}

عن تواطؤ الدبلوماسية البلجيكية مع مخطّطات الصهيونية

لوكاس كاترين 22 مايو 2025
ترجمات عن تواطؤ الدبلوماسية البلجيكية مع مخطّطات الصهيونية
لوكاس كاترين ومؤلفات له عن فلسطين
ترجمة وتقديم: عماد فؤاد


تقديم

في مقال هام، أعاد المؤرخ الفلمنكي لوكاس كاترين بوصلته النقدية إلى لحظة الذروة في القضية الفلسطينية منذ تبلورها الأول تاريخيًا بين عامي 1947 و1949، بل إلى ما قبل ذلك بكثير، منذ أعلن تيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية، صراحةً أن ما كانوا يخطّطون له هو استعمار كامل للأراضي الفلسطينية. ويفتح لوكاس كاترين هنا قضية تواطؤ الدبلوماسية البلجيكية مع المخطّط الصهيوني، كاشفًا عن الدور الذي لعبه ميناء أنتويرب البلجيكي في تزويد عصابات الهاغانا الصهيونية في فلسطين بالسلاح، ويشرح لنا تفاصيل خيانة ما جرى في كواليس الأمم المتحدة للموافقة على خطة الاحتلال الصهيونية لفلسطين، تلك الخطة التي وضعتها الأمم المتحدة عام 1947، والتي كانت غير منصفة وتأتي على حساب الحقوق الفلسطينية.

***

في عام 1947، صرّح السفير البلجيكي لدى الأمم المتحدة فرناند فانلانجنهوفه قائلًا: "علينا أن نبذل جهدًا لفهم الصهيونية، بلجيكا هي الوطن القومي لمواطنيها اليهود، ولم يسبق أن عاملهم أحد منا بطريقة تستدعي أن يبحثوا لهم عن وطن آخر في فلسطين".

سبق للفيلسوف اليهودي الروسي الشهير أحاد هعام([1]) أن حذر من ذلك عام 1891 عندما كان الاستعمار الصهيوني لفلسطين في طريقه إلى الظهور: "ماذا يفعل إخواننا اليهود في فلسطين؟... إنهم يعاملون العرب بقسوة وعداوة، ويحرمونهم من كافة حقوقهم، ويؤذونهم بدون سبب، وفوق كل شيء لا يزالون فخورين بسلوكهم".

إذًا، كان انتقاد الاستعمار الصهيوني لفلسطين قائمًا وقديمًا، ويبدو أن الصهيونية كانت هي المشكلة، فهي حركة سياسية أسسها اليهودي النمساوي تيودور هرتزل، الذي أسّس أيضًا "البنك اليهودي الاستعماري"([2]) The Jewish Colonial Trust عام 1901، وبذلك بدأت الحركة الصهيونية. حاولت جماعات الصهاينة شراء الأراضي من الحكومة في فلسطين آنذاك، بداية من السلطان العثماني ثم من بريطانيا فيما بعد، ولم ينجح الأمر، ومن ثم لجأوا إلى الاستيلاء على الأراضي.

في كتابه "درع داود"The Shield of David  (1970)، يصف يغئال ألون([3])، الجنرال السابق وزعيم حزب العمال الإسرائيلي، كيف بنى الإسرائيليون كيبوتسا محصنا على أرض عربية في 12 ساعة فقط خلال منتصف الليل: "حاجز مزدوج مليء بالحجارة، وبرج مراقبة بطول 15 مترًا، إضافة إلى إضاءة كاشفة، بعدها يصبح المستوطنون المسلحون هم أسياد الموقع".

"الكتاب الكبير لمذكرات برابوش، قرنان من الوجود اليهودي في فلاندرز/ أنتويرب"، سيلفان براشفيلد/ "درع داود"، يغئال ألون


هذا هو نفسه الأسلوب الذي لا يزال يستخدمه المستوطنون في الضفة الغربية حتى اليوم، وإن كان أكثر تطورًا قليلًا؛ فأينما يشتري الصهاينة الأراضي أو يحتلونها، يطبقون فيها مبدأ الفصل العنصري: العمل اليهودي البحت. ومع ذلك، وفي الوقت الذي ناقشت فيه الأمم المتحدة خطة تقسيم فلسطين بين اليهود والفلسطينيين عام 1947، كان الصهاينة يسيطرون على 6 بالمائة فقط من الأراضي الفلسطينية، وكان اليهود يشكلون ثلث السكان الفلسطينيين، ويتركز معظمهم في المنطقة الحضرية المحيطة بتل أبيب على طول الساحل، وهي مدينة أسسوها على أراض من القرى المحيطة بمدينة يافا العربية.

كانت خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين التي ظهرت في ذلك الوقت تنص على تخصيص 56 بالمائة من الأراضي لليهود. ورأت الحكومة البلجيكية آنذاك أن الخطة على هذا النحو غير عادلة على الإطلاق، ولذلك قررت الامتناع عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكان فرناند فانلانجنهوفه (1889 - 1982)، ممثل بلجيكا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، قد أعد خطابه على هذا المنوال: "لسنا متأكدين على الإطلاق مما إذا كانت هذه الخطة عادلة، نحن نشك بقوة فيما إذا كانت قابلة للتنفيذ بشكل عملي، ونخشى أن تنطوي على مخاطر وتداعيات كبيرة".

ومع ذلك، فقد صوّت البلجيكي فانلانجنهوفه لصالح الخطة! ما أثار دهشة العديد من السياسيين الذين علموا أن الحكومة قررت الامتناع عن التصويت، وقد عبر نائب الحزب الديمقراطي المسيحي ونائب الشعب، كارتون دي فيارت، عن هذه الدهشة والسخط حينها قائلًا: "كانت دهشتنا كبيرة عندما علمنا من الصحف أن الوفد البلجيكي صوّت لصالح الخطة، على الرغم من تصويت لجنة الشؤون الخارجية بالإجماع بالامتناع عن التصويت".

