يشهد التعليم العالي Higher Education في عالمنا المعاصر انعطافة كبرى وبخاصة مع تعاظم قدرات الذكاء الاصطناعي. أهمّ ما يترتّب على شيوع تقنيات الذكاء الاصطناعي في قطاع التعليم العالي خصيصتان: الأولى، شيوع أنماط التعليم الإلكتروني غير التقليدي مع كلّ ما يقترن به من تعظيم مزايا الفردانية Individuality. تتمحور فلسفة التعليم الإلكتروني حول جملة من الخصائص الجوهرية يبدو أن أهمها هي اثنتان؛ الأولى هي كونه تعليمًا قائمًا على المهارات skills based education التي يمتلكها المرء، وليس أفضل منه من يمكن أن يطوّرها في مسالكها المرغوبة، وبخاصة في عصرنا هذا الذي صار يتميز بالتشبيك المعرفي إلى مدى باتت الجامعات التقليدية عاجزة عن التعامل معه أو الإيفاء بمتطلباته. يكتب دانييل دينيت Daniel Dennett (الفيلسوف المحبّب والمقرّب من طائفة العلماء المرموقين) العبارة التالية في إحدى مداخلاته المهمّة: "المثابة البارزة التي صارت خصيصة مميزة للنجاحات الراهنة التي حققتها حضارتنا في العقود القليلة الماضية إنما تعود في جوهرها إلى طبيعة التشبيك المعرفي والتداخل المفاهيمي بين المساعي العلمية الحديثة". أما الخصيصة الثانية فهي تفتّت المرجعيات الحاكمة، وانزواء المركزيات الفكرية، وتراجع النخبويات الموروثة أو غير القائمة على فرادة المهارات البشرية والإمكانات العقلية. لن تكون لدينا بعد اليوم مرجعيات فكرية ذات سطوة متغوّلة، في الجامعات العربية بخاصة، ممّن يتحصّنون في قلاعهم الجامعية ويتخذونها ملاذًا مجانيًا لبناء أمجاد موهومة لهم. سيكون قطاع التعليم الجامعي مصداقًا مختبريًا لهذه الحقائق حيث سنشهد منذ الآن انعطافات ثورية في حقل التعليم «العلوم والإنسانيات بخاصة، ومن ثمّ الطب والتخصصات المهنية الدقيقة»، وستتعاظم مفاعيل هذه الانعطافات التعليمية بعد تحسين عمل شبكة الإنترنت واسع النطاق (شبكات الجيل الخامس G5) وجعلها قادرة على تزويدنا بمصادر مفتوحة للمعلومات لن يكون معها المتعلم بحاجة إلى مرجعية أستاذية على النحو السائد في وقتنا الحاضر، ومن أجل هذا يعمل المطوّرون على جعل خدمة الإنترنت مجانية في السنوات المقبلة. أما التعليم التقني فستتكفل به الشركات التقنية العملاقة لأنها أدرى بمتطلباتها، وهي أفضل من الجامعات في هذا الشأن.
يبدو جاك أتالي Jacques Attali واحدًا من أفضل الخبراء القادرين على مقاربة موضوعة سياسات التعليم العالي ووضع الجامعات والكليات. هو يكتب من واقع خبرة ملوّنة المشارب تحصّلها بفعل عمله الاستشاري في مواقع رفيعة، وهو لم يكتفِ بالمكوث في الأعالي الأكاديمية المهيمنة التي غالبًا ما يتّصف أصحابها بالتمحور حول رؤية واحدة وعدم تقبّل الاختلاف ربما خوفًا على امتيازاتهم الراهنة.
جاك أتالي حاصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد، تخرّج من مدرسة البوليتكنيك Ecole Polytechnique ذائعة الشهرة. عمل عضوًا في مجلس الدولة، ثمّ عمل مستشارًا خاصًا للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران لمدة عشر سنوات (1981-1991)، وهو مؤسس أربع مؤسسات دولية: العمل ضد الجوع، ويوريكا Eureka، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، ومؤسسة Positive Planet. ألّف جاك أتالي 86 كتابًا (منها أكثر من 30 كتابًا مخصصًا للكتابة عن المستقبل)، بيع منها أكثر من 10 ملايين نسخة، وتُرجِمَتْ إلى 22 لغة. وهو كاتب عمود في عدد من الصحف الفرنسية الشهيرة. بعضُ كتب أتالي مترجمة إلى العربية، أذكر منها: كارل ماركس أو فِكْرُ العالم؛ غدًا من سيحكمُ العالم؟؛ قصة موجزة عن المستقبل؛ آفاق المستقبل؛ ملامح المستقبل.
يقود جاك أتالي أيضًا فرقًا موسيقية تقدم عروضها حول العالم بانتظام.
النص
قد تحصلُ في عالمنا هذا تطوّراتٌ نُحجِمُ عن رؤيتها لأنّها تبدو جنونية حدّ أنّنا لا نعيرُ أدنى انتباهةٍ لكلّ المؤشّرات التي تنبئ بمقدمها. عندما تتحقق هذه التطوّرات على أرض الواقع قد يأخذنا هولُ المفاجأة، أو قد نعجبُ بما يحصل، أو قد نكتفي بصراخ ينمّ عن عدم ارتياح وجهالة بما يجري من مفاعيل لم نتحسّب لها. حينها يكون الأوانُ قد فات على اتخاذ السياسات المناسبة. أحد أهمّ هذه التطوّرات على مقياس عالمي، على سبيل المثال فحسب، هو ما يجري اليوم في الجامعات والكليات. دعونا نثبّت الحقائق الأساسية. أولًا، لو استثنينا عددًا قليلًا للغاية من الجامعات المعروفة بتمويلها الضخم، تعاني الجامعات والكليات في كلّ العالم من ضعف مؤسساتي هيكلي في برامج التمويل وبخاصة في البلدان الناشئة. ثانيًا، باتت نسبة متعاظمة من المناهج التعليمية الجامعية وفي كلّ الميادين تقريبًا تدريبات عملية تجري وقائعها داخل أروقة الشركات. من الواضح بالبداهة أنّ مثل هذه الحال ساعدت في زيادة نسب الطلبة الملتحقين بالتعليم المهني Vocational Education.
في تطوّرات أكثر حداثة في العديد من الدول التي يساهمُ فيها الطلبة بالقسط الأوفر من تمويل التعليم العالي، عمدت الشركات إلى الحديث المباشر مع أفضل الطلبة المتخرّجين من التعليم الثانوي (أو مع خريجي الجامعات والكليات في الولايات المتّحدة) بغية إقناعهم بأنّهم لن يستفيدوا شيئًا من الالتحاق بالدراسة الجامعية التقليدية، وفي الوقت ذاته تقدّمُ لهم الشركات عروضًا مغرية بتوظيفهم فورًا لديها والتكفّل بكلّ نفقات تدريبهم المهني ومن ثمّ دفع مرتّباتهم. فضلًا عن هذه الامتيازات تجادلُ الشركات بأنّ الكليات والجامعات لا تتمتّعُ بمستوى الكفاءة ذاته الذي تتمتّع به الشركات فيما يخصُّ مستوى التقنيات المتقدّمة. ثمّة مصاديق كثيرة على صحّة ما تدّعيه الشركات؛ إذ أنّ برامج متعدّدة للتعليم العالي راحت تظهر بطرق عديدة داخل أروقتها. من جانب آخر، وفيما يخصّ المستجدّات في الكليات والجامعات، صرنا نشهدُ ظهور جامعات من غير أساتذة، حيث يتدربُ الطلبة فيما بينهم تحت إشراف بعيد عن الجامعات. آخر التطوّرات أنّنا شهدنا - وسنشهد أكثر فأكثر- انبثاق جامعات افتراضية من غير واقع ملموس لها، تمنحُ شهادات وهمية قائمة على تدريبات عملية جرت في الشركات. بهذه الكيفية تغدو الشركة - جزئيًا في بادئ الأمر، ثمّ كليًا بعد ذلك- الإطار المرجعي الكامل للتعليم العالي. قد يؤدّي هذا الأمر إلى انهيار نظم التعليم العالي التي ستفقدُ بالتأكيد أفضل طلبتها وأساتذتها ومصادر تمويلها. المقاربة الأفضل للتعامل مع واقع الحال هذا هو مأسسة هذه العملية بدلًا من التطيّر والخذلان إزاءها. توجد خطوة أولى يتوجّبُ اتّخاذها بطريقة ما من جانب الكليات والجامعات بالتشارك مع مؤسسات أخرى (قد تكون حكومية أو خاصة).
يمكن الاتفاق المسبّق بين الجامعات والشركات على أن تتكفّل شركة ما بتقديم منهاج دراسي كامل لخدمة الاحتياجات التعليمية لموظّفي المستقبل ممّن يمكن أن يعملوا في الشركة مستقبلًا. يتمّ تمويل البرنامج بالكامل من جانب الشركة، ويمكن لها أن تتعاقد للحصول على خدمات أفضل الطلبة بعد تخرّجهم. ستحقّقُ الشركات الكبرى المنضوية في هذه السياسة التعليمية فائدة عظمى عبر اقتصار التدريب على من تتوسم الاستفادة من خبراته المستقبلية من الطلبة الجامعيين، وبالتالي ستتمكّنُ من تحديد احتياجاتها المهنية بدقّة أكبر عبر المساهمة في تشكيل خبرات عامليها بدلًا من انتظار تشكّل الخبرات في وقت متأخر للطلبة الخريجين من الكليات والجامعات. من الواضح أنّ الفائدة ثنائية ومفيدة للطرفيْن: ستحقّقُ الجامعات التي تعتمد هذه السياسة التعليمية إيراداتٍ مالية جديدة، وهذا أمرٌ مرحّبٌ به في الجامعات المنتمية لدول فقيرة. بهذه السياسة التعليمية ستحققُ الجامعات انتقالة نوعية من جامعات أكاديمية تقليدية إلى جامعات أعمال Business Universities.
سنتوقّعُ الكثير من الأصوات الزاعقة التي تنذرُ من عواقب سياسة فضائحية تُرْتَكَبُ علانية. سيصرخون بأعلى الأصوات: ها هي الأسواق قد غزت جانبًا جديدًا من الخدمات العامة لطالما ظلّ منيعًا بوجه السياسات النيوليبرالية!! كيف لنا أن نقبل بأن تكون الجامعة محض مكان لتدريب الموظّفين المستقبليين لشركة معيّنة، وأن تكون تلك الشركة هي التي تحدّدُ طبيعة المناهج الدراسية الجامعية طبقًا لما يعظّمُ مصالحها؟ كيف لنا أن نقبل المخاطرة بتحويل الجامعة إلى محض مكان ينال فيه الطلبة تدريبًا عمليًا يتواءم مع غايات شركة ستوظّفهم لفترة ما ثمّ ستعمل على التخلّص منهم سريعًا بعد أن تتقادم معرفتهم ومهاراتهم العملية؟ كيف يمكننا قبولُ حقيقة أنّ الشركات في هذا النظام التعليمي الجامعي هي التي ستحدّدُ مَنْ يجب توظيفه ومن يجب استبعاده من الأساتذة الجامعيين؟ كيف يمكننا التضحية بجوهر التعليم الجامعي القائم على أعمدة ثلاثة: الاستقلالية، والقيم العالمية، وحرية التعبير والبحث؟
لكن برغم كلّ هذه الأصوات المعترضة يبدو أنّ كلّ شيء ممهّدٌ لاعتماد مثل هذا التطوّر الراديكالي في السياسة الجامعية والتعليم العالي. من المتوقّع أن يحصل الأمر أولًا في الجامعات الخاصة التي يعتمدُ تمويلها لمديات بعيدة على الرسوم الدراسية للطلبة إلى جانب تبرّعات الطلبة السابقين. وأنا أكتبُ هذه التفاصيل صرنا نشهدُ أعدادًا متزايدة من الشركات التي تشرع في محادثات تفاوضية سعيًا لمثل تلك الشراكات المهنية مع الجامعات. حصل الأمرُ أولًا مع جامعات البلدان الأنكلو- ساكسونية المعروفة بتقاليد عملها المؤسّسة على مبدأ المنفعة.
تضعُ أكثر الشركات استنارة بين مثيلاتها أمر هذه الشراكات في إطار رؤية مستقبلية قد تمتدُّ لثلاثين أو أربعين سنة من اليوم، وفي إطار تدريب مستديم تساهم فيه الجامعات أيضًا. علينا أن نتوقّع من الشواهد الحالية أنّ مثل هذه السياسة الجامعية ستقتحمُ الحصون الأوروبية بما فيها فرنسا التي لطالما ظنّها كثيرون منّا معبدًا للتعليم الجامعي المنزّه عن الاعتبارات النفعية الصارمة. المقاربات المتوتّرة وردّات الفعل المتشنّجة والاعتراضات العنيفة والأصوات الزاعقة لن تفيد أحدًا. ثمّة أمرٌ لا يمكننا تغافله. لا يعني اعتمادُ هذه السياسة الجامعية - بأيّ شكل من الأشكال- التساهل أو التفريط بمسعى جعل الجامعة مكانًا متميّزًا لتعلّم العلوم وممارسة البحث العلمي الأساسي؛ نحن نعلم أنّ ليس بمستطاع الشركات تحمّلُ أعباء تمويل مثل هذه البرامج بمفردها. ستكون مثل هذه الممارسات المتفرّدة أساسية لكلّ بلد لا يستطيع البقاء بدون بحث علمي حقيقي واسع النطاق (الإشارة إلى البلدان المتقدّمة- المترجمة). هذه البلدان هي وحدها من تمتلك رفاهية تمويل بحوث علمية أساسية قد لا يكون لها جدوى آنية في الزمن المنظور، وهذا ما يميّزُ الجامعة الحقيقية: إدامة شعلة الاكتشاف الإبداعي في البحث العلمي الأساسي، ونقلهُ إلى كلّ البشر والجغرافيات العالمية. من البديهي التأكيدُ على حقيقة أنّ الدول بعيدة النظر، ذات الاستراتيجيات العالمية الراسخة، والتي تقبل شتى ألوان البحوث العلمية، هي وحدها التي ستكون قادرة على تطبيق هذه السياسة. كل ما آمله هو أن تتوسّع قائمة هذه الدول في المستقبل بدلًا من أن يعتريها الانكماش.
(*) هذا الموضوع ترجمة لمقالة كتبها جاك أتالي في موقعه الإلكتروني بتاريخ 4 تشرين الأول/ أكتوبر 2024. الرابط الإلكتروني للموضوع هو:
https://www.attali.com/en/society/are-universities-doomed-to-disappear/
العنوان الأصلي للموضوع باللغة الإنكليزية هو:
?Are Universities doomed to disappear