لا عجب أنْ يخصّ بيل غيتس طفولته بكتاب كامل في مذكّراته التي ستتلوها كتبٌ لاحقة تختصُّ بمفاصل أخرى في حياته: تأسيسه لشركة مايكروسوفت، ثمّ انشغاله بالأعمال الخيرية. كلٌّ من هذين المفصلين سيكون له كتابٌ كاملٌ في مذكّرات غيتس اللاحقة. جرت العادة في الأمثال أن يقال (الطفل هو الرجل). ربما الأصحّ هو القول: الطفل هو الإنسان رجلًا كان أم امرأة. إسقاطاتُ الطفولة شبيهة بالإعدادات المصنعية الأولى للأجهزة الإلكترونية. لن نستطيع إلغاء هذه الإعدادات مهما حاولنا؛ بل ربّما العكس هو ما يحصل غالبًا. عندما تعترضنا عقبةٌ هائلةٌ فنحنُ في العادة نلتمسُ نوعًا من الخلاص أو السكينة أو العلاج المفترض في إعدادات الطفولة الأولى حتى لو جاء الأمرُ من باب التوق النوستالجي إلى أيّام مضت وانقضت. يحصلُ هذا الأمر عندما تكون ذكريات الطفولة طيّبة أو غير مشوبة في الأقلّ بما يُمرِضُ القلب والروح؛ لكن لن يكون الأمر هكذا عندما تكون الذكريات قاسية أو ظالمة على نحوٍ غير مسوّغ، وسيتفاقمُ الحال بالتأكيد لو حصل هذا الظلم مع طفلٍ يعرفُ في دواخله أنّه يحوز نباهة وشغفًا ورغبة في التعلّم والارتقاء خارج السياقات الكابحة والمحدّدة التي يُرادُ له العملُ في نطاقها. يتّخذُ الشكل الشائع لكبح تطلّعات الطفولة وطموحاتها المتفجّرة نمطًا مؤسسيًا يتمظهر في ثلاث مؤسسات: العائلة، المدرسة، الحكومة. المؤسّسة هنا هي إشارة إلى النمط الهرمي التراتبي في ممارسة السلطة الفعلية أو الرمزية. قد تحبّ بيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت العملاقة، وقد تكرهه. لا يهمّ هذا. هو أحد الشخوص التقنية الأسطورية التي شكّلت عالمنا المعاصر. شخصٌ مثل غيتس علينا أن نقرأ مذكّراته لأنّنا في النهاية نحن نقرأ عن تاريخ أسطوري لشخص امتلك شجاعة الإيمان بموهبته حدّ أنّه ترك الدراسة في جامعة هارفرد النخبوية وراح يتابع تحقيق أحلامه بعزيمة لا تلين.
(المترجمة)
ثمّة أحجية لا تنقطع يمكن إثارتها بين الفينة والأخرى بشأن ويليام هنري غيتس الثالث (الذي يُعرفُ باسمه الشائع بِيل غيتس Bill Gates). مختصر هذه الأحجية الشائعة هو: كيف ارتقى طفلٌ ذو ذكاء مبكّر واضح المعالم، ومزعج أحيانًا، ليكون مليارديرًا في ميدان التقنية، ثمّ ليصبح لاحقًا رجل دولة مخضرمًا ومعروفًا بنشاطاته الخيرية على مستوى العالم بأكمله؟ يقدّمُ لنا غيتس في الجزء الأوّل من كتاب مذكّراته شفرة المصدر: بداياتي Source Code: My Beginnings القسم الأوّل فقط من الحكاية، وقد اقتفى فيه آثار تطوّره منذ ولادته عام 1955 حتى تأسيسه شركة مايكروسوفت (التي صارت واحدة من الأخوات العملاقة الست في قطاع التقنية الرقمية) عام 1975. أما لو شئنا معرفة الأجزاء الأخرى من حكاية غيتس فسيتوجّبُ علينا انتظار نشرها. يعبّرُ عنوان الكتاب عن كلّ الحكاية بأفضل ما يمكن من ممكنات التعبير؛ ففي عصر ما قبل الحاسوب والذكاء الاصطناعي، وعندما كانت برامج الحاسوب تُكتبُ حصريًا من قبل البشر، كان مصطلح شفرة المصدر معبئًا بالمعنى: كان هذا المصطلح التقني يصف البرامج الحاسوبية التي يمكنك قراءتُها وفهمُها فقط لو كنتَ تجيدُ واحدة من لغات البرمجة، وهذا أمرٌ جوهري يترتّبُ عليه أن تتمكّن من تفسير سبب قيام الآلة (الحاسوب) بما يُطلبُ منها القيام بفعله.
