ترجمة: سارة حبيب
يُزعَم أن سيغموند فرويد لاحظ أن الشعراء والفلاسفة كانوا قد اكتشفوا اللاوعي قبل أن يفعل هو. وعلى نحو مماثل، قدّم المحلل النفسي دونالد وود وينيكوت في مقالته "الخوف من الانهيار" تنبيهًا ساحرًا لم يطلبه منه أحد: "إذا كان فيما أقوله بعض الحقيقة، فسيكون شعراء العالم قد تناولوه سلفًا". اعتبر فرويد ووينيكوت أن من واجبهما الإسهاب المنهجي فيما، حسب رأيهما، لم يتنبأ به الشعراء إلا على نحو مبهم.
إذا كان الناس ذوو العقلية الأدبية نظروا بارتياب غالبًا إلى التحليل النفسي- لأنه حفّز أساليب استقصاء أدبي هزيلة ومفرطة التحديد، أو لأنه فرض منطقه بشكل تعليمي على الأعمال الأدبية- فإن التحليل النفسي كذلك، وبوضوح، أحكم سيطرتنا على طرق العمل الداخلية للأدب وأغنى مخزون النقد الأدبي خاصتنا. كما أن الدمغة الفرويدية على المخيلة الأدبية لا يمكن إزالتها. فما هي، إذًا، العلاقة الصحيحة بين التحليل النفسي والأدب؟
ادخل إلى كتاب "الفرص الثانية: شكسبير وفرويد" (2024) الذي اشترك في كتابته ستيفن جرينبلات وآدم فيليبس: إنه بمثابة حقن دماء حياةٍ جديد في محادثة باتت الآن قديمة للغاية. فيليبس متخصص في علم نفس الطفل في الطب السريري، مؤلف عدة كتب صغيرة الحجم ورائجة تدور حول التحليل النفسي، ومحرّر الترجمة الجديدة لفرويد من سلسلة الكلاسيكيات الحديثة الصادرة عن دار بنغوين. أما جرينبلات فأحد أشهر المتخصصين الأحياء في أدب شكسبير، محرر عام لمجموعة "نورتون شكسبير" (الصادرة عن دار نورتون)، ورائد المنهج "التاريخاني الجديد" للنقد الشكسبيري. موضوع دراستهما هو فكرة "الفرصة الثانية" في مسرحيات شكسبير التي يطبقون عليها مجموعة من الأدوات الأدبية وأدوات التحليل النفسي. وكتابهما "الفرص الثانية"، ورغم أنه مترابط بلغة بسيطة، بليغة، غير مبهرجة، هو رغم ذلك كتاب تكراري وواع بذاته: إنه في الآن ذاته يدور حول شيء وحول حالة كونه يدور حول هذا الشيء.
وإذا بدا ذلك مُرهقًا، فإن جرينبلات وفيليبس لا يتجنبان اللجوء إلى التخطيط غير المنطقي بين حين وآخر. كما يؤكدان منذ البداية أن تخصصات كل منهما تتخذ لها أهدافًا متمايزة. فغاية الفنان هي التمثيل، في حين أن غاية المحلل هي إحداث تغيير في الشخص الخاضع للتحليل النفسي. لكنّ هذه الأهداف تشترك في بنيتها التحتية بأكثر مما نفترض. كذلك، يذكّرنا المؤلفان أن الهدف الفرويدي لم يكن بالضرورة علاجَ المرض، بل بالأحرى، بلغة فرويد، الوصول إلى "تسامح معين مع حالة المرض"؛ تصالحٌ يتم من خلال اللغة. (كتب فرويد كما هو معروف أن أحد الأهداف الرئيسية للتحليل النفسي هو تحويل "تعاسة هستيرية إلى حزن عادي"). ويمكن أن نفكر هنا بالتأثير الدرامي للتطهير؛ تفريغ العواطف التي لا تُحتمل من خلال تمثيلها الجمالي. "يوجد الفن لكي لا نهلك من الحقيقة"، على حسب تعبير نيتشه. لقد اعتبر فرويد نفسه عالمًا وصانع نظام حتى الرمق الأخير، غير أن محاولته فصلَ نفسه عن صورته الذاتية - محاولتَه النظر إلى مشروعه بمنظور أدبي- فلسفي تحديدًا- هي الآن مألوفة إلى درجة أنها تُعدّ مبدًا متعارفًا عليه في أوساط معينة.
