العكس من ذلك، فإن الحرفي هو الذي يعرف. لذلك قام سقراط، ومن خلاله أفلاطون، باختيار المعرفة.
ثانيًا، في السياق الذي وضعناه في المقال السابق، يظهر كتاب إيون كنقد لأفلاطون فيما يتعلق بالمكانة الغالبة للشاعر والراوية في المدينة اليونانية في القرن الرابع، لأن الأخير يعارض المكانة المركزية التي يريد أفلاطون أن يعطيها للمعرفة. لذا فإن تثمين المعرفة دفع أفلاطون إلى التشكيك في مكانة الشعر والشاعر في المجتمع اليوناني. من يعرف يجب أن يكون في قلب المجتمع، وليس الشاعر. مكان هوميروس كبير جدًا، وهذا هو المكان الذي ينافسه أفلاطون في هذا الحوار. هذه هي قضية الحوار الحقيقية. من خلال التقليل من ادعاءات إيون، الذي يعتقد، في كبريائه، أنه الأكثر معرفة فيما يتعلق بهوميروس، فإن ادعاءات الشاعر بتثقيف وترسيخ أخلاق المواطنين اليونانيين هي التي يريد أفلاطون التقليل منها.
ومن سيحل محل الشاعر في هذه الحالة؟ ومن يستطيع أن يلعب بالنسبة لأفلاطون هذا الدور التربوي (التربية الأخلاقية والدينية والتاريخية) الذي كان يقوم به الشاعر حتى الآن؟ بالنسبة لأفلاطون، الذي يعرف بامتياز هو الفيلسوف. ومعرفة الحرفي هي بالضبط نموذج الفيلسوف لأفلاطون. وبالتالي يمكن فهم المواجهة بين الراوي والحرفي على أنها مواجهة بين الشاعر والفيلسوف. وفي مواجهة المكانة المركزية لهوميروس والأساطير في المجتمع اليوناني، يقترح أفلاطون نموذجًا آخر، نموذج الفيلسوف المحب للمعرفة. إن الفيلسوف هو الذي يجب أن يكون له مكان مركزي في المدينة، وليس الشاعر. هذه الفكرة سيؤكدها أفلاطون في "الجمهورية"، وهو حوار لاحق يقيم فيه أفلاطون مدينة مثالية، يغيب عنها الشعراء، ويديرها الفلاسفة. في مواجهة الشعر والأسطورة، يقدّر أفلاطون التكنولوجيا والفلسفة باعتبارهما معرفة بامتياز.
المحتوى مقابل الشكل، الفلسفة مقابل الخطابة
العنصر الأخير يسمح لنا بتأكيد مسألة هذا الحوار السقراطي: أهمية محتوى الخطاب فيما يتعلق بشكل الأخير. في الواقع، عندما يسأل سقراط إيون عن فنه، ليس لأنه مهتم بجمال كلمات الراوية، التي ليس لديه أي شك فيها. يعترف سقراط بهذا بموهبة إيون، الذي فاز للتو في مسابقة الراوي في إبيداوروس. لكن ما يهم سقراط قبل كل شيء هو محتوى الشعر، وما يغنيه الراوي، أي أبيات هوميروس، وكيف يفسرها. وعلى هذه النقطة يتمحور النقاش بين إيون وسقراط.
هذا التفضيل للمحتوى على الشكل ليس بالأمر التافه، وهو سمة مميزة للفلسفة الأفلاطونية والأفلاطونية الحديثة [12]. ومن خلال تسليط الضوء على أهمية المحتوى فيما يتعلق بشكل خطابات الراوي، يستطيع سقراط أن يضع إصبعه على أهمية المعرفة المتعلقة بهذا المحتوى. لا يمكننا الحكم على محتوى الخطاب إلا إذا كانت لدينا معرفة معينة. يشير أفلاطون عبر إيون بأصابع الاتهام إلى كل من يهمل المضمون ويفضل الشكل، أولئك الذين يؤكدون على مظهر المعرفة. بالنسبة للراوية كما بالنسبة للسفسطائي، الذي ربما يكون مستهدفًا هنا أيضًا، فإن جمال الخطب هو المهم: سواء لإرضاء الجمهور أو لإقناع المواطنين. وعلى العكس من ذلك، بالنسبة لأفلاطون، أي بالنسبة للفيلسوف، فإن محتوى الخطاب هو المهم، وحقيقة الذي يقال. يقنع السفسطائيون من خلال مهارتهم البلاغية وفنهم الخطابي المواطنين اليونانيين بكل شيء وعكسه حسب الظروف. ولذلك لدينا من خلال نقد الشاعر نقد لكل من يستخدم الكلمات للإغواء، ويستغل مظهر المعرفة للإقناع أو الإرضاء، أي ما نطلبه من الراوي أو السفسطائي. لذلك يجب استبعاد المهارة الخطابية (السفسطائيين) من المدينة، للحكم على الخير والشر فقط من خلال علاقتها بالمعرفة، أو التقنية. الانتقال من فن الخطابة، من جمال الخطب (الشعراء والسفسطائيين) إلى حقيقة الكلام (الفلاسفة): هذا هو التحدي الذي يواجه إيون وكل الفلسفة الأفلاطونية.
هوامش:
1- Platon, Ion, 530c. Trad. E. Chambry, Paris, Éd.Garnier Flammarion, 1967. Toutes les traductions du Ion sont ici celles d’E. Chambry.
2- Platon, Ion, 530d.
3- Platon, Ion, 531b.
4- Platon, Ion, 540b.
5- Platon, Ion, 532c.
6- Platon, Ion, 533d.
7- الكوريبانتس هم كهنة أم الإلهة، سيبيلي، الذين رقصوا مسلحين، على أصوات المزامير والطبول والأبواق والدروع التي ضربتها الرماح. أما الباكانيون، من جانبهم، فيحتفلون بأسرار ديونيسوس، الباكاناليا، فريسة للنشوة الهائجة التي تلهمهم.
8- Platon, Ion, 534b.
9- Homère, Iliade, chant 1. Trad. P. Mazon, Paris, Éd. Les Belles Lettres, 1937.
10- Platon, Ion, 537d.
11- Platon, Ion, 537c.
12- انظر على سبيل المثال تعلق بلوتينوس بمعنى الكلمات وليس بشكلها: بورفيريوس، حياة أفلوطين، 8، 4-6.