ترجمة وتقديم: إسكندر حبش
تقديم
جان - باتيست برونيه (مواليد عام 1972 في مارسيليا) من باحثي الفلسفة الفرنسيين الجدد الذين أفردوا أعمالهم لمراجعة فلسفة العصر الوسيط وبخاصة الدور المركزي الذي لعبه فيلسوف قرطبة، ابن رشد، في تشكيل المعرفة في تلك الفترة، كما في الفترة التي تلت. وهو بذلك يكمل المسار الذي عمل عليه "أستاذه" آلان دو ليبيرا، حيث شكلا في أعمالهما المتنوعة (وأحيانا المشتركة)، "خضة" كبيرة على مستوى إعادة قراءة الفلسفة العربية، معتبرين أن تجاهلها هو تجاهل لتاريخ الفكري الأوروبي نفسه، الذي تأسس انطلاقا من هذه الفلسفة القروسطية.
في كتابه الجديد "الخارج داخل: ابن رشد في الرسم" Le dehors dedans Averroès en peinture (منشورات Macula) الصادر حديثًا، يتابع برونيه، "المستعرب واللاتيني"، رحلة استكشافه التي تقف على النقيض من جوهرية معينة تتجاهل نفسها في إصرارها على فصل الفلسفة التي تمّ صنعها ولا تزال تُصنع في أوروبا عن بقية العالم، وخاصة عن المنطقة الناطقة بالعربية، ليدخل في قراءة فلسفية للوحات "الفن الإيطالي" (المسيحي) – أو ما يسميه "صمت اللوحات" – الذي غيّب عنها صورة ابن رشد، وهو بذلك يُسقط ضوء المعرفة على شيء تمّ قمعه لقرون، بل وحتى إخفاؤه: الجزء العربي من التقاليد الفلسفية الأوروبية.
من المؤكد أن التفكير في تاريخ فجوة الذاكرة الفلسفية وكتابته على أساس تحليل دقيق للوحات الإيطالية المرسومة بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر قد يكون مفاجئًا. ولكن، كما يثبت كتاب جان - باتيست برونيه الجديد، فإن مثل هذه البادرة النقدية ضرورية لفهم، بالكلمات والصور التي تدعمها، أن مظهر انتصار عالم اللاهوت الدومينيكي البارز توما الأكويني (1225-1274) على فيلسوف قرطبة ابن رشد (1126-1198) ليس في نهاية المطاف سوى سوء فهم قديم لا يزال البعض يؤمنون به.
لذلك يعتبر أن إدراك التراث العربي الذي تجسده شخصية ابن رشد، والدور المركزي الذي لعبه في نقل واستيعاب الفلسفات اليونانية، ليس "الآخر الكبير" لأوروبا، بل هو نفسه بكل تعقيداته وغرابته المزعجة، يتطلب قبول نزعة مركزية تهز وتزعزع. إن الرسم، الذي يعطي مضمونًا للزلزال الفلسفي الذي أثارته أطروحة ابن رشد حول طبيعة العقل لدى توما الأكويني، يفتح العيون، ويعلمنا أن نرى الحضارة الإنسانية في ضوء جديد، غني بالمساهمات المتعددة والمتواصلة.
حول كتابه الأخير هذا، أجرت مجلة (EAN) – عدد آذار/ مارس 2025 – حوارًا مع الباحث الفرنسي، تحدث فيه عن قراءته الفلسفية للوحة، لا قراءة فنية، ليعيد صوغ العديد من المفاهيم الغائبة عن دراسات فلسفة العصور الوسطى، في رحلة إخفائها لابن رشد.
هنا ترجمة لهذا الحوار.