ما الذي بعد هذا يمكننا تعلّمُهُ من فحص شفرة غيتس المصدرية؟ ما الرسالة التي يريد غيتس أن تصل لنا؟ باختصار كبير هو أراد القول أنّه كان شابًا محظوظًا للغاية: وُلِد في المكان المناسب وفي الزمن المناسب، وعاش في كنف أبويْن قدّما له -كما يخبرُنا هو في مذكّراته- "المزيج الدقيق والمتوازن من الدعم والضغط الذي كنتُ أحتاجه. منحاني مساحة مقبولة للنمو العاطفي إلى جانب أنّهما قدّما لي فرصًا لتطوير مهاراتي الاجتماعية". لكن برغم هذا يشير غيتس في روايته للأحداث إلى أنّ الأمر لم يخْلُ من مشقّات في بعض الأحيان. حدث هذا عقب اكتشاف (بيل) الأب و(ماري) الأم أنّ لديهما صبيًا يتمتّعُ بمزيج غريب ومثير من الذكاء المفرط، والغطرسة المنافية لاعتبارات الكياسة، والتمرّد، وانعدام الشعور بالأمان النفسي. يكتب غيتس في هذا الشأن:"لو كانت تقنياتنا التشخيصية النفسية المعاصرة متاحة في بواكير طفولتي لربّما تمّ تشخيصي على أنّني مصابٌ بواحد من اضطرابات طيف التوحّد. لم يكن لدى والديّ أيّ إرشادات أو كتب دراسية يمكن أنّ تمدّ لهما يد العون في تفهّم سبب الجموح الهوسي لدى ابنهما بمشاريع محدّدة دون سواها، وانعدام كياسته الاجتماعية المفترضة في مواقف بعينها، وإمكانية أن يتصرّف بوقاحة فجّة من غير أن يُبدي اهتمامًا بتأثير سلوكه السيئ في الآخرين". كان بيل غيتس محظوظًا؛ فعائلة غيتس عاشت حياة ميسّرة (عمل أبوه محاميًا بارزًا في سياتل بولاية واشنطن)، وهذا اليُسرُ هو ما مكّن أبويه من إرساله إلى مدرسة خاصة مميزة: مدرسة ليكسايد Lakeside التي عاش فيها أجواء ليبرالية، هادئة، داعمة ومتسامحة. كانت بيئة المدرسة ملاذًا طيبًا لصبي صغير في عمر بيل غيتس، متمرّد وذي صوت أجشّ لا تخطئه الأذن. لعلّ ما هو أكثر أهمية من بيئة مدرسة ليكسايد الليبرالية المتسامحة هو أنّ بعض أولياء أمور الطلبة جمعوا مالًا يكفي لشراء جهاز تيلي تايب TeleType، وأضافوا للجهاز إمكانية استخدام حاسوب مشترك بين المدرسة وشركة جنرال إلكتريك ليكون متاحًا لاستخدام الطلبة.
قد يبدو الأمر بسيطًا اليوم؛ لكنّه كان استثنائيًا بكلّ المقاييس في ستينات القرن الماضي، وقد عنى في بعض ما عناه أنّ بيل غيتس وبعضًا من أصدقائه الخلّص كانوا قادرين على كتابة برمجيات حاسوبية وهم مازالوا في سن المراهقة. بلغ الأمر مع بيل غيتس مبلغًا راح معه ينهمك صحبة أصدقاء له (أحد هؤلاء هو بول ألن Paul Allen الذي شاركه لاحقًا في تأسيس شركة مايكروسوفت) في كتابة برمجيات حاسوبية لشركات في منطقة سياتل. من المثير الإشارةُ هنا أنّ مدرسة ليكسايد، وبعدما توسّعت وصارت مختلطة، تولّى بيل كتابة برنامج حاسوبي يمكنه جدولة الدروس والفعاليات المدرسية في المؤسسة المتوسّعة من غير أن يحصل أي تقاطع في الدروس والفعاليات. نجاح مبكّر هائل من غير شك في تلك الأيام. بعدما أكمل بيل غيتس دراسته الثانوية في مدرسة ليكسايد التحق بجامعة هارفرد عام 1973 وهو عازم على تجربة كلّ ما تقدّمه تلك المؤسسة الأكاديمية الضخمة من إمكانيات، معتمدًا على قدرته الفائقة في العمل الجاد والمنظّم والمنضبط إزاء الواجبات الشاقة مثل الامتحانات. تسلّل يومًا إلى مختبر أيكن Aiken Lab العائد للجامعة، والذي كان يديرُ في وقت مبكّر للغاية حاسوبًا صغيرًا ذا طراز مذهل حينها هو DEC PDP-10. بعد عامين فحسب من العيش الجامعي الرغيد أعلم بيل صديقه المقرّب ألِن خبر إطلاق شركة MITS - وهي شركة تأسست في نيو مكسيكو- لحاسوب صغير يعتمد على رقاقة معالج من نوعIntel 8080.
