ترجمة وتقديم: عماد فؤاد
تقديم
في عام 2024، وبعد مرور 20 عامًا على وفاته، نُشرت رواية الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الأخيرة والموجزة "نلتقي في أغسطس"، والتي كان يعمل عليها عند وفاته، وقد ظهرت الرواية بعيدة كل البعد عن الاكتمال الفني الذي عودنا عليه ساحر الرواية اللاتينية، ووفقًا لـ"غابو" نفسه: "لم تكن جيدة بما يكفي للنشر"، لكن محبّي أعماله كانوا سعداء بآخر ما كتب ساحرهم، وبيعت منها ملايين النسخ حول العالم منذ نشرها حتى اليوم.
أما كتاب "الطريق إلى ماكوندو" De weg naar Macondo الذي نُشر مؤخرًا، فليس رواية جديدة، بل مجموعة من الأعمال التي شكلت مقدمة لانطلاقة غارسيا ماركيز العالمية، قبل أن يكتب تحفته الخالدة "مائة عام من العزلة"، التي وضعت أدب أميركا اللاتينية على خريطة الأدب العالمي، والتي تحكي قصة عائلة بوينديا وصعود وسقوط بلدة ماكوندو الصغيرة، وبالتالي القصة الأكبر لوطن غارسيا ماركيز، كولومبيا، التي دمرتها الحرب الأهلية، خاصة وأن عالم الواقعية السحرية في ماكوندو يستند جزئيًا إلى أراكاتاكا، القرية التي قضى فيها الكاتب السنوات الثماني الأولى من حياته في بيت جديه لأمه.
نُشرت "مائة عام من العزلة" الملحمية في عام 1967، قبل ذلك، نشر غابرييل غارسيا ماركيز (1927 - 2014) عددًا من القصص والروايات القصيرة، أو ما يمكن أن يطلق عليه "ملاحظات أو خيوط لرواية"، كما نشر عددًا من الروايات، من بينها: "الأوراق الذابلة" (1955)، و"لا أحد يُكاتب الكولونيل" (1961)، وقصص من "جنازة ماما غراندي" (1962) و"ساعة الشر" (1966). وكما تعرض المتاحف أحيانًا دراسات أولية أو "اسكتشات" لأعمال فنية شهيرة، فإن كتاب "الطريق إلى ماكوندو" الضخم (544 صفحة في ترجمته الهولندية) يُظهر لنا وبوضوح تام، كيف نشأت وتكونت فكرة قرية ماكوندو الخيالية في عالم ماركيز الأدبي، إلى الدرجة التي أصبحت ماكوندو معها الخلفية الأهم والأوضح في مجمل أعمال ماركيز.
اليوم، وبعد عودة الاحتفاء بأعمال غابرييل ماركيز، إثر عرض مسلسل "مئة عام من العزلة" على شبكة نتفلكيس العام الماضي، تعيش قرية أراكاتاكا، مسقط رأس ماركيز، حياةً جديدة، خاصة مع الحالة السياحية التي صنعها المسلسل للقرية الصغيرة، ما دفع الكاتبة والصحافية المكسيكية ألما غييرموبريتو Alma Guillermoprieto إلى كتابة هذا النص الذي يشتبك مع/ ويعتمد على مقتطفات من كتاب "الطريق إلى ماكوندو"، ونترجمه هنا عن الهولندية، كما نشرته صحيفة "ده ستاندارد" البلجيكية مؤخرًا.
النص:
كنت في كولومبيا للمرة الأولى في صيف عام 1973، مسافرة من نيويورك حيث كنت أعيش، إلى تشيلي للدراسة في جامعة سانتياغو، اشتريت تذكرة درجة ثانية إلى بوغوتا في محطة سانتا مارتا للقطارات، واستلقيت على مقعد خشبي في عربة شبه فارغة، كان الجو حارًا، ولكن بعد ساعات قليلة، وبينما كنا نخترق السافانا الاستوائية الخضراء اللامتناهية، أصبحت رحلة القطار جحيمًا، كنت منهكة من الرحلة الطويلة، غارقة في النعاس ومرتجفة من اهتزاز القطار البطيء، مذهولة من الحرِّ، فاقدة لأي إحساس بالمحطات التي تتعاقب ببطء، كنت غافية عندما توقف القطار مرة أخرى، نظرت إلى أعلى وحاولت مشمئزة مسح زجاج نافذة القطار لقراءة اسم المحطة، في ثانية واحدة، استطعت فك رموز الحروف: "أراكاتاكا".