***
(*) في كتبك السابقة، بما في ذلك "ابن رشد المُقلق" (2015)، "كنت أتخيل: ابن رشد والفضاء الكامن" (2017) و"ماذا يعني التفكير؟ العرب واللاتين" (2022)، شرحت بالتفصيل الدقيق لماذا كان ابن رشد هو الشخصية التي جاءت من خلالها "الفضيحة" إلى المسيحية في العصور الوسطى. في البداية، هل يمكنك أن تذكرنا بالعناصر الرئيسية للحوار الوثيق والمثير للجدل في كثير من الأحيان الذي أجراه توما الأكويني مع أعمال وفكر الفيلسوف الأندلسي؟
مثل جميع "السكولائيين" (المدرسيين)، سواء أكانوا مؤيدين له أم لا، قرأ توما الأكويني كل ما استطاع من التعليقات المترجمة من العربية إلى اللاتينية التي كتبها ابن رشد على أعمال أرسطو: "في الطبيعة"، و"رسالة عن السماء"، و"الميتافيزيقيا"، و"رسالة في النفس"، و"التحليلات الثانية"، و"الرسائل الصغيرة في التاريخ الطبيعي"، وما إلى ذلك. لقد قرأها، وغرف منها، واستخدمها لصقل تفسيراته الخاصة للمعلم اليوناني الذي اختاره أيضًا، والذي يدمج فلسفته في رؤيته لعلم اللاهوت. ولكن هناك شيء لا يمرّ على الروح. بل وأكثر من ذلك: [يُشكل] فضيحة. لقد توصل ابن رشد إلى فكرة مفادها أن هناك عقلًا واحدًا للأنواع كلها، وأنه منفصل عن الأفراد وأبدي، في حين رأى توما الأكويني، الذي تبعه بعد فترة وجيزة جميع المعلمين تقريبًا، أن هذا هو سبب دمار العقلانية الإنسانية. إن التحدث، كما فعل ابن رشد، عن "مفسد" بدلًا من "معلق"، هو بمثابة استنتاج سخيف: الإنسان لا يفكر. ستكون الفكرة غير شخصية، وخارجية، وثابتة. إذا تمّ تقليص الفرد إلى حالة جسد متخيل، إن لم يكن حيوانًا، فإنه في أفضل الأحوال سيلعب دور الشيء. بالنسبة إلى توما [الأكويني]، كان ذلك نفيًا لإنسانية الإنسان ذاتها، ونهاية للسياسة، والأخلاق، وعلم الآخرة. إن المعارضة موجودة هنا، في هذه المسألة – بالمصطلحات الحديثة – وهي مسألة "الذاتية". ونضيف إلى هذا فكرة أن ابن رشد اخترع عقيدة منافقة هي "الحقيقة المزدوجة"، والتي بموجبها يمكن للمرء أن يؤمن بالإيمان بعقيدة يتم إثبات نقيضها بالعقل. وقد اكتسب ابن رشد من هذا لعدة قرون في أوروبا مكانته الغامضة باعتباره مفسرًا أساسيًا ملعونًا.
(*) فكرة كتابك فريدة، وهي نقلة صادمة في التفكير. كيف يمكننا القيام بعمل فلسفي من خلال التأمل وتحليل الصمت في اللوحات الإيطالية التي تم إنشاؤها بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر؟
أنا لست مؤرخًا فنيًا، في الواقع. وبمساعدة النصوص، أحاول قراءة هذه اللوحات بعين "فلسفية" من خلال تقييم نقل الكتابة إلى الصور. ماذا حدث للنزاع النظري؟ ما الذي "مر" أو تم الاحتفاظ به أو التأكيد عليه أو لم يمر؟ وما دلالة هذا الغربال أو الفرز بخياراته ونقائصه وتمويهاته وخفاياه؟ ولكي نفهم ذلك، لا بد من الاعتماد على الخلاف الطويل حول ابن رشد. أنا أتعامل مع التمثيلات من هذه الزاوية.
(*) الموضوع الرئيسي لهذه اللوحات هو انتصار التنوير لدى توما الأكويني المسيحي على ابن رشد المسلم العربي. هل يمكنك أن تخبرنا المزيد عن الجمالية المشتركة بين هذه الانتصارات وتوجهاتها الأيديولوجية؟
يتعلق الأمر بتمجيد القديس المسيحي. فهو يُوضع في المركز: في الجلالة، المتألق، أو في المنبر، في موضع المعلم الذي يعلّم. وفوق رأسه نجد أحيانًا يسوع، والإنجيليين، ثم بولس وموسى، الذي يتلقى منه النور الإلهي والمقدس؛ إلى جانبه، كدعم ثانوي، شخصيتان (ستختلف هويتهما بشكل كبير): أرسطو وأفلاطون، اللذان كانا في البداية أساتذة المعرفة اليونانية، وكان توما [الأكويني] الوريث المباشر والحصري لها؛ البابا وشارل الخامس، في النهاية، بينما كان يهدد العثمانيون في الشرق والغرب، يزعمون أنهم قادرون على غزو أميركا. إن توما الأكويني هو التوليف المثالي للحقيقة، ونقطة انسجامها، التي تعلّم، وتبني، وتصحح في آن واحد. ويخدم ابن رشد هذا الغرض على أرض الواقع. وهو يمثل العدو المهزوم الخاسر عند قدمي القديس. ولكن ليس المعلق على أرسطو هو الذي تمّ تصويره، في حين أن توما نافسه على هذا الأساس. إنه الشرير. ابن رشد، الملتحي والعمامة، هو رمز الإسلام العدو. من المفسر غير التقليدي، بمعنى آخر، جعلته اللوحات مسلمًا كافرًا. لقد أصبح ابن رشد هو "الخارج" الذي تدفعه المسيحية، التي يجسدها توما، جانبًا وتسيطر عليه.
