لا تختلف قصيدة النثر الإسبانية عن نظيراتها الأوروبية في تأثرها، في بداياتُها الأولى، بالمدرسة الفرنسية. ولا يزال بالوسع اعتبارُ الأنطولوجيا، التي أعدّها الشاعر والناقد ومؤرخ الأدب الإسباني غِييِّرمو دِياث بْلاخا Guillermo Díaz Plaja (1984-1909) في عام 1969، عملًا تأسيسيًا في هذا الصدد، على الرغم من انصرام عقود على صدوره، على الأقل في ما له صلة بالسياقات التاريخية والفنية التي واكبت نشوء هذه القصيدة وتطورها منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى مطلع أربعينيات القرن الماضي.
ضمت أنطولوجيا بلاخا 230 قصيدة نثر لـ 82 شاعرًا وكاتبًا، موزعة حسب الاتجاهات الفنية والأدبية (حركة الحداثة El Modernismo، جيل 98، الحركة الطليعية El Vanguardismo، خوان رامون خيمينيث Juan Ramón Jeménez والمتأثرون به، جيل 27، السوريالية واتجاهات أخرى..). وقد استهلّها بمقدمة وافية، تطرق فيها إلى بعض الإشكالات الاصطلاحية والفنية التي عادة ما تستدعيها قصيدة النثر في علاقتها بالنثر الشعري، والشعر المنثور، والقصة القصيرة جدا.
ثمة عمل آخر سيسلط الضوء أكثر على نشوء هذه القصيدة وتطورها؛ يتعلق الأمر بالدراسة التي أصدرها الشاعر والناقد الراحل لويس ثيرنودا Luis Cernuda (1963-1902) في 1959، وتصدى فيها لدور الترجمة في نقل الأعمال التأسيسية الفرنسية ذات الصلة، وفي مقدمتها ''غاسبار الليل'' لألويْسيوس بِرتران، و''أزهار الشر'' لشارل بودلير، والتي كان لها تأثير بادٍ على شعراء إسبان، خاصة غوستافو أدولفو بيكر Gustavo Adolfo Bécquer (1870-1836)، الذي يمثل منجزُهُ، وتحديدا ''أساطير'' (Leyendas)، أولى بوادر تشكُّل قصيدة النثر في الشعرية الإسبانية، وإن كان ذلك ضمن موجة التجديد التي عرفها النثر الإسباني منذ مطلع القرن التاسع عشر، بشكل مغاير عما كان معهودًا في النثر الكلاسيكي، حيث غدا أكثر نزوعًا نحو الكثافة والإيجاز، مما يعدُّ ضروريًا في البناء الفني لقصيدة النثر.
مع نشر الشاعر النيكاراغواني روبن دارٍيّو Ruben Darío (1916-1867) عمله الشعريّ الطليعي ''أزرق'' (Azul) في 1888، سيعرف الشعر والأدب في إسبانيا وأميركا اللاتينية منعطفًا نوعيًا، وهو ما يترتب عليه القول، إن قصيدة النثر الإسبانية تجد جذورها التاريخية في حركة الحداثة الأدبية، التي كان دارِيّو أبرز ممثل لها، أكثر مما تجدها في الرومانسية الإسبانية التي كان بيكر أهم روادها.
|
لا يزال بالوسع اعتبارُ الأنطولوجيا، التي أعدّها الشاعر والناقد ومؤرخ الأدب الإسباني غِييِّرمو دِياث بْلاخا في عام 1969، عملًا تأسيسيًا في قصيدة النثر الإسبانية |
أحدث صعود الحركات الأدبية الطليعية في بداية القرن العشرين دينامية جديدة في الشعر الإسباني، فظهرت تجاربُ شعرية أبْدت الحد الأدنى من الوعي بالخصائص الفنية لقصيدة النثر باعتبارها نوعًا أدبيًا مستقلًا بذاته. وبدت قصيدة النثر الإسبانية أكثر اقترابًا من المرجعية الفرنسية، بتخلُّصها من المبالغة في الغنائية المفرطة، وتحرير المخيلة، والتحكم في إيقاع الجملة، والاستفادة من الإمكانات الفنية والجمالية للنثر الإسباني.
