}

بيير ماشري: ما يفكّر فيه الأدب (2-2)

فرانك شويريفيجن 29 أبريل 2025
ترجمات بيير ماشري: ما يفكّر فيه الأدب (2-2)
بيير ماشري
ترجمة وتقديم: إدريس الخضراوي

في الجزء الثاني من هذا النّقاش النّقدي الذي أفردته مجلة "الرومانسية" Romantisme لكتاب بيير ماشري: "من أجل نظرية في الإنتاج الأدبي"، يتوقّف الناقد فرانك شويريفيجن عند أبعاد علمية أخرى يتميّز بها عمل بيير ماشري. يبرز الباحث كيف أن قراءة ماشري التي يُمكنُ وصفها بأنها قراءة ضدّ المؤلّف، تبدو حريصة على أن تجترح لنفسها الموقع الذي يَليقُ بها بين القراءات المتحقّقة. إن ما يعيّن ماشري بوصفه قارئا يتمتّع بكفاءة عالية سواء بالقياس إلى أسلافه أو إلى النقاد في عصره لهو الأثر المستمرّ الذي تركه في نقد بلزاك، بل في النّقد البنيوي وما بعد البنيوي في القرن العشرين.

مُلاحظاتٌ سَريعةٌ حولَ القراءةِ النّقديّة

إذاَ أُنجزَ التحليل النّصي بشكل جيّد، فإنّ فائدتَه تكون مؤكّدةً. سوف نقبل مؤقتًا هذه الفكرة. بفضل التحليل، إذا كان ممكنًا، وإذا كان رصينًا، يبدو النص الذي نقرأه أكثر وُضوحًا، ويمنَحنَا إمكانيّة الوصول إليه بشكل أسهل. لا شك في أنّ هذا هو السّبب الكامن وراء السّمعة السيئة للسّلخ في النقد الأدبي. أي شخص يخبرني أن ما أراه هو فعلًا ما أراه، لا يقدّم لي فائدة كبيرة. أطرده بقسوة: أنت تذكّر بالبديهيّات. أريد أن يكشف الناس لي عن أشياء جديدة. وما أرغب فيه أن يقودوني إلى أسرار النّص. هنا يُطرحُ سؤالٌ آخر: كيف يتمكّن المحلّل من إقناعي بشرعيّة عمله؟ لماذا يبدو عمله رصينًا بالنّسبة لي؟ هنا أودّ أن أميّز بين نوعين من المشروعيّة، وهما أيضًا، في النقد الأدبي، فعلان متواتران. الأول هو الإبطال. وبما أن المحلّل ليس استثنائيا في مجاله، وثمة منافسة هائلة، فيجب عليه أن يثبت أنّه القارئ الأكفأ قياسًا إلى أسلافه. وبالتالي، فإنّ المقاربة التي يستخدمها سيكون جوهرها، على سبيل المثال، الإبلاغ عن خطأ ما، أو إدانة القراءة الخاطئة. لم نر، ولم نرد أن نرى أن... وأودّ أن أشير إلى أنَّ الأمر ليس مجرّد حيّل بلاغيّة. إن الجدل حول النّصوص ضروري لوجودها؛ وبدون هذا النّقاش، ربّما لن يكون هناك أدب.

الفعل الثاني يتولّد منطقيًّا من الأول. وهو ينطوي على أساس صعوبة القراءة، من خلال التحليل، والتي تعزى بالتالي إلى النص. ولا بدّ من توضيح الصعوبة، والمحلّل هو من يستطيع مساعدتنا. أن يثبت النص أنه "عاجز عن الدفاع عن نفسه"، لأنّه يتيم، كما سبق أن قرأنا عند أفلاطون، هو بالنسبة للمحلّل هبة من السّماء. المؤلّف غائب، وعليك أن تتكلّمَ بدلًا منه. لكن من سيتكلم ليقول ماذا؟ ولذلك سيتعيّن علينا، بالإضافة إلى ذلك، أن نتعامل مع المشكلة الدقيقة المتمثلة في "قصد الكاتب" والقيود التي يفرضها على التحليل. بالتأكيد، عندما نشرع في القراءة، لم يعد بالإمكان الاتصال بالمؤلّف. إنّه بعيد، لقد مات. ومع ذلك، فهو لا يزال يتربّص في نصه مثل شبح مزعج. لقد كان في [هذا] المكان وترك أثرًا. كيف نستخدم هذا الأثر بشكل فعّال في التحليل؟


سأميّز هنا مرّة أخرى بين عمليتين مختلفتين يمكن أيضًا دمج بعضهما ببعض على نحو جيّد: الأولى، احترام القصد، وتنطوي على الثناء على دقّة المؤلّف الذي كان بالتالي يخفي لعبته. ما كان الكاتب يتقصّد إلى قوله ليس قابلًا للترميم على الفور. لهذا يعدّ العمل النّقدي ضروريًّا. سيشير المحلل بعد ذلك إلى آثار السخريّة، أو يبرز تلميحات تناصيّة. باختصار، إنّه يساعدنا على اكتشاف جوهر لم نشكّ في وجوده منذ الوهلة الأولى.