أثار هذا الأمرُ قلق بيل ورفيقه ألِن لأنّهما كانا يفكّران في كيفية دخول ما كانا يعلمان مسبقًا أنّه سيكون صناعة ضخمة بموارد هائلة في العقود القليلة اللاحقة، وها هي شركة صغيرة مؤسسة في مدينة البوكيرك في ولاية نيو مكسيكو تفاجئهما بجهاز صغير سيئ الأداء. غير أنّ الأخبار الطيبة لهما تمثّلت في أنّ الجهاز الجديد لم يكن مزوّدًا بأيّ برنامج تطبيقي؛ لذا انطلقا على الفور في كتابة مفسّر Interpreter للغة البرمجة الأساسية على حاسوب جامعة هارفرد مستخدمين محاكاة برمجية بارعة لجهاز شركة MITS الذي صمّمه ألن. أصاب هذا المشروع نجاحًا باهرًا؛ لكنّ مسؤولي جامعة هارفرد اكتشفوا لاحقًا بأنّهم لم يصرّحوا بقبول العمل على حاسوب الجامعة، وكانت النتيجة أن عوقب غيتس –مثلما عوقب مارك زوكربرغ بعده بسنوات عدّة- لاستخدامه غير المشروع لموارد جامعة هارفرد!!. عند هذا الطور من حياته ترك غيتس الدراسة في الجامعة وذهب مع ألن إلى نيو مكسيكو حيث تشاركا في تأسيس ما كان يُعرَفُ في الأصل باسم شركة مايكروسوفت، وشرعا بقوة في تعبيد الطريق الذي قادهما إلى تحصيل ثروة هائلة والتربّع على عرش إمبراطورية تقنية كبرى. حكاية الارتقاء الأسطوري لشركة مايكروسوفت سيفرِدُ لها غيتس جزءًا ثانيًا من مذكراته، وسيخبرنا فيه كيف أصبحت الشركة ذات قوة ونفوذ لفترة طويلة، وكيف صارت امتدادًا مؤسساتيًا لشخصية مؤسسها المشارك بيل غيتس، وكيف أنّ تلك السطوة التقنية دفعت الشركة لمواجهة دعاوى قضائية حول مكافحة الاحتكار. ما يلفتُ النظر أكثر من سواه في هذا الجزء من مذكرات غيتس هو تأمّله الذاتي لتطوّره المبكّر. يبدو واضحًا لنا في المذكرات أنّ غيتس كان طفلًا يصعب التعاملُ معه وبخاصة أنّ والدته امتلكت دومًا أفكارًا واضحة ومحددة وصارمة حول كيفية تنظيم الحياة؛ لكنّ بيل الصغير تمرّد عليها منذ عمر مبكر، وهو الأمر الذي نتوقّع معه حصول الكثير من الخلافات والشجار بين بيل ووالديه (أمّه على وجه الخصوص). في نهاية الأمر ارتأى أبواه إرساله إلى معالج نفسي وصفه غيتس في مذكراته بأنّه اتّسم بالتعاطف والحكمة. يصرّح غيتس في مذكراته أنّ المأساة الأعظم في حياته المبكّرة هي الوفاة المفاجئة لصديقه المقرّب (ونظيره الموهوب في البرمجة الحاسوبية) كينيث إيفانز في حادثة تسلّق جبل. يصف غيتس مشهد عودته إلى منزل عائلة إيفانز بعد إتمام مراسيم الجنازة:"رحّب بنا والدُ كينيث وصافحَنا واحدًا بعد الآخر. كانت والدة كينيث متكوّرة على الأريكة وهي تنتحب بمرارة حارقة. في تلك اللحظة أدركتُ أنّ حزني لموت صديقي مهما تعاظم فلن يرقى لمبلغ حزن والدته. نعم، كان كينيث أعزّ أصدقائي؛ لكنّه كان طفلها. الفرق كبير من غير شك. في مرحلة ما من حياتي كنت أعلمُ أنّ السيدة إيفانز وزوجها سيبقيان إلى الأبد مُحاصَريْن بذكرى وفاة ابنهما الأليمة ولن ينسيا هذه الخسارة الفادحة. لم تفارقني البتّة أبدًا التعبيرات الحزينة المرتسمة على وجهي والدَي كينيث الطيبيْن واللطيفيْن في ذلك اليوم". في خاتمة لطيفة بأحد فصول المذكرات يصف غيتس لقاءه بوالد إيفانز بعد سنوات عدّة من لقائهما الأوّل، وقد تحدّثا مطوّلًا عمّا كان يمكن أن يحدث. يعتقد كلاهما أنّ إيفانز لو قُدّر له أن يعيش لكان المؤسس الثالث لشركة مايكروسوفت.
(*) جون نوتون John Naughton: أستاذٌ في الفهم العام للتقنية Public Understanding of Technology في الجامعة المفتوحة، وهو مؤلف كتاب "من غوتنبرغ إلى زوكربيرغ: ما تحتاج معرفته حقًا عن الإنترنت" From Gutenberg to Zuckerberg: What You Really Need to Know About the Internet
(*) الموضوع المترجم أعلاه منشور في صحيفة "غارديان" البريطانية بتاريخ 2 شباط/ فبراير 2025 في حقل مراجعات الكتب Book Reviews. العنوان الأصلي للموضوع باللغة الإنكليزية هو: Source Code by Bill Gates review – growing pains of a computer geek