في المنحى ذاته، أنجز الشاعر والناقد غييِّرمو دي طورّي Guillermo de Torre، في 1924، أول ترجمة إسبانية لـ''كوب الزار'' (Le Cornet à dés) للشاعر الفرنسي ماكس جاكوب. وقد مكّن ذلك الشعراء الإسبان، آنذاك، من التعرف على واحدة من أكثر التجارب عمقا وأصالة في تاريخ قصيدة النثر العالمية.
مع نهاية العشرينيات سيتعزز المشهد الشعري والثقافي الإسباني بظهور ''جيل 27''، الذي أبدى بعض شعرائه انشغالًا لافتًا بما يمكن أن تقدمه الكتلة النثرية على صعيد خلق حالة شعرية مختلفة. ومن أبرزهم خورخي غِيّين Jorge Guillén، وبيثينطي ألِكْسندري Vicente Aleixandre، وفيديريكو غارثيا لوركا Federico García Lorca، ولويس ثيرنودا Luis Cernuda وغيرهم.
مع خوان رامون خيمينيث ستشهد قصيدة النثر الإسبانية منعطفًا آخر، قد يكون الأكثر عمقًا وجِدّةً في تاريخها، وأصبح منجزه الشعري مختبرًا للإشكالات التي رافقت تطور هذه القصيدة خلال القرن المنصرم. وفي مقدمتها إشكال الحدود بين النثر الشعري وقصيدة النثر والقصة القصيرة جدًا. وينطبق ذلك بشكل كبير على عمله Platero y yo "بلاطيرو وأنا". وعلى الرغم من اندراج هذا العمل، حسب البعض، ضمن قصيدة النثر، على الأقل بالنسبة لبعض النصوص، إلا أن البعض الآخر لم ير فيه غير ''سرد شعري''، ليبقى، بذلك، عملاه البارزان Diario de un poeta recien casado "يومياتُ شاعرٍ حديث الزواج" الصادر في 1917، و Espacio "امتداد" الصادر في 1954، الأكثر نضجًا. ولا شك في أن الشعرية الإسبانية الحديثة تدين لخيمينيث بفتح أبوابها أمام قصيدة النثر بمعناها الاصطلاحي والفني، ويكاد يكون هناك إجماع في النقد الإسباني على أهمية منجزه في تطوير قصيدة النثر الإسبانية وتجديدها.
بالتوازي مع ذلك، برز شعراء آخرون من حساسيات أدبية جديدة، مثل طوماس سيغوبيا Tomás Segovia (2011-1927)، وخوان خيل ألبرت Juan Gil-Albert (1994-1904)، وغابرييل ثيلايـا Gabriel Celaya (1991-1911) وغيرهم ممن يُدرجون عادة ضمن ما يعرف بـ ''جيل 36'' في الأدب الإسباني. يُضاف إليهم شعراء المنفى ممن بقوا في منافي أميركا اللاتينية بعد انتصار اليمين الفرنكوي في الحرب الأهلية، وأبرزهم لويس ثيرنودا في عمله المعلوم Ocnos "أوكْنوس" الصادر في 1942.
وبظهور أجيال جديدة من الشعراء خلال العقود اللاحقة ستُعزز قصيدة النثر مكانتها أكثر في الشعرية الإسبانية، بعد أن أصبحت معظم تجاربها أكثر صرامة في التقيُّد بمعايير الوحدة العضوية والكثافة واللاغرضية، وأكثر قدرة، في الوقت ذاته، على استنفار المخيلة الشعرية وتحريرها من موروث الغنائية الشعرية الإسبانية. ومن أبرز الشعراء الذين أسهموا، بقدر أو بآخر، في هذا التحوّل، خوسي أنخيل بالِنطي José Ángel Valente (2000-1929)، وخوسي مانويل كابايّيرو بونالْد José Manuel Caballero Bonald (2021-1926)، ولويس فيريا Luis Feria (1998-1927)، وآنـا مارِيا موييس Ana Maria Moix (2014-1947)، وفرانثيسكو مونيوث سولير Francisco Muñoz Soler (1957- )، ومارطا أغودو Marta Agudo (1971-2023)، وغيرهم.
