في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2021، أدّى غرق قارب مهاجرين في القنال المائي الذي يربط فرنسا بإنكلترا (عند منطقة "با دو كاليه") إلى مصرع سبعة وعشرين شخصًا. وعلى الرغم من نداءات الاستغاثة العديدة، لم يُرسل مركز الرصد المساعدة المطلوبة لإنقاذ حياة هؤلاء المهاجرين.
من هذه القصة الحقيقية، يستوحي الكاتب والمفكر الفرنسي فانسان دو لا كروا، موضوعة روايته "غرق" - وصلت مؤخرًا إلى اللائحة النهائية لــ "جائزة البوكر الدولية"، والتي تُرجمت إلى الإنكليزية بعنوان "مركب صغير"- التي يعتبرها الكاتب في التنبيه الصغير الذي يضعه في مطلع الكتاب بأنها "عمل خيالي بحت"، إذ يحدّد "النغمة" بالقول: "هذه الرواية مستوحاة من قصة حقيقية نشرتها الصحافة. وباستثناء العناصر المعروفة والعامة في هذا الخبر المتفرق، فإن النص التالي هو عمل خيالي بحت".
لننتبه إلى كلمتين واردتين في هذا التنبيه: "خبر متفرق" و"عمل خيالي". ننتبه لهما لما يثيرانه من شجون، فيما لو جاز القول. مصرع 27 شخصًا، لم يثر اهتمام الصحافة الفرنسية يومها، فاعتبرته من ضمن "الأخبار المتفرقة"، العادية، التي لا تستحق التوقف والتمهل عندها مليّا. وكلمة "الخيال" التي تأتي بمعنى المتخيل (رواية) تثير بدورها الكثير من التساؤلات، إذ نحن، في واقع الأمر، أمام مأساة حقيقية وأمام واقع حزين يعرفه المهاجرون الذين يُضحون بحياتهم في أغلب الأحيان في سبيل حلم، لن يقودهم في هذه الظروف غير الإنسانية، إلا إلى الموت. لكن على الرغم من هذا، تعرف الرواية كيف تطرح علينا مسألتين أساسيتين في حياتنا كبشر: مسألة الشرّ كما مسألة المسؤولية الجماعية، من خلال تخيّل صورة عاملة في المركز - والتي قد تكون سفينتها قد تحطمت أيضًا في تلك الليلة التي لم ينجُ منها أحد - من هنا أهمية الأدب الذي يعطينا، بل بالأحرى يجسد وجها لجميع شخصيات البشرية.
***
هذه النزعة الإنسانوية حاضرة في أدب دو لا كروا، منذ البداية، أي مع روايته الأولى التي لفتت أنظار القراء والنقاد بعنوان "العودة إلى بروكسل" (عام 2003)، والتي تتناول قصة حبّ محكوم عليه بالفشل بين شخصين؛ "لقد التقيتُ بكِ بالضبط بين بلدين. التقيتُ بكِ على الحدود التي تفصل أو توحد، حسب وجهة نظركِ، بين فرنسا وبلجيكا. لقد التقيت بك في مكان غير متوقع، في مكان ما بين بين، ليس أرضًا لا يملكها أحد، ولكنها ليست في أي مكان. في هذه المساحة من المصادفة المستحيلة، جمعتُ كلّ حبّ عالم لعدة أيام. لقد التقيتُ بك عندما التقت دولتان وافترقتا على حدودهما المشتركة – ولهذا السبب كان من المتوقع أن تكون النهاية منذ البداية".