"أراكاتاكا"! ناديت على المحصّل دون جدوى، ركضت باتجاه الباب لأرى إن كان بإمكاني على الأقل أن أضع قدمي على أرض مكان أعرف تاريخه الأسطوري أكثر من تاريخ عائلتي، لكن القطار كان قد بدأ في التحرك من جديد... أراكاتاكا...
وبينما كنت جالسة منتصبة في صلابة على كرسي التعذيب الخشبي، أتأرجح بين إحباطي ونشوتي، رأيت الظلام يحل على الجانب الآخر من النافذة المتسخة، وظننت أن عاصفة استوائية ممطرة ستندلع في ثوانٍ معدودة، لكن ذلك الظلام المفاجئ كان سببه شيء مختلف تمامًا: كان القطار يشق طريقه عبر سحابة كثيفة من الفراشات الصفراء، عاصفة من الأجنحة التي اختفت في لحظة.
كان غابرييل غارسيا ماركيز، الذي كان بشكل عام رجلًا متحفظًا وحادًا أحيانًا، يرتبك وتتورد وجنتاه ويرتفع طرفا شاربيه قليلًا كعلامة على الموافقة، حين يسمع هذا النوع من القصص، كان يقول برضى تام: "لا أحد يصدقني عندما أقول إنني لم أختلق أي شيء! في الأصل، أنا مجرد موظف بسيط". ولأنه كان خجولًا بالفعل - وهو ما لم يصدقه أحد أيضًا – كان غابو يكتم أنفاسه للحظة، قبل أن ينطق الكلمة الأخيرة من "النكتة"، ثم يُطلق بعدها سعالًا لا يمكن أن يُسمَّى ضحكة.
|
تعيش قرية أراكاتاكا، مسقط رأس ماركيز، حياةً جديدة، خاصة مع الحالة السياحية التي صنعها المسلسل للقرية الصغيرة |
لطالما ادّعى ماركيز - في كل مناسبة سنحت له - أنه لم يحدث له أي شيء "مثير للاهتمام" بعد سن الثامنة، يبدو هذا الكلام مبالغًا فيه بشدة، ولكنه في الحقيقة صحيح بشكل ما، كانت السنوات الثماني الأولى من حياة ماركيز، التي قضاها في منزل جدّيه لأمه في قرية أراكاتاكا، والتي حوّلها غابو إلى ماكوندو لاحقًا، قد زوّدته بمادة تكفي للكتابة عمرًا بأكمله، وقد فعل!
تاريخ طفولة غابو معروف جيدًا: ولد غابرييل في عام 1927 في أراكاتاكا، وكان عمره أقل من عامين عندما اضطر والداه - اللذان عاشا حياة محفوفة بالمخاطر - إلى تركه في رعاية جدِّيه أثناء بحثهما عن سعادة أكبر، كان الجدّ نيكولاس ماركيز قد حارب كعقيد إلى جانب الليبراليين في الحرب المعروفة بحرب "الألف يوم"، التي أغرقت البلاد في الدماء في سنوات الانتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين. السر الأكبر هو أن الجد الذي حارب وقاتل بشراسة خلال سنوات خدمته كجندي، كانت تطارده في وقت لاحق من حياته ذكرى الرجل الذي قتله بعد الحرب بسبب مسألة شرف.
كان عبء تلك الجريمة الفريدة من نوعها بمثابة شبح يطارد الجدّ، وعلى أمل أن يهرب من الشبح، يغادر نيكولاس ماركيز القرية التي ارتكب فيها الجريمة، ليعيش هو وزوجته ترانكيلينا إيغواران حياة الترحال لعدة سنوات، ولم يكونا وحدهما، بل مع أطفالهما الثلاثة، صبيين وفتاة صغيرة اسمها لويزا سانتياغا، ستصبح يومًا ما المرأة التي ستنجب غابرييل غارسيا ماركيز، وكان معهم أيضًا ثلاثة من الهنود الغواجيرو: "كانوا قد اشتروا الواحد منهم بمائة بيزو في قريتهم الأصلية، لأن العبودية كانت قد ألغيت"، ورغم ذلك سيبقى الهنود مع العائلة طوال حياتهم.
حاولت العائلة الاستقرار في جميع أنواع البلدات والقرى المحيطة ببحيرة سانتا مارتا الساحلية الضخمة، سييناغا غراندي دي سانتا مارتا، لكنها في النهاية استقرت في أراكاتاكا، وهي قرية موز تتحلّل ببطء، في ظل الحرارة والأمطار الاستوائية الغزيرة ذات الأبعاد التوراتية.