العملية الثانية [تتعين بوصفها] أكثر جذريّة، وسأسمّيها ها هنا القراءة ضدّ المؤلّف. وهي تنطلق من المبدأ القائل بأنّه بالنسبة للتحليل، فإنّ قصد المؤلّف غير مهم؛ إنه باختصار مشكلة زائفة. المؤلّف هو بالتأكيد المنتج التاريخي للنّص، وبالتالي، فيما يتعلّق بالمواد النصيّة، فهو الشخص الأوّل المسؤول. لكن هذا لا يعطيه أي سلطة على ما كتبه. باختصار، هناك من هو أكثر فطنة من المؤلّف، والأذكى هنا هو المحلل الذي يصبح عمليًا، في هذه اللحظة، قرين المؤلّف، نديده المباشر، إن شئت.

من هذه الزاوية ألجُ موضوعي الحقيقي. إذا كان التحليل الذي اقترحه بيير ماشري لرواية "الفلاحون" les paysans  لبلزاك، في كتابه "من أجل نظريّة في الإنتاج الأدبي"، قد لاقى النّجاح الذي نعرفه، وإذا كان قد ترك أثرًا دائمًا في نقد بلزاك، وأبعد من ذلك، في النّقد البنيوي وما بعد البنيوي في القرن العشرين، فلأنّه استطاع أن يوضّح ببراعة، من خلال مثال ملموس ومختار بعناية، المزايا العديدة التي يقدمها نسق القراءة النقديّة ضدّ المؤلّف. في الواقع، يسلّط بيير ماشري الضوء من خلال التحليل، على نوع من العلاقة المتناقضة بين عظمة العمل، وذلك القدر من البصيرة التي قد يكون مؤلّف العمل امتلكها عند تأليفه. وبعبارة أخرى، بالنسبة لبيير ماشري، فإن بلزاك – بما أن موضوع البرهنة هنا يتعلق ببلزاك– هو سيد الواقعيّة لأن الأسباب الحقيقيّة لعبقريته تغيب عنه بالكامل تقريبًا. ولكي نتمكّن من سبر كنه عمل بلزاك، نحتاج إلى الناقد الذي يمثل ها هنا مرشدًا أساسيًا. وبالتالي، فإن القراءة ضدّ المؤلف هي أيضًا بالنسبة للناقد، إذا أمكننا التعبير عنها بهذه المصطلحات، طريقة لضرب عصفورين بحجر واحد. ومن خلال الربط بين العمى الجزئي الذي لاحظه عند الكاتب بلزاك والبصيرة التي ينسبها إلى أعمال بلزاك، يؤكد بيير ماشري على ضرورة وجوده كمحلّل. لقد كنّا بصدد البحث عن عمليّة فعّالة لا يمكن دحضها لإضفاء الشرعيّة الذاتيّة على الناقد. وها نحن ملاقيها.

سيقول لي أحدهم: ولوكاش؟ ألا يستخدم الاستراتيجيّة نفسها في مؤلفه "بلزاك والواقعيّة الفرنسيّة" (1934)؟ ألا يقدّم بالفعل نوعًا من القراءة التي تناولها بيير ماشري واستعادها، وصقلها إذا شئت؟ سأجيب على السؤال، وهو أيضًا اعتراض، "بما مفاده" أن الفرق بين بيير ماشري وجورج لوكاش يعود، على ما يبدو لنا، إلى حقيقة كون لوكاش، على الرّغم من المظاهر، لم يستخدم بعد نموذج القراءة ضدّ المؤلّف. ولذلك فإنّ النهج مختلف. يعزو الناقد المجري إلى بلزاك نوعًا من النزاهة الأخلاقيّة التي تجبره على تأكيد أشياء تعتبر محرجة للغاية بالنسبة له، نظرًا للالتزام الذي قطعه على نفسه بوصفه شخصيّة عموميّة. وبعبارة أخرى، فإنّ بلزاك، بالنسبة إلى لوكاش، يدعو سياسيًا إلى مجتمع منظم وتراتبي؛ فهو يرى، وهو يكتب عمله، أننا ما زلنا بعيدين عن الهدف، ولديه الشّجاعة لقول ذلك. وبعبارة أخرى، فإنّ لوكاش لا يقرأ ضدّ بلزاك، بل يقرأ معه. إنّه يشيد بالصدق الفكري للرّوائي. يكتب الناقد على سبيل المثال: "إذا كان التطور الفنّي الداخلي للمواقف والشخصيّات عند الواقعيين البارزين مثل بلزاك أو ستندال أو تولستوي، يتعارض مع تحيزاتهم الخاصّة، أو حتى مع قناعاتهم المقدّسة، فإنّهم لن يتردّدوا للحظة في وضع الأحكام المسبقة والقناعات جانبًا، وسيصفون ما يرونه حقًا". ونقرأ في مكان آخر: "في التناقض بين التصور والتحقّق، في التناقض بين المفكّر والسياسي بلزاك ومؤلّف ‘الكوميديا ​​البشريّة‘ تكمن عظمته التاريخيّة". سأقول بكلماتي الخاصة إنَّ لوكاش يحدّد بالتأكيد عند بلزاك الانقسام الداخلي في العمل، و"التفاوت"، الذي ليس سوى التعبير الذي سنجده عند ماشري. غير أنّ هذا "التفاوت" ليس، في نظر لوكاش، نتيجة للافتقار إلى الوضوح أو البصيرة، وهو ما يفسّر بدوره ضرورة التدخل النقدي. باختصار، بالنسبة للوكاش، بلزاك يعرف ذلك تمامًا... يعرف إلى أين يمضي.

نقرأ في مفتتح تحليل رواية Les Paysans "كل شيء يحدث كما لو أن بلزاك، أثناء كتابته عملًا، أراد أن يقول عدة أشياء في آن واحد"


الأمر مختلف مع بيير ماشري الذي يعتبر بلزاك "واقعيًا ألمعيًّا" على وجه التحديد، لأنّه من الممكن حرمانه من "سلطته التأليفيّة". وأذكّر بمفتتح تحليل رواية Les Paysans: "إن المشروع الرّوائي كما تصوره بلزاك ليس بسيطًا بل مشتركًا، ويتم التعبير عنه بعدة خطوط متباينة في الوقت نفسه". ونقرأ بعد ذلك مباشرة: "كل شيء يحدث كما لو أن بلزاك، أثناء كتابته عملًا، أراد أن يقول عدة أشياء في آن واحد: وكما سنرى، فقد نجح بالفعل في كتابة عدة أشياء، ليست بالضرورة الأشياء التي كان يقصدها هنا". ولذلك فإنّنا نفهم أنّه من الضروري في هذا النّوع من التحليل أن يتمّ طرح القصد جانبًا. لا يهم، إنّها بالضبط عقبة معرفيّة. يكتب بيير ماشري أيضًا على سبيل المثال: "إن "فكر" بلزاك لا يحظى بالاهتمام إلا بوصفه عنصرًا من عناصر الإنتاج الأدبي: فهو جزء من النّص، ولا يمكن قياس أهميته من خلال قيمته الأيديولوجيّة. لذلك يجب علينا أن نتخلى عن تطبيق هذه القراءة السلبيّة والاختزاليّة على عمله، والتي، بدعوى إزالة السطح غير الضروري والمضلّل، تذهب مباشرة إلى عمق العمل، وتدمّره بشكل مضاعف: من خلال تحليله وإزالة ما يمنحه القيمة الخاصّة به" (ص291). علاوة على ذلك، نقرأ ما يلي: "يسعى بلزاك عند كتابة رواية إلى قول شيئين في الوقت نفسه، لا يمكن أن يؤخذ أحدهما مكان الآخر[...] يمكن أن يكون هذان القصدان امتدادًا أحدهما للآخر: الاقتراح القانوني (العقيدة) ينبني على تحليل الحقيقة (الوصف الموضوعي للحالة والطبيعة) وإعطائها معناها. في الواقع، ليست هذه هي الحال: إنّها مسألة حركتين مختلفتين، بعيدًا عن أن تكمّل كل منهما الأخرى، وأن تندمج بعضهما ببعض، تسيران في اتجاهين متناقضين وتتناقضان معًا" (ص. 292). كلمات كاشفة. إذا كانت القراءة ضدّ المؤلّف استراتيجيّة تأويليّة فعّالة، وإذا كان لها، في الوقت الذي كتب فيه بيير ماشري هذه السّطور، وفي أوساط بلزاك على وجه الخصوص، مستقبل مجيد ينتظرها، فإنّ هذا النّوع من التحليل - ليست هذه هي الحال مع النّموذج الأول الذي وصفناه، حيث يوجد إجلال– ينجح في الآن ذاته في تأكيد القوة الفكريّة للعمل، والحاجة إلى القراءة النقديّة. الأمران، بطريقة ما، يسيران جنبًا إلى جنب. لذلك يُقالُ لنا: العمل قويّ، ذو رؤية؛ فهو يتيح الوصول، بشكل أفضل بكثير من التحليل الاجتماعي أو الأيديولوجي، إلى تعقيد التاريخ. لكنّ الجزء الثاني من الإجابة لا يقلّ أهمية: لماذا يتمتّع العمل بهذه الأهميّة، وهذه القوة الضاربة؟ ويضيف النّاقد: حسنًا، لأنّ المؤلّف نفسه لم يفهم شيئًا مما يفعله، بينما فهمت أنا كلّ شيء؛ ومن الآن فصاعدًا، لا يمكن للعمل أن يوجد إلا إذا كان مصحوبًا بتحليل نقدي. لقد تعيّن هذا أيضًا بوصفه الهدف الذي كان لا بدّ من تحقيقه.