ما هي فكرة "الفرصة الثانية" عند جرينبلات وفيليبس؛ وكيف تنطبق هذه الفكرة على شكسبير؟ إن هذا المفهوم ليس مفهومًا موحدًا. وهذا يُعتبر في الآن ذاته نقطة قوة وضعف. فكون هذا التصور فضفاضًا يتيح مساحة واسعة من اللهو عبر المسرحيات، لكنّنا نغلق الكتاب بانطباع عام مبهم. في مستواه الأكثر عمومية، "الفن يمكنّنا من التمرن على تجربة الفقدان والاستعادة"، يكتب جرينبلات وفيليبس، و"يبدو كما لو أن التوق للحصول على فرصة ثانية أساسي جدًا لوجودنا كبشر لدرجة أننا نخطط لإعادة إنتاج ذلك التوق مرة بعد مرة". الفرصة الثانية، يتابع الكاتبان، هي فرصة "استعادة ما بدا أنه ذهب إلى غير رجعة".
يلجأ المؤلفان غالبًا إلى لغة الاستعادة. للوهلة الأولى، يبدو هذا شكلًا من التحويل الذي هو في الحقيقة إحياء لحالة سابقة. وهذه منطقة مألوفة في الحركة الرومانسية: المعنى دائمًا يكمن في الخلفية، في حالة الاكتمال التي تعود لمرحلة سابقة لسقوط الإنسان على الأرض، هذه المرحلة التي يعيشها المرء وهو طفل. بالتالي، التقدم في العمر هو ارتداد، خسارة، عملية تحرر من الوهم يجب أن تواجه بعملية إعادة توهم عملية (عملية تسام، وفق اللغة الفرويدية). يقدّم كتاب "الفرص الثانية" نظرية الفرصة الثانية هذه على نحو متقطع ليس إلا. وفي مناسبات أخرى، يشير الكتاب إلى تلهف الإنسان إلى "حيوات بديلة"؛ إلى "خدمة فتح قفل" تتيح لنا أن نخرج من طريقنا، نعتق أنفسنا من الماضي، ونمكّن حالة التحرك إلى الأمام نحو الجديد كليًا. "أن نؤمن بالفرص الثانية"، يلاحظ الكاتبان، يعني "أن نؤمن... أن إمكانيةً ضائعة ظاهريًا يمكن أن تُدرَك وأن تتحقق".
تشكّل هذه منطقةً مفاهيمية موحلة. فهل حلم الفرصة الثانية هو تعبير عن أمنيتنا اليائسة بإحياء "الوميض الرؤيوي" (إلهام أو وحي يحدثه اتصال مع الطبيعة)، أو فرصة للبدء من جديد جذريًا؟ هل نريد أن نسترد الماضي أو أن نتخلص من قيوده الثقيلة مرة وإلى الأبد؟؛ هل نلجأ، حسب تقدير المؤلفَين، إلى أوهام الاسترداد، أو أوهام انقطاعات ناسفة في الاستمرارية؟ ربما نتمنى أن نتغير لكي نحافظ نوعًا ما على الاستمرارية: لكي نعود إلى مسارنا الأصلي، الذات الأصلية التي ضيعناها بشكل مأساوي في مكان ما على الطريق. الإجابة الصحيحة، الإجابة التي هي فرويدية تمامًا في روحها، لا يمكن أن تكون إلا كلَّ ما سبق. "الفرصة الثانية" تشمل كلّ أطياف المعنى هذه.
|
كتاب "الفرص الثانية: شكسبير وفرويد" الذي اشترك في كتابته ستيفن جرينبلات (يسار) وآدم فيليبس: بمثابة حقن دماء حياةٍ جديد في محادثة باتت الآن قديمة للغاية |
يحرز جرينبلات وفيليبس تقدمًا بالقراءة التي قدماها لمسرحية "ماكبث". فرغم أن مقاطع مناجاة ماكبث لنفسه تعطينا لمحات عمّا يمكن أن يدعى نفسيّته، المسرحية التي يجد نفسه فيها:
تبذل أقصى ما في وسعها لتجعل من المستحيل الوصولَ إلى أية أجوبة واضحة عن سبب تدميره لسعادته. ويبدو أن الكلمات التي يقولها ماكبث لنفسه وهو يقترب من لحظة فعله الفظيع تنفي عمدًا الفاصلَ الزمني وتسد الطريق أمام أي بديل.... "سأمضي، وقد قضي الأمر".
