ترجمة: لطفية الدليمي
ماذا لو قلتُ لكم إنّ في استطاعتنا جميعًا أن نكون أغنياء؟ أغنياء بعملةٍ لا تُحسَب بالدولار الأميركي، أو الجنيه الإسترليني، أو الين الياباني، أو الروبية الهندية، بل بعملةٍ من نوعٍ آخر يختلف اختلافًا كليًّا عمّا نعرف، عملة تُقاس بمدى وطبيعة التجارب، والدروس المستفادة، والحكايات المروية في بقاع مختلفة من العالم.
أنا متخصّص في علم النفس الاجتماعي؛ ولكوني كذلك، فقد كرّستُ مسيرتي البحثية سعيًا لبلوغ إجابة مقبولة عن سؤالٍ يبدو بسيطًا، لكنه عالميّ الشمول والأهمية: ما الذي يصنع حياةً طيّبة؟ وكيف يمكننا تحقيق مثل تلك الحياة؟
واجه النوع البشري، طيلة أطواره المختلفة من الحياة على هذه الأرض، خيارَين جوهريين: السعي ابتغاءَ حياةٍ سعيدة، في مقابل السعي لحياةٍ ذات معنى. كلّ من هذين الخيارين له امتيازاته ومناصروه، لكنّ عقودًا من البحث النفسي المتفحّص كشفت أيضًا عن المحدوديات الملازمة لكلٍّ منهما.
تأمّل، على سبيل المثال، في الكيفية التي قد يعيقنا بها المفهوم الثقافي المعاصر للسعادة عن تحقيق حالة الاكتفاء والرضى بحياة طيّبة. كانت السعادة - من وجهة النظر التاريخية- تُعرَّف في الأعراف السائدة بأنها نتاج "الحظ السعيد" و/أو "المصادفة الطيبة"، لكنها اليوم، وكما يتوقّع الكثيرون، باتت ممكنة بفعل الجهد الفردي والنجاح المهني.
فلننتبه: هذا المفهوم المعاصر للسعادة يجعل من مشاعر التعاسة والسلوكيات السلبية - مثل الحزن والغضب- تبدو وكأنّها ناجمة عن إخفاقات شخصية.
جرّب أن تسائل الدنماركيين والفنلنديين - الذين يُصنَّفون على نحوٍ مستديم في العقود الأخيرة بأنهم أسعد شعوب الأرض- عن السر الكامن وراء سعادتهم. سيخبرونك التالي: خفِّض سقوف توقّعاتك العالية، وكن راضيًا بما لديك. ليست هذه العبارة مجرّد وصيّة؛ بل هي نصيحة مدعّمة بدلائل مختبرة كثيرة.
من المفارقات المثيرة في أمر السعادة أنّها أيسر على التحقّق إذا لم تكن ترغب في الكثير منها. نحن نفترض، في العادة المتواترة، أنّ الأشياء الكبيرة في الحياة ستحقّق لنا سعادة أكبر من الأشياء الصغيرة. الأشياء الكبيرة قد تكون حفل زفاف، أو ترقية وظيفية، أو سيارة جديدة. هذه الأمور صحيحة، بالطبع؛ لكنّ السعادة المقترنة بها لن تستمرّ طويلًا.
تخبرنا الدراسات النفسية المكثّفة والمتفحّصة أننا نتكيّف (بمعنى نعتاد حتى نبلغ حدّ الملل، كما تُترجم العبارة) مع أوضاعنا الجديدة بأسرع مما يَحسب كثيرون منّا، وهذا ما يصفه علماء النفس بـ"روتين المتعة" (Hedonic Treadmill).
في مقابل الفعاليات الكبيرة، فإنّ المشي اليومي مع كلبك، وتناول القهوة أسبوعيًا مع صديقك المقرّب، وتناول عشاء رومانسي شهري مع شريك حياتك… هي الفعاليات التي تحقّق سعادة دائمة.
هل يبدو لك الأمر طيبًا؟ إنه يبدو طيبًا بالفعل، أليس كذلك؟ هو طيب حقًا، لكنّه يتغافل عن حقيقة جوهرية. يشبه الأمر كونك طالبًا جامعيًا اعتاد دراسة المقرّرات الجامعية الميسّرة لكي يضمن لنفسه علامات جيدة في الامتحان. هل ثمّة في الحياة ما هو أكثر من متَعٍ بسيطة وراحةٍ في دفء العلاقات الحميمة؟
مع الحياة التي تسعى إلى السعادة، هناك الحياة التي تسعى لبلوغ معنى. كثيرًا ما نتخيّل أنّ المعنى ينبثق من محاولة تغيير العالم على الشاكلة التي عمل بها كلّ من ستيف جوبز، أو غريتا ثونبرغ (1)، أو الأم تيريزا. لا يمكننا إغفال حقيقة أنّ الضغط النفسي والعملي الهائل سعيًا لتحقيق مثل هذا النمط من الرؤى العظيمة قد يكون مرهقًا للغاية إلى حدود تُعجز معظمنا، وتجعله يراها بعيدة المنال.
مرة ثانية، تكشف لنا الأبحاث الدقيقة أنّ تقليل حجم ومديات مثل هذه الرؤى الملحمية، والتركيز بدلًا منها على تفاصيل صغيرة، يمكن أن يمنحنا إحساسًا بالمعنى أكثر قابليّة للتحقّق. غالبًا ما يجد الناس مثل هذا الإحساس في أفعال روتينية عادية، مثل رعاية الأسرة، أو المشاركة في الأعمال التطوّعية الساعية للخدمة المجتمعية العامة، أو الحفاظ على ممارسات دينية تقليدية.
ومثلما قلتُ في الحياة الساعية لتحقيق السعادة، فليس ثمّة خطأ جوهري في الحياة الساعية لتحقيق المعنى، كيفما كان هذا المعنى؛ لكن هناك أيضًا جانب مظلمٌ وراء السعي نحو المعنى؛ فقد وجد الباحثون أنّ هذا السعي يمكن أن يشجّع الناس على وضع خطوط فاصلة تمييزية شديدة الصرامة بين من ينتمون إلى جماعتهم ومن لا ينتمون إليها.
إنّ الطقوس والحبَّ اللذيْن يرتبطان بأسلوب حياتنا الذي نختاره قد يتحقّقان على حساب التعاطف الواجب مع من يختلفون عنّا. على سبيل المثال التوضيحي، يميل المستبدّون العالميون إلى تحقيق أعظم فائدة مجتناة من عيش حياة ذات معنى، ولكن بكمٍّ من الأثمان المخيفة والخطيرة والمهدِّدة للعيش في العالم؟
لا يعني هذا التوضيح المُسهب للتفاصيل الدقيقة أنّ كلًّا من الحياة السعيدة أو الحياة الساعية للمعنى محكومٌ عليها بالضرورة أن تكون حياة غير طيبة؛ بل المقصود هو أنّ النموذجين يفشلان في استيعاب مدى اتساع التجربة الإنسانية. ما الذي نقوله، مثلًا، عن الطموح، والفضول، والاستكشاف؟ ماذا عن مقاربة واقع الفشل ثمّ معاودة النهوض من الكبوة والمضي في الطريق مرة ثانية وثالثة…؟
التفكير المعمّق فيما تتغافله السعادة والمعنى في حياتنا، وما قد ينصبانه لنا من فخاخ، دفعني أنا والعاملين معي في مختبري البحثي إلى محاولة تلمّس تضاريس مسار ثالث لتحقيق الذات: الثراء النفسي (Psychological Richness).
الحياة الثرية نفسيًا هي الحياة المملوءة بتجارب متنوّعة، وغير عادية، ومثيرة للاهتمام، ولها القدرة الفريدة على تغيير منظورك للحياة. إنّها حياةٌ حافلة بالتقلّبات والمفاجآت، حياة درامية مكتظّة بالأحداث بدلًا من أن تكون حياة بسيطة مباشرة؛ حياة تتّسم بالتعدّد والتعقيد، حياة فيها الكثير من المحطّات والمنعطفات ونقاط التحوّل، حياة تبدو وكأنّها رحلة طويلة متعرّجة، بدلًا من الاكتفاء بجولات روتينية تكرارية في المضمار ذاته.