ثمة شيء واحد يظلّ بحاجة إلى الكشف ها هنا، وهو المسألة، المحرجة بالقدر نفسه، المتعلّقة بمعرفة ما إذا كان نموذج القراءة ضدّ المؤلّف، حيث نقترح لذلك كتمرين، في الحالة التي تعنينا، قراءة بلزاك ضدّ بلزاك، لن يكون كذلك، على نحو مفارق، وبالتالي، على نحو متناقض، نموذج "بلزاكي". أعني بهذا أنّه عندما نفكّر في الأمر قليلًا، ربّما يكون هذا النموذج مبنيًا في البداية على تمثيل معيّن للعبقريّة والفنان "العبقري" الذي ندين به للرومانسيّة، والذي يقدّم له عمل بلزاك الكثير من التبيين بشكل ملموس للغاية. أفكّر في شخصيّة مثل لويس لومبير، وهو أيضًا شخصيّة بديلة للكاتب. لويس، كما نعلم، يكتب أشياء رائعة، لكنّه للأسف لا يستطيع تفسيرها بنفسه. هذه أشياء رائعة وغامضة. والسّبب هو أن لويس عبقري ومجنون في الآن ذاته، وكلام العبقري المجنون يَحتاجُ إلى التفسير والتعليق عليه، حتى نتمكّن من تعلّم شيء منه. بمعنى آخر: لويس لا يكون عظيمًا إلا من خلال الأشعار التي كرّسها بلزاك لحياته وعمله. وبشكل أكثر قسوة، ولتوضيح هذه النقطة: إذا لم يكن هناك دليل استعمال، فلن تكون هناك عبقريّة.

نحن نعلم أن بلزاك أنهى قصّته عن حياة لويس لومبير بتوجهات معينة: "هذه هي الأفكار التي تمكنت، دون صعوبة كبيرة، من تقديم أشكال لها فيما يتعلق بفهمنا". أعتقد أنه يمكننا القول دون أن نجانب الصواب بشدّة بشأن قيمة النّص الذي قدمته هذه "الأفكار" نفسها كما هي، وبالتالي لولا الإطار التوضيحي الذي أعطاهُ لها بلزاك، لكانت بلا فائدة. لذلك فإنّ عبقرية لومبيِر هي نتيجة للإطار، وبالتالي، إذا شئت، لتعليق بلزاك. هل يسمح لنا هذا أن نؤكّد – وهو أمر لا ينتقص بأيّ حال من الأحوال من قيمة تحليله، ولا من الأهميّة التي كانت له، ولا تزال، في تاريخ نقد بلزاك– أن بيير ماشري، وبطريقة معينة، عندما يقرأ Les Paysans، فإنّه يشكّل بالنسبة لبلزاك، ما يشكّله هذا الأخير، في النّص حول لويس لومبير، للبطل الذي يَحملُ الاسم نفسه؟

سأترك لك "مهمّة" التفكير في السّؤال أيّها القارئ الكريم.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.