بكلمات أخرى، يسعى بطل المسرحية التراجيدي لإنكار كلّ من طارئيته وفاعليته. إنه يقنع نفسه، خلال المناجاة، أن الأوان قد فات بالنسبة إليه ليتراجع، ومن هنا يأتي تعجيل حالة فوات الأوان التي يخشاها. حالة ماكبث هي على وجه الخصوص مثال صارخ: ماكبث "دخل بلا رجعة حياة لا تنطوي على احتمالية فرصة ثانية"، كما يكتب جرينبلات وفيليبس، وذلك بإخبار نفسه أنه سلفًا "فعل" حقًا ما هو في الحقيقة على وشك فعله ("في بحر الدماء/ قطعتُ شوطًا بعيدًا..."). ورغم أن الكاتبين يقرّان بأن في المسرحية الكثير مما يوحي بأن مساره كان محتومًا، فمن الواضح أنهما يبذلان جهدًا كبيرًا ليضعا ماكبث في موضع المخطط الرئيسي وراء مأساته.
يركّز الكتاب على ثلاث مسرحيات: الملك لير، عطيل، وحكاية الشتاء. الملك لير، بمطالبته بناته الثلاث أن يحببنه حبًا غير مشروط، "يضمن فعليًا أنهن سيكنّ منافقات"، رغم أن المفضلة عنده كورديليا "تحتفظ بإمكانية حبها لوالدها قدر ما يُحتّم عليها الرابط بينهما، على حدّ تعبيرها". وخلال مسار المسرحية، نشهد خسارة لير لابنتيه الأخريتين، ملكه، كرامته، وعقله. وفي آخر الأمر، تعود كورديليا من فرنسا في محاولة لإنقاذه، ويلوّح شكسبير أمامنا بإمكانية المصالحة بين الأب وابنته. لكنه يسحب تلك الإمكانية بالسرعة التي يقدمها بها: يظهر لير في لحظات المسرحية الأخيرة وهو ينوح بيأس ويسحب جسد كورديليا الهامد. يتخيل أنه يلاحظ شفتيها تتحركان - هل يمكن أن تكون الأنفاس قد غادرتها؟- لكنه يضطر في آخر الأمر إلى مواجهة الحقيقة الفظيعة: "أنتِ لن تعودي قط،/ أبدًا، أبدًا، أبدًا، أبدًا، أبدًا..." (هل سبق لتكرار بسيط أن استُخدم على هذا النحو المرهق؟) كذلك، تاريخ إنتاج مسرحية الملك لير، يدل، إن لم يكن يدل على شيء آخر، على التوق العالمي للفرصة الثانية: أعيدت كتابتها في ثمانينيات القرن السابع عشر مع نهاية سعيدة؛ اجتماع الأب والابنة من جديد وعيشهما ليرويا الحكاية.
عطيل، أيضًا، يكتب مأساته بنفسه، ويمنع احتمال الفرصة الثانية. لاحظوا كلماته الأخيرة قبل خنق دِزدِمونة في نوبة غيرة مجنونة:
دِزدِمونة: اقتلني غدًا، دعني أعشْ الليلة.
عطيل: لا، وإذا قاومتِ...
دِزدِمونة: نصف ساعة فحسب!
عطيل: قضي الأمر، لا توقف.
دِزدِمونة: ريثما أصلي صلاة واحدة ليس إلا!
عطيل: فات الأوان.
(يخنقها).
يتحدث عطيل عن استحالة الخيار تحديدًا في اللحظة التي يملك فيها خيارًا: "قضي الأمر، لا توقف". لكن في تلك اللحظة بالذات، لم يكن الأمر قد قضي بعد؛ بوسعه أن يتوقف!