تقع مزارع الموز الشاسعة التابعة لشركة الفاكهة المتحدة وقراها البيضاء، على جانب واحد من خطوط السكك الحديدية؛ منازل بيضاء للأجانب البيض، الذين يعيشون حياة مختلفة تمامًا خلف الأسوار التي تحيط مناطقهم، وعلى الجانب الآخر توجد القرية، التي لم تكن في البداية أكثر من مجرد شارع مترب، لم تأت حمى الموز إلّا بعد الحرب ومعها "الأوراق الذابلة"، مثل هذه الغوغاء من الدجالين والمغامرين والباحثين عن الثروة والعاهرات الذين سيشكلون يومًا ما خلفية لملحمة عائلة بوينديا.
وكما سيكتب غابرييل غارسيا ماركيز لاحقًا، فإن رحيل شركة الفاكهة المتحدة دمّر القرية، التي كانت مزدهرة ذات يوم لأنها استفادت من حمى "الذهب الأخضر". عندما غادرت الشركة، أخذت معها كل شيء: "المال، وبَرْيِ ديسمبر، وسكّين الخبز، ورعد الساعة الثالثة مساءً، ورائحة شجيرات الياسمين، والحُبّ. لم يبقَ سوى أشجار اللوز المغبرة، والشوارع التي تعكس صهد الصيف، والبيوت الخشبية بسقوفها الصدئة المصنوعة من الزنك، وسكانها الصامتين الذين سحقتهم الذكريات".
يعيش الجدّ، وهو كبير في السن لكنه لا يزال قويًا، في منزل ذي غرف كثيرة وممرّات كبيرة ومظلمة، يسكنه أيضًا خليط من الخالات والأخوات والأمهات والجدّات، وشجيرات الياسمين والبيجونيا والكراسي الهزازة. يمنح الكولونيل غابرييل الصغير كل حبّه وأفضل قصصه: عن الحرب وعن ماضي أراكاتاكا الأسطوري وحياته المليئة بالتقلبات، فيما تملأ الجدة ترانكيلينا خيال الصبي بتعداد دقيق للأشباح والأهوال التي تتعايش مع العائلة في المنزل، لدرجة أن غابرييل الصغير كان لا يزال يثرثر بلغة الأطفال عندما بدأ في سرد قصص غريبة وغير قابلة للتصديق بالفعل على عائلته، ليضحك جدّاه ويوبخانه ساخرين، يقول ماركيز في مذكراته إنهما لم يدركا أن ما كان يحكيه "كان حقيقيًا تمامًا، ولكن بطريقة مختلفة".
يأخذ الجد حفيده المحبوب من يده ويمشي معه إلى متجر شركة الموز حتى يكتشف طعم الآيس كريم هناك، كذلك يحرص الجد على أن يعلم حفيده البالغ من العمر سبع أو ثماني سنوات أن هؤلاء الغرباء، أصحاب الآيس كريم والموز، مسؤولون عن مذبحة عمال شركة الفاكهة المتحدة؛ فقد أضربوا ذات ليلة طويلة في كانون الأول/ ديسمبر من عام 1928 ضد شركة أميركا الشمالية، وتعرضوا لهجوم من القوات الكولومبية. ولسبب غير مفهوم، يأخذ الكولونيل الجدّ حفيده الطفل لزيارة جثة صديق له "لا تزال طازجة" بعد أن اختار الانتحار!
جريمة قتل بسبب مسألة شرف، ثم مذبحة وجثة صديق منتحر: حياة غابرييل الصغير تدور في فوضى وسعادة الشباب، بينما يمتلئ المشهد الداخلي بالموت والمخاوف والأشباح. يموت الجد نيكولاس عندما تكون عائلة غارسيا على وشك مغادرة قرية "أراكاتاكا" إلى الأبد للاستقرار في "سوكري" الصغيرة، الواقعة في منطقة البحيرة. عندما يحزمون الحقائب ويستعدون للمغادرة، يرى الصبي غابرييل أن جميع ملابس جده في المنزل القديم – حيث طفولة غابو – مكومة في ركن قبل أن يشعلوا فيها النيران، تطاول النار قبعة جده أيضًا، دون قصد أو بقصد، سيكتب بعد ستين عامًا: "الآن أصبح الأمر واضحًا تمامًا بالنسبة لي، لقد مات شيء ما منّي معه أيضًا".
هناك الكثير من الحقيقة في تاريخ ماكوندو العظيم المتخيل، الذي أدرجه غارسيا ماركيز في المجلد الأول من مذكراته "حياة تروى"، إنه تاريخ حقيقي بطريقة غابو الخاصة؛ موثوق به أو غير موثوق به مثل كل الذكريات الأساسية؛ ويبدو لي أن أفضل طريقة لقراءته هي أن نتصوّره بوصفه "أسطورة جديدة".
المذبحة، مطر الطيور، واكتشاف الجليد... كل شيء، كل شيء يمكن العثور عليه حقًا في تلك السنوات الثماني الأولى من عمر غابو، وأيضًا في المئات من الصفحات التي يستغرقها المؤلف في سرد السنوات الأولى والحاسمة من شبابه وما تلاها: اليوم الذي يعود فيه الكاتب الطموح وهو في الثالثة والعشرين من عمره مع والدته لبيع منزل شبابه القديم. تسافر الأم والابن بالقطار – ذات القطار القديم الفريد من نوعه - إلى قرية الموز القديمة التي هجرتها شركة الفاكهة المتحدة الآن. يسيران بين أطلال القرية الحزينة التي تبدو ذكرياتهما فيها أكثر واقعية من الواقع المميت الماثل أمام أعينهما، يعانيان من الحرارة الحارقة في الشوارع المتربة الخالية من أي صخب، أخيرًا، يزوران المنزل الذي يتداعى كقطعة خبز جاف قديم بعدما وجداه في مكان ما بين الأنقاض؛ الحاضر شبح، وبينما يقف بجوار أمه في المحطة في انتظار القطار الأصفر العائد، يكون غارسيا ماركيز قد تحول بالفعل إلى شبح هو الآخر، يدور بلا عزاء حول بقايا طفولته، تلك التي اختفت مثل سرب فراشات، لا يمكن استعادتها أبدًا.
تُطرد الأشباح بالكتابة... هذا بالضبط ما حدث لماركيز؛ فقد وجد نفسه وجهًا لوجه مع ما فقده، وأنقذته النظرة التي جعلت منه كاتبًا: "لم يتغير شيء، لكنني وجدت أنني لم أكن أنظر إلى القرية في الواقع، بل شعرت كما لو كانت كتابًا أقرأه... وأن كل ما كان عليّ فعله هو الجلوس وكتابة ما كان موجودًا بالفعل".
بمجرد نزوله من القطار، هرع ماركيز إلى آلته الكاتبة في مكتبه بمبنى صحيفة "إل هيرالدو"، كان غابو حينها صحافيًا نجمًا، وبدأ في كتابة الصفحات الأولى من روايته "الأوراق الذابلة"، وفي صباح اليوم التالي، وجده أحد زملائه لا يزال يكتب كالمجنون، وتنبأ غابو لصديقه قائلًا: "ستكون هذه رواية حياتي".
من الصعب معرفة كيف تعامل غارسيا ماركيز مع حقيقة أن إحدى رواياته أصبحت أكثر شهرة بمئات المرات من مجمل الأعمال التي سبقتها أو التي كتبها بعد ذلك. ربما لم يكن يعرف ذلك بنفسه، كان غابو يدرك، من ناحية، أن قصة حب والديه التي تحولت إلى "الحب في زمن الكوليرا" ربما كانت أفضل رواياته. ومن ناحية أخرى، ليس لديّ شك في أن رواية "مائة عام من العزلة" كانت بالنسبة له أسمى ما يمكن أن يحققه في محاولاته لتحويل الواقع إلى أدب. وعلاوة على ذلك، فقد جعلته ثريًا ومشهورًا بشكل لم يكن هو نفسه يتخيله، ولكنه بالإضافة إلى ذلك كتب كل هذه القصص الأخرى التي تشكل معًا "أسطورة جديدة".
والآن بعد مرور أكثر من نصف قرن، من الصعب أن نتخيل النشوة التي أثارها ظهور "مائة عام من العزلة"؛ فبالنسبة للقرّاء الذين ولدوا فيما بعد، كان هذا العمل الفذ موجودًا دائمًا، وكواحدة من ملايين القرّاء، تذكرت تجربة القراءة تلك كسعادة أبدية كاملة، لحظة ذات قيمة أبدية، لأنه ما من كاتب آخر في القرن العشرين استطاع جرّ قرّائه إلى عالم كامل وساحر بهذه البساطة الآسرة كما فعل ماركيز.
(*) المقتطفات الواردة في النص محرّرة من كتاب "الطريق إلى ماكوندو"، الذي يجمع كل نصوص ماركيز التي كتبها في الفترة من عام 1950 إلى عام 1966، وتدور أحداثها في المكان الخيالي الأسطوري "ماكوندو"، الذي كانت قرية أراكاتاكا نموذجًا له:
Gabriel García Márquez: ‘De weg naar Macondo’, Meulenhoff, Amsterdam 2024.