يمكن لمثل هذه التجارب أن تنشّط جهاز مناعتنا النفسية بما يجعله أكثر مرونة وقدرة على التكيّف وتعديل المسارات المحسومة. ليس هذا فحسب؛ بل إنّ السعي وراء الثراء النفسي يمكن أن يجعلنا أقلّ عرضة لمفاعيل الندم: لن يهمّ كثيرًا إنْ أنت أخطأت في أمرٍ فعلتَه. لقد فعلتَه وانتهى الأمر، وسجّلتَ تجربة إضافية تُضاف لرصيدك من التجارب في الحياة.
الحياة الثرية نفسيًا متاحةٌ للجميع، كيفما كانت ظروفهم المعيشية، وترسيماتهم الذهنية، وسلوكياتهم النفسية. في أوقات المرض، أو الفجيعة بالفقدان، أو الإفلاس المالي، قد تبدو السعادة أو المعنى بعيدي المنال؛ في حين أنّ التركيبة العقلية والنفسية المصمّمة على تحصيل الثراء النفسي هي وحدها القادرة على دمج هذه الأزمات الكارثية في نسيج الحياة، لأنّها واثقة، بعلمها، أنّ الأمور الكارثية ستنتهي بانفراجة قريبة.
لكن على أية حال، يمكن للحياة الثرية نفسيًا أن تحمل في تضاعيفها معنى وسعادة كناتجين ثانويَّين لها. تأمّل، مثلًا، حالة ليندا، سائقة التاكسي التي التقيتُها في مدينة ريفرسايد بولاية كاليفورنيا. كانت حياتها ثرية نفسيًا بكلّ المقاييس الممكنة والمتاحة ولأبعد الحدود: أنجبت اثنين من أبنائها برغم حالتها الصحية التي جعلت من الولادة مصدر خطورة كبيرة على حياتها، ثم إنّها تجد سعادتها العظمى في زياراتها المنتظمة لأولادها وأحفادها، وتجد معنى في مسيرتها المهنية السابقة كموظّفة عامة، وكذلك في تبرّعها بإحدى كليتيها لزوجها السابق.
بعد أن تقاعدت ليندا، فضّلت العمل كسائقة بدوام جزئي، لأنّها تستمتع بالحديث مع زبائنها، فضلًا عن أنّ أرباحها المتحقّقة من التاكسي هي التي تموّل سفراتها السنوية إلى خارج أميركا.
ربما من المفيد، في ختام هذه المقالة، الاستعانة بما قالته إليانور روزفلت، وهو قولٌ أراه أفضل تعبير عمّا أردتُ كتابته:
"غاية الحياة في نهاية المطاف هي أن نعيشها، وأن نتذوّق تجاربها بأقصى حالاتها الممكنة، وأن نمضي فيها بحريّة وشغف ومن دون أيّ خوف…".
قراءات إضافية:
- Flourish by Martin Seligman (Nicholas Brealey)
-The Happiness Trap by Russ Harris (Robinson)
-The Antidote by Oliver Burkeman (Vintage)
1. غريتا ثونبرغ Greta Thunberg: ناشطة سويدية ولدت عام 2003، تعمل على وقف الاحتباس الحراري وتغير المناخ. في آب/ أغسطس 2018. أصبحت شخصية بارزة في الإضراب المدرسي الأول للمناخ خارج مبنى البرلمان السويدي. في كانون الأول/ ديسمبر 2018 ألقت كلمة أمام مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغيّر المناخ، كما دُعيت للتحدث في المنتدى الاقتصاري العالمي في دافوس.
(*) شيغيهيرو أويشي Shigehiro Oishi: أستاذ علم النفس في جامعة شيكاغو، وهو مؤلف كتاب "الحياة في ثلاثة أبعاد" Life in Three Dimensions.
(**) الموضوع المترجم أعلاه منشور في صحيفة "غارديان" البريطانية بتاريخ 27 كانون الثاني/ يناير 2025 ضمن سلسلة The Big Idea الأسبوعية. العنوان الأصلي للمادة المنشورة باللغة الإنكليزية هو:
? What’s the real key to a fulfilling life