نماذج من قصيدة النثر الإسبانية
يا عالِمَ الرياضيات العالقَ بالسماء!
خوان رامون خيمينيث Juan Ramón Jeménez (1958-1881)
لا ماهية للآلهة أكثر مما لي. أنا مثلها، لي ماهية الحياة كما عيشت وستُعاش. لست فقط الحاضرَ. أنا، في النهاية، فائضُ الهروب. وما أرى فيه من وردٍ وأجنحة متكسرة وضوءٍ ينبثق من الظلمة، هو لي.
لي الذكرى والقلقُ والنسيانُ والحسُّ الفوّارُ. من يعرف أكثر مني؟ من؟ أي إنسان وأي إلهٍ بمقدوره، في الماضي والحاضر والمستقبل، أن ينبئني ما حياتي ومماتي، وما لا يكون حياتي ومماتي؟ وإذا كان أحد يعلم ذلك فأنا أعلم به منه، وإذا كان أحد يجهله فأنا أجهل به منه. ما حياتي، وحياتهُ، والحياةُ إلا اشتباك المعرفة بالجهل. تندفع الرياح مثل الطيور، والطيورُ مثل الزهورِ والشموسِ والأقمارِ، الشموس الأقمار التي تشبهني، تشبهُ الأرواحَ، تشبه الأجسادَ. الأجسادُ مثل الموت والقيامة، مثل الآلهة. أنا إلهٌ أعزلُ، بلا سيفٍ، بلا أي شيء مما يستخلصه الناسُ من علمهم. فقط، ما يُستخلصُ من الحياة، وما يُبدِّلُ كل شيء؛ نعم، نارٌ أو ضوءٌ. لِمَ نعتاشُ على شيء آخر غير النار أو الضوء؟ إذا كنتُ قد ولدتُ تحت الشمس، ومنها دلفتُ إلى الظل، فهل أنا ثمرتها، هل أغمُر ما حولي بالضوء مثلها؟ ومثل القمر، بي شوقٌ على هيئة شمس تنحدر من شمس أو من يومٍ، الآن فقط تتجلى. يمرق قوسُ قزح ويُنشدُ كما أُنْشِدُ، وداعًا يا قوس قزح! سنلتقي ثانية، فالحب وحيدٌ، يتجدد كل يوم في عزلته. ما هذا الحبُّ الشاسعُ؟ كيف تَبَدَّى لي مُتَلَفِّعًا بالشمس؟ كيف تَبَدَّى فِيَّ ومعي؟ كان البحرُ هادئًا والعَليةُ صافيةً، بينما يصهرهما نورُ السماوات والأرض فضةً شفافةً، وذهبًا لا مثيلَ لهُ، وواقعًا لا يفتأ يتضاعفُ. جزيرةٌ تطفو بينهما وبداخلهما، بعيدًا عنهما. وفي القطرة، التي تتدحرج من قوس قزح، ترتعش لؤلؤةٌ رماديةٌ، هناك سترتعش بداخلي الرسالةُ التي لن تصلني أبدًا من الجهة الأخرى. سأرحل صوب الجزيرة وقوس قزح والغناء، هذا الليلُ فيضُ آمالٍ تضج بالفتنة. أيُّ هاجس يعلو النباتات في يوم مشمس، بينما تصحبه البسمةُ وَهْوَ يرتدُّ إليَّ في طريقه إلى الحديقة المهجورة! أينتظرون أكثر من الخضرة والأزهار والثمرات؟ أينتظرون، مثل ضمير المتكلم، ما ينتظرني؟ أينتظرون أكثر من استباحة المكان الذي يملأونه الآن علانيةً؟ أينتظرون أكثر ممّا يَحْيَوْنه الآن؟ أينتظرون أكثرَ من الغرق في الظلام؟ أينتظرون أكثر من النوم والصحو؟ في المنتصف، حيث يجب أن تكون هناك نقطةٌ، يُطلُّ مَخرجٌ؛ مكانُ التعقب الأكثرُ صحةً، بِاسْمٍ لم يبتدعه أحدٌ، يختلفُ عن الاسم المختلفِ والمُبتدَعِ الذي نطلقه في أحزاننا: عدن، واحةٌ، جنةٌ، سماءٌ، لكننا نعلم أن ذلك ليس صحيحا، كما الأطفالُ يعلمون أن ما يصحبهم غير موجود. الحكيُ، الشدوُ، البكاءُ، الحياةُ ربما؛ ''مديحُ الدموع'' (ربما ضاع فرانز شوبرت بين الخدم ونسي موسيقاه!)، التي تمتلك في قوس قزح المكسور ما لا نمتلك وما نمتلكه مكسورا. تغمرنا الأزهار باللذة والرائحة واللون ومبتكرات الحسّ. بالأزهار نَنْغَمِرُ، هي أجناسٌ من الألوان والأشكال والروائح المختلفة، نرسل جنسا داخل زهرة، حاضرا من ذهب المِثال، مُهدى للحب البَتوليٍّ، للحب الذي يضج بالتجربة، نرسل جنسا أحمر يتفرغ لأحد الماجدين، نرسل أجناسا بيضاء إلى إحدى المبتدئات، نرسل أجناسا بنفسجية إلى المُضطجعة. فأي غموض هذا الذي يَعلق باللغة! أي أشياء هاته التي نُحدّث به أنفسنا دون أن ندرك ماهيتها! الحبُّ ثم الحبُّ ثم الحبُّ (قد أنشده ييتس!)، الحب المقيم حيث تقيم الفضلاتُ. أهو نفور من وجودنا، بدايتنا، نهايتنا؟ نفور من ذاك الذي يحيا فينا أكثر ويموت فينا أكثر؟ إذن، ما المبلغُ الذي لا يُقتطعُ؟ أين المبلغ الكاملُ واللانهائيُّ، يا عالم الرياضيات العالق بالسماء؟ رائعٌ أن لا نحوز ما يُحازُ، بالنسبة لنا، لا شيء مُنتهيًا ممّا هو في حكم النهاية. لهذا، يرتدُّ إلينا، بينما لن تعاودنا النهاية الحقةُ أبدا. في مدريد، كان حَورُ الضوء هذا يقول لي نكاية في الهواء الفيروزيِّ للخريف: ''أَنْهِ نفسَك في نفسك كما أنا''. يا لسرعة كلِّ ما كان يحلق قريبًا!
|
مع نشر الشاعر النيكاراغواني روبن دارٍيّو عمله الشعريّ الطليعي ''أزرق'' (Azul) في عام 1888، سيعرف الشعر والأدب في إسبانيا وأميركا اللاتينية منعطفًا نوعيًا |
خورخي غِيّين Jorge Guillén (1984-1893)
جَلبةٌ صامتة
في القطار، بُعَيْدَ الظهيرة، جاء الصيف بصناعة لا رحمة فيها، كأنها مادة يتردد صداها وهْي تحترقُ. إني أغرقُ. الشمسُ لا تسمح برؤية الحياة. المزارع المحجوبة تمحو الملامح. الجبال تائهة بين البقع. فقط، الجدرانُ تسود بألوانها؛ جنوب.
حتى هذا النسيم الخفيفُ الذي يهب من النافذة لا يُنعِش، إنّهُ أسيرُ الشمسِ الساطعة فوق الحقول ومحطة الوقوف؛ جحيمٌ بلا أخلاق. محبَطون ونحن نرى آخرين في متناول كَرْبِنا يَذْوونَ من فرط هذا الحر الشديد: جحافل الصيف.
سُمْرٌ بالوراثة، رماديون تحت الضوء، شاحبون من التعب؛ العمال يرفعون نظرهم إلى الأعلى، فيروْن كل شيء. كلُّ شيءٍ بعيدٌ.
لا جلبةَ. المساءُ المنحدِرُ من سماءِ الربِّ يغمر أولئك الذين ينحنون الآن.
العمل أيضا معاناةٌ. يا له من واجبٍ عظيمٍ!
لويس ثيرنودا Luis Cernuda (1963-1902)
الطبيعة
كان يروق للطفل أن يتابع بصبرٍ، يوما بعد يومٍ، كيف تتفتّح البراعم في العتمة؛ ورقة تطل على خجلٍ، بالكاد تبدو خضرتُها الشفافةُ جنب جذعها الذي لم يكن بالأمس، كان ذلك يغمره بالدهشة. كان يروق له أن يفاجئ بعينيه اليقظتين حركتَها وتفتحَها الذي لا يراهُ، مثل آخرين يروق لهم أن يفاجئوا الطير حين يحلق بجناحيه عاليا.
أَخْذُ برعم رقيقٍ من النبتة الناضجة وبذره بعيدا بيدٍ ناعمة ونسيمٍ عليلٍ والعناية به بعد ذلك، وتركُهِ في الظل في الأيام الأولى، وترويةُ عطشه البدائي في الصباح والمساء، حين يشتد الحرُّ؛ ذلك كله غمره بأمل اللامبالاةِ.
يا لها من سعادةٍ حين رأيت الأوراق تنكسر أخيرا، ولونَها الجميل، الذي كان يبدو مضيئا لفرط شفافيته، يكشف عن أوردة بارزة، تصبح غامقةً أكثر وأكثر مع النُّسغ الأكثر ضراوةً. كان يشعر كأنه اجترح معجزةَ منح الحياة، على هذه الأرض، وأيقظَ، مثل إلـهٍ، الشكلَ الذي كان غافيًا في حلم العدم.
غابرييل ثيلايا Gabriel Celaya (1991-1911)
الليل
إنه الليل؛ ضوء العين التي لا تبصرُ، السرعة نحو الداخل. كل شيء يدور حيث يجب على المرء أن يكون ولا يكون. يفقد المرء عقله، ثم يهيم على وجهه. الابتسامة ترسم حافة الهاوية، والغرقُ، دوْخَةً، سقوطٌ نحو الأعلى. يا لروعة الظلام! طلقة على الصِّفْر! أزرقُ لا مرئيٌّ! يسطعُ الضوءُ، ينفجر أبعدَ من ذاته، يغدو ظلمة حالكةً وشعاعا يجوس الوجدانَ خالصا وشديدا، دون أن يكسره أو يُبقِّعهُ، فقط يتجاهله، إذ يُشِعُّ ذاتَه خارج انكشافه الممكنِ.
لا داعي للقلقِ. لا شيءَ، إنه العدمُ، الليلُ الذي نبصره أحيانا، لا ندركه أبدًا. ذلك مُفرِطٌ ومُدهشٌ لهذا السبب، وربما مخيف في نهاية المطاف: الغابرُ؛ ما كان دوما لَمْ يُرَ أبدًا؛ ما نحن عليه دون أن ندركه، ما كنّا عليه حتى قبل أن نولد أفرادًا، لكننا لم نجرؤ أبدًا على النظر إليه.
أتذكرُ! ليست أنايَ، ولا حتى جسدي، من يتذكرُ. إنه محضُ جسد مُنْطلِقٍ لا شكل لهُ.
لويس فيرْيا Luis Feria (1998-1927)
شجرةُ الجَكَرَنْدَة
أحيانا يشعر البحر بالرعب أيضًا. يسمع صخبَ الموتى، صخبَ الذين لم يولدوا بعدُ. يُرْهِقُهُ الزّبدُ المُرُّ. يتسرّبُ عالقا بالريحِ، يعلو، يتدفق ويبث شكواه في الجكرندةِ. البحرُ يعلو العالمَ. زرقةٌ مفرطةٌ. تذوي الحياةُ المشبوهةُ. عافيةٌ غامضةٌ تسعُنا. سبعة محيطات ترفع شراعها المُبهِرَ. لا قلقَ؛ نحنُ نُبحرُ.
طوماس سيغوبْيا Tomás Segovia (2011-1927)
الحياة في العراء
ما الذي بِوُسْعِ البدويِّ أن يجتذبه غير عُرْيه وحياته في العراء؟ العنفوان الذي تملَّكهُ أن يكون بيتُه في مهب الريح، وسريرهُ في أعالي البحار، وقلبه البعيدُ بين المطر والضباب. من دون رحيلٍ، في قدومٍ لا ينتهي، قد أنبأه نهرُ الأيام أنْ لا يومَ بوسعه أن يكون الأولَ، يعلم أنه لن يستريحَ، وإذا استراح فسيُلقي ذلك بثقله على جذرٍ ما.
ولد على الطريق. إشراقتُهُ أن يدرك أن الجميعَ قدموا من مكان آخر دون أن يُدركوا ذلك، أنَّ المكان الذي ينحدرون منه ذاتُه المكان حيث يبدأ جهلهم، أنَّهم إخوةٌ على غير ما يظنّون. تغمره الظلمةُ، ويتملّكه الرعب من أن لا يجد أرضًا يودِعُ فيها عظامه أخيرًا.
خوسي أنخيل بالِنْطي José Ángel Valente (2000-1929)
لا عزاءَ للذاكرة
لم يكن يحمل ذكرى جميلة عن المكان الذي رأى النور فيه. كان يودُّ، كما بيَّنَ لي، لو أنه لم يرَ النورَ في أي مكانٍ، حتى تُكتب على شاهدة قبره عبارةٌ مهيبةٌ من دُخانٍ: لمْ يرَ أحدٌ النور هنا. لم يحملْ ذكرى دائمة غير ذرى طفولته المحاصرة. مكان يترجرجُ ضاجّا بضبابٍ متعفِّنٍ. تحت الحصارِ حاويةٌ بائسةٌ لحُطام الوقت.
تقف على حافة البئر؛ ما زلتَ تحدق في الأعماق، حيث الماء المختوم لا يُعيد تركيب الصور. الصِّبا والفتوّةُ تحت الحصارِ. أسفل الشارع جاء شخص مات قبل الأوان، تعلو صوتَه الأعمى ابتسامةٌ غامضةٌ. قد قلتما: وداعًا. (لن تشتبك شِفاهكما بعد الآن). كان كل شيء حولنا أقلَّ حياة من شخص ميّتٍ. كانَ فراغَ العدم في بقائه المعدنيِّ على قيد الحياة. في الممرات، وعلى الجدران، وفي القاعات التي تبعث على الضجر، كانت تُكتب على العيدان المحاكاةُ الساخرةُ المبتذلةُ والقصةُ الزائفةُ التي لم يصدقها أحد من قبل. كان هناك حوتٌ ضخمٌ يسبح في الزيت، كان بعين واحدة فقط، بينما الأخرى تُصدر خشخشةً وهْيَ تغرق محترقةً. قد حدّقتَ فيهِ؛ كان الوقتُ قد حان للفرار، فانتقيتَ كلماتٍ بعينها وكأنك تُحرّرُها من زخارفها الرَّثّـةِ مثل جسر خشبيٍّ فوق هاويتيْنِ. قلت إنك لم تحتفظ بالصورِ. ربما نعم؛ من زاوية حجرية وشجرةٍ مقطوعة، أو ذكرى عالقةٍ بجسدك، بطائرٍ يُغالبُ الموتَ وحيدًا.
|
مع خوان رامون خيمينيث ستشهد قصيدة النثر الإسبانية منعطفًا آخر، قد يكون الأكثر عمقًا وجِدّةً في تاريخ قصيدة النثر الإسبانية |
أنطونيو غامونيدا Antonio Gamoneda (1931- )
كان سوقًا من صمْتٍ
كان سوقًا من صمتٍ. المكلوماتُ وضعن ما ورثنه من قُدورٍ، والنهارُ استراح في سكون الوجوه التي أهّلتْها التمائمُ والذكرياتُ الأكثر نصاعةً من البقول المعروضِ أمام الأقواس المقدسة. حُزمٌ حزينةٌ لِعظامٍ يحفّها القِصاصُ. قد لُذْنَ بالصمت بعد الإيماءة التي تعلّمْنَها بين حقول الجاوْدار حين هبّتِ الريحُ. كُنَّ يتهامسن
حول فُتوق الرجال وقطراتِ الندى التي ستأتي قبل أن يَسْتَعِدْنَ الحُزَم غير المجدية ويَعُدْنَ، هُنَّ أمهات الأربعاء، إلى الموطن العامرِ المهجور.
خورخي أورّوتِيا Jorge Urrutia (1945- )
المِرآة
تمنحنا المرآةُ صورةً رهيبة لكل البؤس الذي أهالَه الوقتُ والتجربةُ على بشرتنا وجفوننا. عند طرف الفم، ربما أسفل الْعينين، ثنيةٌ صغيرة وتوهجٌ خفيفٌ للغاية يكشفان أننا لا نزال على قيد الحياة، أنه لا يزال هناك شيءٌ ما داخل الجسم المرهَق يجرُّ أسماءنا.
أكتب من طرف فمي وعينيَّ، من آخرِ معاقل الأمل، من مُسَوّدة الروحِ التي لم أنقِّحْها قطُّ، من النسمةِ التي تضيءُ خُدعتي.
آنا مارِيا مويِيس Ana Maria Moix (1947- 2014)
احتفاءً ببيكِر
يُقال إن المرء غالبًا ما يتحرك في أحلامه. وحيدًا تفكر أو تحلق عاليًا. لا عودة من بين الضوء والعتمة أبدًا. هناك تنمو زهرة نوفاليس الزرقـاء. طائر بأجنحة ناعمة، إذا لمسته ستلقى حتفك. لا شيء واضحًا. أغمض عينيك إذا كان لا تزال لديك عينان؛ ما مِنْ غاباتٍ. بين الضوء والعتمة الملتبسة تلوح عتمةُ الأحياء، أيها الطائر الذي لم تكن أبدا طائرًا. لِمَ اجتزْتَ العتبة؟ جريحا ترتجف عند مياه البركة الراكدة. في الحديقة المظلمة يرتجف نبات الأميلوس الأزرق من الألم. لا يحلق الزرزور في سربٍ. أيُّ نداءٍ ألهم خَطْوك العذبَ؟ أي أصواتٍ قادتْك في السماء زورًا؟ قد أضرم شفقُ الغروبِ الأحمرُ النار في جناحيك. فاتك أنْ تطيرَ؛ هل كان ذلك بسبب أنك كنت تنظر إلى وجه شاحب وبارد خلف زجاج النافذة؟ ينبجس الليل هادئًا. الأزرقُ جنونٌ في أعماق العين الفارغة. البحر بعيدٌ. الموتُ المكسُوُّ بالصفيح يندُبُ بين رُكنٍ وآخرَ. لِم توقفتَ عن النظر وأنت تحلِّق؟ ليس بوسع الشمس أن تشرق من جفون مُصفرَّةٍ. موسيقيون يجوبون المروج ويختبرون النغمة القادرة على شقِّ الحجر، وإيقافِ ذلك الطائر الطائش حين يحلو له التحليقُ فوق الحقول في الربيع؛ قد أمسكت بك النغمةُ. حفيف جناحيك حول الشعلةِ يُحيي، الآن، الصمتَ في أعماق النار. ها، قد سقطتَ،
على وشك أن يُعرَف ما إذا كان بين النور والعتمة المحرمة حيث ينسلُّ الحب حين يَصيرُ نسيا منسيّا.
خايمي سيليس Jaime Siles (1951- )
شمالَ الأرض
كلُّ ما أبصرتْهُ عينايَ أسفل شعلة الصمت الأبيض تُدحرجه قدماك نحو الشواطئ الميتة. لا تزال هناك لمحةُ عناقٍ، خصلاتُ شعرٍ شاردةٌ تخفق في العتمة، نارُ شفاهٍ من حديدٍ، الجلاءُ الذي يُقَبِّلُ الأرضَ الصلبةَ.
أنْدريس سانشيث روبايْنا Andrés Sánchez Robayna (1952-)
إشراقـةٌ
في زمن آخر، كانت تتدفق الشلالاتُ الضخمةُ فوق هذه السلالم، المياهُ القادمةُ من تضاريس السماء، المياه التي نادت بها الأصواتُ التي شقّتْ طريقها أسفل السّهلِ، المياهُ المُسْتَنْفَرَةُ، المياهُ التي تدفقت من ينابيعها كي تُطفئ عطش الأرض، وتحتشدَ في التجاويف، وتمنح الطينَ سطوةَ الشّكلِ البديعةَ، وتَبلُغَ الطَّمْيَ البشريَّ.
في الخارج، كان المطر يُحرك الهواء الساكنَ فوق السهلِ.
فرانثيسْكو مونْيوث سولير Francisco Muñoz Soler (1957- )
عِنْدَ قَبْرِ أَحْلَامِهَا
'' لَكِنَّ طَائرًا فِي قَفَصٍ يَرْقُدُ بِلَا حِرَاكٍ عَلَى قَبْرِ أَحْلَامِهِ''
(طَائِرٌ فِي قَفَصٍ)
مَايا أَنْجِيلُو
عند قبر أحلامها تشعر أن حياتها تمضي، هشةً مثل مرساة تقطعت بها السبلُ، بلا حراك، ترى، كيف تُتْلف خدوشُ الأيام جسدها وتنزلق أوهامُها نحو هاوية العدم. قبر أحلامها في زاوية قفص لا يراه أحد، خائفةً تتمتم بأغاني الحرية غير المسموعة، إذ تنساب من روحها الموجوعة، المعزولة في عتمة شديدة.
من روحي التي لا تُقهر أصاعد، أحلّق في السماء، أصل قوس قزح الذي يمد جسورًا من رحمة ومنافذ لنساءٍ يحاصرهن الأذى في مكان، لا شيء فيه يجتذب بوصلات أرواحِهن.
كالهواء أحلق عاليًا وأرفع عقيرتي بالغناء، أجتذب أذرعًا، في اشتباكها تكفُّ عن أن تكون ضحية، تحلم بسماء لا رقابة فيها على الحب، فيها يسمح بترقب أي عاصفة وتكون النجومُ سقوفًا من زجاج.
مارْطا أَغُودو Marta Agudo (1971-2023)
القفزةُ الأخيرة
القفزةُ الأخيرةُ، تلك التي تغرقُ في بركة مفتوحة، قفزةُ الخلايا العصبية، مثل صدمةٍ كهربائيةٍ، تقول وداعا للسهل الذي يبدو في هيئة الحياة. خذ رؤوس أقلامٍ قبل أن تدله على ما لديك أو حقيقةِ الرّوْثِ. سجّلْ أن فمك ينزف مع كلمة ''الموت''، وإنْ كنت تخشى أكثر طولَ العمر المريض. لا فاصلَ محتملًا بين نغْمتيْ ''دو'' و''سي''. والحقُّ يُقالُ، ''رِي'' هي اليوتوبيا التي أردنا أن نجذِّف من أجلها ذات يومٍ.