وبفضل هذا النجاح، نشر على التوالي كتاب "على الباب" عام 2004، الذي يتحدث عن رجل عجوز، وهو أستاذ جامعي سابق مشهور وسريع الغضب - ونتيجة لمجموعة من الظروف الغبية - يجد نفسه على عتبة منزله صباح يوم أحد مشمس. يتحول هذا الحادث البسيط، مع مرور الوقت، إلى حدث حاسم، لأنه لم يكن يخرج من بيته بالضبط. ربما كان يأتي من مكان أبعد، "من بين الأحياء والأموات". تطارده ذكرياته بقدر ما يطارده اشمئزاز الآخرين، لذا كان يجب عليه أن يتحمل الوحدة للمرة الأخيرة، ويختبر قبح وغباء عالم يطرده ويُسرع إلى الدمار مثله تمامًا. كان يجب عليه أن يقول وداعًا ويعترف أخيرًا بحقيقة هذا الوضع، ويستعد للمغادرة مع الزاد المناسب. إذ أن هذه الرحلة هي أكثر من مجرد رحلة متهورة بين محطة المترو: "غار دو نور" وقناة سان- مارتان (قناة مائية بين الدائرتين 11 و12 في باريس). ومن ثم مقالة بعنوان "البرهان على وجود الله"، وقد أثارت يومها العديد من التعليقات والنقد والنقاش في الصحافة الفرنسية، وبخاصة أن الكنائس يومها كانت خاوية باستمرار. أما في عام 2005، فكتب "ملحقًا لرسائل كيركغارد الفلسفية".
|
في عام 2009، كافأت "الأكاديمية الفرنسية" دو لا كروا بـ "جائزة الآداب الكبرى" عن روايته "قبر أخيل" (TOMBEAU D'ACHILLE) |
لم يكن عمل دو لا كروا على هذا الفيلسوف الدانماركي مجرد نزوة عابرة؛ فالكاتب طالب سابق في مدرسة الأساتذة العليا، مجاز وحاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة، متخصص في سورين كيركغارد الذي كتب عنه أطروحته، وهو يُدرّس فلسفة الدين في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا بكونه مدير دراسات. هذا الاهتمام الدائم بـ كيركغارد، نعود لنجده في رواية "هذا الذي فقدته" (2006) التي يسيطر عليها "شبح الفيلسوف الدنماركي المهووس بوجوديته المحيرة بينما يتساءل عن هدف الحب". أما روايته "الحذاء على السطح" (2007)، فقد حظيت بإشادة النقاد بسبب "التشويش الدائم، والسخرية، والجانب الوسواسي" في "حكاية الأطفال" هذه. وفي عام 2009، كافأته "الأكاديمية الفرنسية" بـ "جائزة الآداب الكبرى" عن روايته "قبر أخيل"، وهي ليست أبدًا "سيرة" لهذا البطل الإغريقي ولا حتى محاولة للدخول إلى هذه الرومانسية التي تغلف هذه الشخصية، بل يتوجه المؤلف إلى القارئ بشكل مباشر ويدخله في حياة أخيل، ليصبح القارئ، عن طيب خاطر، معجبًا بهذه الشخصية اليونانية الأسطورية وبكافة وجوهه: "العنيف والغاضب" من أغاممنون، والذي يقف دوما على رأس فرق القتال في طروادة، والوجه "المتخنث" الذي يعيش بين بنات ليكوميدس، ويختار شركاءه من كلا الجنسين، وأخيرًا "البشري"، إذ أنه قُتل كما نعلم بسهم أطلقه بارس وأصابه في كاحله.
***
مع "غرق" (التي وصلت إلى اللائحة الأولى لجائزة غونكور عام 2023)، يستند المؤلف في كتابه - وكما أسلفنا - إلى قصة يصورها على أنها "متخيلة"، وكلمة "خيال" تجعلنا نطرح الأسئلة ونحن نواجه مأساة وواقعًا حزينًا للمهاجرين الذين يجتازون البحار في ظروف غير إنسانية. وهي قصة شروع مهاجرين من نساء وأطفال ورجال في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر في قارب مطاطي مكتظ بالركاب، معتقدين أنهم سيجدون حياة كريمة، وهي الأحلام التي يعلقها كثير من الناس أمام أعينهم. وعلى الرغم من 18 نداء استغاثة لم يأت أحد لمساعدتهم؛ إنها هذه "الحرب الصغيرة" بين فرنسا وإنكلترا لمعرفة في أي موقع كان القارب، أي لأي جهة يتبع. 18 نداء استغاثة، ووعد بأن المنقذين سيأتون لإنقاذهم، لكن ذلك لم يحدث مطلقا، ممّا تسبب في وفاة 27 شخصًا. عاملة جهاز اللاسلكي سجلت النداء، لكنها لم تحرك ساكنا، لذا تمّ استدعاؤها من قبل الشرطة التي طلبت منها العديد من التوضيحات: لماذا، وكيف تمكنت من تجاهل هذه المحنة؟ إنها امرأة "مرعبة" كما تبدو، تتجرأ على القول إنها اتبعت الأوامر فقط، الجميع يلوم بعضهم البعض، ولا أحد يريد تحمل مسؤولية هذا الإهمال. من السهل العثور على الجاني: عاملة اللاسلكي هي الفريسة الحقيقية.
كيف ستتمكن من المضي قدمًا في حياتها، هل ستتساءل عن نفسها، بينما هذا الكابوس راسخ في داخلها إلى الأبد. كيف يمكن لامرأة أن تترك 27 شخصًا يلقون حتفهم في البحر، وهي نفسها تخشى البحر ونزواته؟ تجعلنا رواية "غرق" نواجه أنفسنا، وتثير فينا العديد من التساؤلات. وتضعنا وجهًا لوجه أمام واقع الحياة اليومية لهؤلاء المهاجرين الذين يشيد المؤلف بهم، بـ "هؤلاء الأشخاص الذين تركتهم خلفي. أنا لست بمنأى عن هذه القصة، بل على العكس تماما".
منذ البداية، يجذبنا المؤلف باستجواب خيالي لمشغلة اللاسلكي في مقر الدرك البحري، وهو استجواب أجرته امرأة أخرى تتطابق معها، جسديًا على الأقل. تستمع السيدتان إلى تسجيل المكالمات التي أجراها الشاب الكردي والتي يطلب فيها المساعدة لأن القارب المطاطي يغرق، كما نداءات مشغل القارب وردود أفعاله.
والسؤال أمام ذلك كله: ما مقدار الخيال وما مقدار الواقع؟ في هذه الرواية.
إنها رواية لا هوادة فيها ومزعجة، وتدعو إلى التعاطف معها بقدر ما تدعو إلى التأمل، وتسير على نفس المنوال مثل موجة الصدمة. صدمة عندما تضعنا القصة على متن القارب، في رعب ليلة الموت، بينما نتشبث بخيط رفيع وغير مبال من الأصوات؛ يتضاءل الأمل بشدة. هي أيضًا صدمة عندما تختم لامبالاة عاملة اللاسلكي هذه الدراما. وأخيرًا، كان من الصدمة أن نرى أنفسنا ونتذكر مسؤولياتنا من قبل هذه المرأة التي ليست في الحقيقة أسوأ ولا أفضل من معظمنا: "الرجل الذي ينام في صندوق من الورق المقوى عند أسفل المبنى الخاص بك، أيها الأحمق، ألا تراه أيضًا؟ ومع ذلك، فإنه يتجول بنفس الطريقة على الأسفلت ويغرق بنفس الطريقة. لكن الأمر لا يتعلق بالعشرات من الكيلومترات في البحر، وفي منتصف الليل، في تلك المنطقة. ومن السهل جدًا تحديد موقعه الجغرافي: فهو موجود في نهاية حذائك. إذًا هل ترسل له المساعدة أم أن الأمر متروك لي للقيام بذلك"؟
"غرق" كتاب يشكل مرآة لعدم مبالاتنا بالغرقى في المجتمع، لذا لا يستطيع أحد أن يخرج منه سالمًا بعد قراءته.