(*) على النقيض من الاحترام الذي تعبر عنه الانتصارات تجاه توما الأكويني، فهل من الصواب أن ننظر إلى ابن رشد باعتباره الموضوع الحقيقي لهذه اللوحات؟
وهذا أحد الانعكاسات التي أقترحها، في فكرة أن الرسم هو "خدعة". لم يختف ابن رشد فحسب، ولم يتم "إلغاؤه" أو إنكاره تمامًا، بل إنه موجود هناك، في الوسط تمامًا، بطريقة ما، كما نقول عن شيء مركزي ومحرج، لا مفر منه. إنه "موضوع" بالمعنى الحرفي، باعتباره عنصرًا أساسيًا، مفترضًا، وجذريًا، وهو ما كان ابن رشد يمثله في الواقع بالنسبة إلى الفكر السكولائي والأوروبي. علاوة على ذلك، فهو يشكل مع توما ثنائيًا، وحتى سلبيًا، فهو بمثابة تكريم تدفعه له اللوحة، لأن الأكويني، باختصار، عظيم بعظمة عدوه. وبالإضافة إلى ذلك، فهو لا يُسحق ولا يُداس. مظهره حالم، تأملي، هو ذلك المظهر المتناقض، الكئيب الذي هو مريض وذكي في نفس الوقت. ابن رشد يفكر ويتأمل. ومهما كان الهدف الذي كان يهدف إليه، فقد كان يرسم في نفس الوضع الذي يميز فلسفته: فمن خلال صوره، يحاول كل شخص، طيلة حياته، الاستيلاء على الفكر المشترك. يقدم لنا ابن رشد، المستغرق في عمله، بديلًا مغريًا للعقيدة التي رسمها توما.
|
انتصار القديس توما، مجهول (القرن الرابع عشر)/ القيامة، جورجيو فاساري (1568) (فلورنسا، كنيسة سانتا ماريا نوفيلا / انتصار القديس توما الأكويني، ليبو ميمي (حوالي 1340) |
(*) تعطي اللوحات الإيطالية التي تدرسها مضمونًا لرغبة معينة في الفلسفة الأوروبية في نسيان، أو حتى إخفاء، جانبها العربي، الذي تجسده شخصية ابن رشد المزعجة. هل يمكن أن توضح لنا ماذا تقصد بـ "قمع الفكر العربي في أوروبا"؟
أعني بذلك ما تظهره اللوحة الأولى في سلسلة "الانتصارات" (Triumphs)، وهي لوحة ليبو ميمي في بيزا، من بداية القرن الثالث عشر. علينا أن نضع في اعتبارنا أن المعرفة اليونانية لا تأتي ككل وبشكل مباشر إلى السكولائية. إذا كانت هناك ترجمات من اليونانية إلى اللاتينية، فإن أرسطو الذي كان توما يتردد عليه، كان في جزء منه أرسطو "عربيًا" تم إنقاذه وترجمته وإعادة إطلاقه في سياق إسلامي. وهذا ما يفسره انتقال مراكز الدراسة والمعرفة من أثينا إلى قرطبة، عبر بغداد ودمشق، والذي قاد الفلسفة والعلم، بعد أن تغيرا كثيرًا وأثريا، إلى اللاتينيين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. لكن الرسام من بيزا اختار الدائرة القصيرة. لقد تم استبعاد ابن رشد من هذه العملية الطويلة لإنتاج ونقل المعرفة. لا يرث شيئًا (لا يصل إليه شعاع)، ولا يعطي شيئًا (لا يتركه شيء)، وهو اليتيم العقيم. في الجزء الذهبي من اللوحة، يشع أرسطو وأفلاطون من خلال كتبهما إلى توما الأكويني، في حين أن ابن رشد، في الجزء السفلي المظلم، ليس له أي تأثير إيجابي على الإطلاق. ومعه ابتعد الفكر العربي برمته عن عملية تطوير ونشر العلم. لقد كان مجرد تمويه. لقد كان الواقع يتعرض للقطع والبتر، وكان توما يعلم هذا جيدًا، فهو الذي كان مدينًا لابن رشد بحل مشكلة رؤية الله في جوهرها قبل أن يشطب من مخطوطته المقطع الذي يشير إلى هذه الأبوة المحرجة. وهنا يكمن القمع، أي عدم القدرة على تحمل الميراث والديون، الذي لم نخرج منه حقًا. وهذا ما يفسر العودة المستمرة لشخصية ابن رشد. فكما كتب كافكا في نهاية نصه القصير "المجتمع"، في عام 1920، حيث رفض خمسة "أصدقاء" السماح لصديق سادس بالدخول: "قد يتذمر، لكننا ندفعه بعيدًا بمرفقنا؛ ولكن مهما حاولنا دفعه بعيدًا، فإنه يعود".
(*) هل تعتقد أنه سيكون من الممكن في المستقبل القريب أن نقرأ في كتب الفلسفة صفحات تقدم ابن رشد المسلم والأندلسي والعربي على أنه "فيلسوف أوروبي"؟
إذا كان من المفترض أن نفكر في هوية فكرية أكثر ثراءً ودقة و"شمولية"، في مواجهة الكتل الدينية أو العسكرية أو الجغرافية، فإن هذا ليس ممكنًا فحسب، بل ضروري. إنه ليس شيئًا آخر غير التاريخ الحقيقي للنصوص والأفكار. لقد كان ابن رشد في الواقع عنصرًا من عناصر الفلسفة الأوروبية، وليس خارجها أو "آخرها". ولكن إذا كان الأمر يتعلق بصهر ابن رشد بأكمله في ابن رشد هذا، أو تقليصه إليه، من أجل إعادة ترسيخ المركزية الأوروبية، فيجب علينا مقاومته. دعونا نطبق اللامركزية، دعونا نفكر خارج الصندوق. وهذا أيضًا أحد دروس ابن رشد الحالم.