كتاب "الفرص الثانية" هو إلى حد كبير كتاب عن تحطيم الذات، أو حتى ما دعاه فرويد غريزة الموت. يشير جرينبلات وفيليبس إلى أن "التحليل النفسي الذي بدأ كعلاج للعصاب، تحول سريعًا إلى محاولة لشرح المستوى الهائل من التدمير الذاتي الذي يعاني منه البشر والتعاطي معه". فقد لاحظ فرويد مرارًا وتكرارًا أن مرضاه "يزعمون أنهم يريدون أن يتغيروا، في حين أنهم على نحو لا واعٍ يبذلون جهدهم للتشبث بمعاناتهم"؛ إنهم في الواقع غالبًا ما "يستخدمون المحلّل ليساعدهم في ألا يتغيروا". وأحد رؤى فرويد الأكثر إقلاقًا هي أن جزءًا أساسيًا من ذواتنا قد لا يتمنى أن يتحسن. إننا "نفضّل أن نُدمَّر على أن نتغير"، كما يكتب ويستن هيو أودن في قصيدته "عصر القلق"، ونفضّل أن "نموت فزعًا" على أن "ندع أوهامنا تموت". أو، كما يكتب المؤلفان عن الخاضعين للتحليل النفسي عند فرويد: "كانوا يفضّلون معاناتهم على فرصهم".
مسرحية "حكاية الشتاء" مغمورة بألوان التراجيديا، لكنها تبلغ ذروتها بفكرة الإحياء المعتادة في الكوميديا. الملكة هيرمايوني، التي يُفترض أنها ميتة، تعود إلى الحياة في اللحظات الأخيرة في المسرحية. ويشير جرينبلات وفيليبس إلى أن "الحكاية"، رغم أنها تُختتم بالابتهاج، فثمة رغم ذلك شيء كئيب في بهجتها الجميلة المقلوبة رأسًا على عقب. إننا نخرج من العمل مع إحساس مضطرب بأن الفرص الثانية هي "وهمُ تحقيقِ رغبةٍ مماثل لتوقنا إلى عودة شخص عزيز من الموت أو بعث الحياة في تمثال". لكن، ليس على هذا التضمين أن يسبّب التشاؤم: رغم أن المسرحية "تصوّر هذه الخاتمة بوصفها مستبعدة إلى حد بعيد"، فإنها "تشير في الوقت ذاته إلى أن الأمل بمثل ذلك الحدث هو ما يجعل الوجود قابلًا للاحتمال". يتابع المؤلفان: "الإيمان بإمكانية الفرص الثانية لا يجعلنا حيوانات ذكية فحسب بل حيوانات تخليصيّة بوسعها أن تنقذ نفسها، وتكون عرضة للإنقاذ، من كل ما يُعتبر خطبًا ألمَّ بحيواتها".
لكن أي الأمرين؟ هل الإيمان بالتغيير وتمثيله الجمالي يخلّصنا، أو هل إمكانيةُ - أو فعليّةُ- تغيير حيواتنا، إعادة هندستها، تحمل مسؤوليتها، يخلّصنا؟ يتحدث المؤلفان أحيانًا عن الفرصة الثانية باستخدام التعابير العملية لمتخصص في علم نفس الطفل، وفي أوقات أخرى بوصفها قيمة إنسانية مجردة، فكرة نتشبث بها لكي نحتمل ظروفنا. وهذه أحد ضروب التوتر المتأصلة في هذا المشروع والتي لا تُحلّ مع نهاية الكتاب. بالتالي، كتاب "الفرص الثانية"، في أفضل أحواله، يترك قارئه في حالة من التداعي الحر؛ يتركه وهو يفكر مليًا في عمل يطرح من الأسئلة أكثر ممّا يمكن أن يُتوقّع الإجابة عليه.
(*) آنا بالان: خريجة جامعة ييل، مقيمة في نيويورك. تشمل اهتماماتها التاريخ ونظرية الرواية، المذهب الرومانسي والقوطية، النظرية الجمالية، الأدب والفلسفة، والتحليل النفسي وغيرها.
رابط النص الأصلي: