}

منبع الشعر

إدغار موران 15 أبريل 2025
ترجمات منبع الشعر
إدغار موران
ترجمة: محمود عبد الغني

سأحاول أن أدافع عن الأطروحة الآتية: مستقبل الشعر كامن في منبعه ذاته.
ما هو هذا المنبع؟ من الصعب إدراكه. إنه ضائع في الأعماق الإنسانية، كما في أعماق ما قبل التاريخ، هناك حيث ظهرت اللغة، في أعماق ذلك الشيء الغريب الذي هو الدماغ والعقل الإنسانيين. أريد، إذن، أن أقدم بعض الأفكار التمهيدية كي أتحدث عن الشعر. أولًا، لابد أن نعرف أن الإنسان، كيفما كانت ثقافته، ينتج لغتين انطلاقًا من لغته: لغة هي لغة عقلية، تجريبية، عملية، تقنية؛ وأخرى هي لغة رمزية، أسطورية، سحرية. تنزع الأولى إلى الدقة، والتدليل، والتحديد. فهي ترتكز على المنطق، وتحاول أن تجعل ما تتحدث عنه أمرًا موضوعيًا. أما الثانية فتستعمل الدلالة غير المباشرة، التماثل، الاستعارة، أي هالة الدلالات التي تحيط بكل كلمة، بكل ملفوظ، وتحاول ترجمة حقيقة الذاتية. يمكن لهاتين اللغتين أن تكونا متجاورتين، أو متداخلتين، يمكن أن تكونا مفترقتين، متقابلتين، وتناظر هاتين اللغتين وضعين اثنين. الوضع الأول، يمكن أن نسميه الوضع النثري، الذي نسعى فيه أن ندرك، أن نفكر، وهو الوضع الذي يغطي جزءًا كبيرًا من حياتنا اليومية. الوضع الثاني، الذي يمكن أن نسميه الحالة الثانية، الحالة الشعرية.
يمكن للحالة الشعرية أن تعطى بواسطة الرقص، بواسطة الغناء، بواسطة العبادة، بواسطة الحفلات. وبكل تأكيد، يمكن أن تعطى بواسطة القصيدة. كان فيرناندو بيسوا يقول إنه في داخلنا يوجد كائنان. الأول، الحقيقي، هو كائن خيالاتنا، وأحلامنا، الذي ولد في الطفولة، الذي يبقى مدى الحياة؛ والكائن الثاني، المزيف، هو كائن المظاهر، كائن خطاباتنا، وأفعالنا، وحركاتنا. لن أقول إن الأول حقيقي والثاني مزيف، بل إنه، وبكل تأكيد، مع هاتين الحالتين يتناظر كائنان في داخلنا. ومع الحالة الثانية يتناظر ما أدركه بوضوح رامبو المراهق، تحديدًا في رسالته الشهيرة رسالة الرائي. إنها ليست حالة النظر، بل حالة الرؤية.
إذن، شعرــ نثر، ذلك هو نسيج حياتنا. قال هولدرلين: الإنسان يسكن الأرض شعريًا. وأعتقد أنه ينبغي القول إن الإنسان يسكنها شعريًا ونثريًا في الآن نفسه. إذا لم يكن هنالك نثر، لن يكون هنالك شعر. لا يمكن للشعر أن يكون جليًا إلا في علاقة مع النثرية. إذن، نحن نملك هذا الوجود المزدوج، هذا التناقض المزدوج، في حيواتنا.
في المجتمعات القديمة، التي نسميها جورًا بدائية، التي تناسلت على الأرض التي شكلت الإنسانية، وآخرها يتم إبادتها بوحشية في الأمازون، وفي مناطق أخرى، كانت هنالك علاقة ضيقة بين اللغتين والحالتين. لقد تم الخلط بينهما. في الحياة اليومية، كان العمل مرافق بالأغاني، بالإيقاعات، كانوا بواسطة أجران يهيئون الدقيق وهم يغنون، ويستعملون الإيقاع. لنأخذ مثال الاستعداد للصيد، الذي تشهد عليه إلى اليوم الرسومات ما قبل التاريخية، خصوصًا رسومات مغارة "لاسكو"، في فرنسا؛ التي تبين لنا أن الصيادين كانوا يقيمون طقوسًا سحرية على طرائد مرسومة فوق الصخرة، لكنهم لا يقتنعون بتلك الطقوس: كانوا يستعملون نبالًا حقيقية، واستراتيجيات شعوذة، فكانوا يمزجون الاثنين. بينما في حضاراتنا الغربية المعاصرة، حدثت تفرقة، بل أقول أيضًا فصلًا بين الحالتين، بين النثر والشعر.
هنالك قطيعتان. القطيعة الأولى، حدثت عندما، ابتداء من النهضة، تبلور شعر دنيوي أكثر فأكثر. كان هنالك أيضًا انفصال انطلاقًا من القرن السابع عشر بين، من جهة، ثقافة أصبحت علمية وتقنية؛ ومن جهة أخرى، ثقافة إنسانية، أدبية، فلسفية، تحتوي الشعر بالتأكيد. إنه نتيجة لهذين الانفصالين أصبح الشعر مستقلًا بذاته فأصبح شعرًا. لقد انفصل عن العلم، وعن التقنية، وبكل تأكيد انفصل عن النثر.
لقد انفصل عن الإيقاعات، أقصد أنه لم يعد مطلقًا أسطورة، لكنه أصبح دائمًا يتغذى من منبعه الذي هو الفكر الرمزي، الأسطوري، السحري.
الشعر، في ثقافتنا الغربية، مثله مثل الثقافة الإنسانية، وجد غريبًا. وجد غريبًا وسط المتعة، والترفيه. وجد غريبًا من أجل المراهقين، والنساء، لقد أصبح بمعنى من المعاني عنصرًا دونيًا مقارنة بنثر الحياة.

آرثر رامبو (1854-1891) شاعر فرنسا في القرن التاسع عشر


للشعر ثورتان تاريخيتان. الأولى هي الثورة الرومانسية، خصوصًا الرومانسية ذات الأصل الألماني. إنها ثورة ضد غزو النثرية، والعالم النفعي، العالم البورجوازي، العالم الذي تطور في بداية القرن التاسع عشر.





الثورة الثانية وقعت في بداية القرن العشرين. إنها ثورة السوريالية. السوريالية تعني رفض أن يبقى الشعر منغلقًا داخل القصيدة، أي داخل تعبير أدبي خالص وبسيط. ليس ذلك نفيًا للقصيدة، ما دام بريتون، ما دام بيريه، ما دام إيلوار،... إلخ... قد كتبوا قصائد جميلة؛ لكن فكرة السوريالية مفادها أن الشعر يجد منبعه في الحياة. في الحياة، بأحلامها وصدفها، وتعرفون الأهمية التي يعطيها السورياليون للصدفة. لقد وجد، إذن، ذلك المشروع الرامي إلى إلغاء النثر من حياتنا اليومية الذي بدأه آرثر رامبو عندما كان يبدي إعجابه بالأكواخ المتنقلة، وبلاتينية الكنيسة. كما أن السورياليين قدروا السينما، فهم أول من أحبوا شارلي شابلن. إذن، إلغاء النثر من الحياة اليومية، وإعادة إدخال الشعر في الحياة، ذلك هو أول رسالة بعثها السورياليون. كانت هنالك أيضًا الثورة، ثورة ليس فقط ضد العالم النثري، بل ضد فظائع الحرب العالمية الأولى، التي منها جاء الإلهام الثوري. تعرفون أن بريتون أراد أن يربط الصيغة السياسية الثورية "تغيير العالم" بالصيغة الشعرية السوريالية "تغيير الحياة". لكن هذه المغامرة، التي قادت بنفسها إلى هذيانات، إلى مجموعة من الأخطاء، بل أقول حتى إلى التدمير الذاتي للشعراء، عندما قاموا بإخضاع الشعر لحزب سياسي. هنا توجد مفارقات الشعر. ليس للشاعر أن ينغلق داخل مجال صارم، مغلق. مجال اللعب بالكلمات، مجال اللعب بالرموز. للشاعر كفاءة كلية، متعددة الأبعاد، تهم الإنسانية والسياسة، لكن لا ينبغي أن يترك نفسه خاضعة للنظام السياسي. إن رسالة الشاعر السياسية هي تجاوز السياسة.
إذن، لقد شهدنا ثورتين في الشعر. واليوم، ما هو الوضع في نهاية القرن هاته، التي هي في الآن نفسه نهاية الألفية؟
إذن، هنالك ما يمكن أن نسميه تدفق "إفراط النثر". وتدفق إفراط النثر هو تدفق نمط حياة مالي، كرونومتري، مجزء، مقسم، مدمر. وهو ليس فقط نمط حياة، بل أيضًا نمط فكر، أو خبرات متخصصة، أصبحت منذ اليوم مؤهلة لمواجهة كل أنواع المشاكل. وهذا الغزو لفرط النثر مرتبط بتدفق اقتصادي، تقني، بيروقراطي. في هذه الظروف، خلق فرط النثر في نظري ضرورة فرط الشعر.
هنالك حدث آخر طبع نهاية القرن هذه: إنه التدمير، أو بالأحرى التدمير الذاتي لفكرة الخلاص الأرضي. لقد صدقنا أن التقدم مضمون تلقائيًا بالتقدم التاريخي. صدقنا بأن العلم لا يمكن أن يكون سوى تقدميًا، وبأن الصناعة لا يمكن أن تأتي سوى بالمنافع، وبأن التقنية لا يمكن أن تقدم سوى الإصلاحات. لقد صدقنا بوجود قوانين تاريخية ضمنت تفتح الإنسانية، وعلى هذه القاعدة، اعتقدنا أنه من الممكن إقامة السلام على هذه الأرض، أي سيادة السعادة التي وعدت بها الديانات في السماء. في حين أننا اليوم نشهد انهيار فكرة أنه من الممكن وجود خلاص على الأرض، وذلك لا يعني ضرورة التخلي عن فكرة تطوير العلاقات الإنسانية وتحضرها. إن التخلي عن فكرة الخلاص مرتبط بتفهم أن لا وجود لقوانين تاريخية، وبأن التقدم ليس مضمونًا، ليس تلقائيًا. ليس فقط أن التقدم يجب أن يهزم، لكن، كلما هزم يمكن أن يتراجع، فيجب تجديده من دون توقف.
واليوم، كما قال الفيلسوف التشيكي باتوكا: "الصيرورة أصبحت إشكالية، وستبقى كذلك إلى الأبد". نحن داخل هذه المغامرة الغامضة، والأحداث التي تقع كل يوم في العالم تؤكد لنا ذلك، إننا وسط "ليل وضباب". لماذا نحن وسط ليل وضباب؟ لأننا دخلنا كليًا العصر الكوكبي. لقد دخلنا هذا العصر، حيث توجد أفعال متعددة ولانهائية بين كل أطراف الأرض، حيث أن كل ما يتعلق بآبار النفط في العراق والكويت يهم الإنسانية جمعاء. لكن في الوقت نفسه علينا أن نفهم أننا فوق هذا الكوكب الصغير، البيت المشترك، مفقودين في الكون، ونحن طبعًا نتحمل مسؤولية تحضير العلاقات الإنسانية فوق الأرض. تقول ديانات الخلاص، وسياسات الخلاص: "علينا أن نكون إخوة، حتى ننجو". وأعتقد أننا اليوم يجب أن نقول: "علينا أن نكون إخوة لأننا مفقودون، مفقودون فوق كوكب صغير على طرف شمس في ضاحية مجرة محاطة بعالم بلا مركز. نحن هنا، لكننا نملك النباتات، والعصافير، والأزهار، ونتمتع بتعددية الحياة، وبإمكانيات العقل الإنساني. هذا هو، بعد الآن، أساسنا الوحيد، وتدفقنا الوحيد الممكن.
إن اكتشاف وضعنا الضائع داخل كوكب كبير ناتج عن اكتشافاتنا للفيزياء الفلكية. ذلك يعني أن هنالك حوارًا ممكنًا اليوم بين العلم والشعر، لأن العلم يكشف لنا عن عالم شعري بشكل أسطوري، مع إعادة اكتشافنا للقضايا الفلسفية المركزية: ما معنى الإنسان؟ ما هي مكانته؟ ما مصيره؟ ماذا يمكن أن يأمل؟ إن الفضاء القديم للعلم، في الواقع، كان آلة خالصة، محددة كليًا، تحركها حركة أبدية، بندول دائم، لا يمكن أن يحدث في أي شيء، لا إبداع فيه، ولا حدث. في حين أن هذه الآلة العديمة الكمال على نحو محزن، هي آلة مفككة. ماذا نرى؟ إننا نرى الكون وهو يولد، ربما، منذ خمسة عشرة مليار سنة، من انفجار، منه انبثق الزمن فجأة، انبثق الضوء، انبثقت المادة، كما لو أن هذه البداية هي نوع من الانفجار الفوضوي، وأن الكون سينتظم عبر هذه الفوضى. تبدو لنا الحياة شيئًا تافهًا، وبديهيًا. اكتشفنا الجرثومة، بملايين الجزيئات، على أنها أكثر تعقيدًا إلى درجة أن كل معامل "روهر" تحتوي عليها. انتبهنا أن الواقع الذي يبدو صلبًا، وبديهيًا، تلاشى أمام نظرة الفيزياء المجهرية، وأنه تحت نظرة الكون الزمن والفضاء، اللذان يبدوان مختلفان، يمتزجان ببعضهما. العديد من الفيزيائيين الفلكيين يحدسون أن هذا العالم الذي ينفصل فيه الفضاء عن الزمن هو مثل الزبد، زبد شيء ما مختلف لا يوجد فيه أبدًا الانفصالات بين الفضاء والزمن.
أين الشعر من ذلك اليوم؟ لقد توصلنا، ليس فقط في الشعر، بل أيضًا في المجالات الأخرى، إلى فكرة أنه ليس هنالك طليعة، بالمعنى الذي يشير إلى أن الطليعة تحمل شيئًا أفضل مما كان من قبل. الجديد ليس بالضرورة أفضل، وربما هذه هي حقيقة فكرة ما بعد الحداثة. إن صناعة الجديد من أجل الجديد هو أمر عقيم. المشكل ليس في الإنتاج المنتظم، وفي الإدهاش بالجديد. الجدة الحقيقة تولد دائمًا من العودة إلى المنابع. لماذا جان جاك روسو هو جديد بشكل مدهش؟ لأنه أراد أن ينكب على منبع الإنسانية، على أصل الملكية، وأصل الحضارة. وفي العمق، كل جديد عليه أن يمر من منبع التدفق والعودة إلى القديم. يمكن أن تكون هنالك ما بعد حداثة، وما بعد ــ بعد حداثة، لكن كل ذلك ثانوي. إن هدف الشعر يبقى أساسيًا، هو أن نضع أنفسنا في حالة ثانية، أو بالأحرى، أن نعمل على أن تصبح الحالة الثانية هي الأولى. هدف الشعر هو نضع أنفسنا في الحالة الشعرية.


المصدر:
ألقى الفيلسوف الفرنسي إدغار موران هذه المحاضرة في المهرجان العالمي للشعر في ستوغا، في صيف سنة 1990. وقد نشرت ضمن كتاب:
Edgar Morin, Amour, poésie, sagesse. Ed. Seuil.2000.

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
15 أبريل 2025

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.