إذًا ماذا حدث؟

كان رد فعل اللوبي المؤيد للصهيونية تحت ضغط كبير من الاشتراكيين آنذاك، وخاصة من الوزير كميل هويسمانس([4]). نعرف ذلك اليوم بفضل يسرائيل غات، من حزب العمال الإسرائيلي، الذي أعلن لاحقًا أنه "بفضل جهود كميل هويسمانس صوّت الوفد البلجيكي لصالحنا".

في ذلك الوقت كان الحزب الاشتراكي البلجيكي بأكمله من أشد المعجبين بالاستعمار الصهيوني في فلسطين، وقد ذهب إميل فاندرفيلده، الشخصية الاشتراكية العظيمة، لزيارة المستعمرات الصهيونية في فلسطين منذ عام 1929، ولا يزال هناك مركز دراسات يحمل اسمه في إسرائيل، وكتب عن المستعمرات الصهيونية تلك كتابًا بعنوان "شافيندس بالستينا" Schaffendes Palästina (دريسدن، 1930)، (لاحظ أن الرجل المؤيد للصهيونية ما زال يطلق على "أرض الميعاد" اسم فلسطين!).

لم يستطع إميل فاندرفيلده التغلب على حماسه لهذا البديل الاشتراكي للشيوعية، وقال: "لا أعرف ما إذا كان هناك الكثير من الناس الذين لا يزالون يؤيدون المادية التاريخية للبلاشفة، إذا كان هذا النوع من الماركسيين لا يزال موجودًا، فإنني أنصحهم بالقيام برحلة حج إلى القدس ليزوروا فلسطين اليهودية".

لا أريد أن أحجب هذا الاقتباس الألماني من كتابه، إذ يقول عن فلسطين: Von ihr ihr strahlen die Hoffnungen einer neuen Welt aus، ما يمكن ترجمته إلى: "منها تشع آمال عالم جديد".

لم يكن كميل هويسمانس معروفًا على الصعيد الدولي كزعيم للأممية الاشتراكية فحسب، بل كان أيضًا وزيرًا بلجيكيًا، كما شغل منصب عمدة مدينة أنتويرب أثناء الحرب العالمية الأولى.

تهريب الأسلحة سرًا إلى الصهاينة

كان ميناء أنتويرب البلجيكي مهمًا جدًا للصهاينة منذ بدايات القرن العشرين، وقد كتب الإسرائيلي البلجيكي سيلفان براشفيلد، ابن مدينة أنتويرب، باستفاضة عن ذلك في "المجلة البلجيكية الإسرائيلية" Het Belgisisch Israelitisch Weekblad الصادرة في سبتمبر/ أيلول 1982، والتي جُمعت لاحقًا في كتاب "الكتاب الكبير لمذكرات برابوش، قرنان من الوجود اليهودي في فلاندرز/أنتويرب"([5]) الذي نشره الأرشيف التاريخي اليهودي في أنتويرب.

يدور الكتاب حول عام 1937، العام الذي خاضت فيه ميليشيا الهاغانا الصهيونية حروبها ضد الفلسطينيين أثناء محاولتهم الاستقلال عن البريطانيين: "كانت بلجيكا في ذلك الوقت أحد مصادر الهاغانا للرشاشات الخفيفة والمسدسات وجميع أنواع الذخيرة، وكان الصهيوني زخار أريئيلي متمركزًا في أنتويرب لعدة سنوات... وفي وقت لاحق أصبح قائدًا للهاغانا في القدس"، وفقًا لما كتبه سيلفان براشفيلد.

وذات يوم حدث خطأ ما في إحدى عمليات نقل الأسلحة تلك؛ حيث كان من المفترض أن تُظهر الوثائق أن الشحنة مجرد أنابيب معدنية، وحين تم الاشتباه في الأمر، قام رئيس البلدية كميل هويسمانس بالاتصال بأحد معارفه الصهاينة من حزب الأممية الاشتراكية للتقصي، بعد ذلك أعطى الضوء الأخضر وغادرت السفينة "سرًا" ميناء أنتويرب إلى حيفا محملة بالأسلحة، وبفضل هذا الدعم المهرّب من بلجيكا وتشيكوسلوفاكيا آنذاك، اكتسبت الميليشيات الصهيونية تفوقًا عسكريًا في فلسطين، واستخدموا هذا التفوق في ما أسموه بـ"حرب الاستقلال" عام 1948.

خلال حرب 1948 دمرت عصابات الهاغانا  420 قرية وهُجّر سكانها الفلسطينيون


تقول الأسطورة الدعائية الصهيونية إنها كانت معركة بين داود وجالوت، لكن الأرقام الواردة من المصادر الصهيونية والأميركية نفسها تقول غير ذلك: كان عدد الميليشيات الصهيونية مجتمعة يربو على 12 ألف جندي، بينما لم يكن بإمكان الجانب العربي الفلسطيني الاعتماد إلّا على 7 آلاف جندي فقط، وفي الوقت الذي كان الصهاينة يمتلكون 700 مدرعة، كان العرب يمتلكون 123 فقط، وفيما امتلك الصهاينة 205 طائرات، كان الرقم على الجانب العربي الفلسطيني صفرًا.

دمرت عصابات الهاغانا  خلال هذه الحرب 420 قرية وهُجّر سكانها الفلسطينيون، وشمل ذلك بلدات يافا والرملة واللد وصفد وطبريا، وأصبح هؤلاء هم اللاجئون الذين يسكنون الآن مخيمات الضفة الغربية، ويشكلون ثلاثة أرباع الفلسطينيين في قطاع غزة، والبالغ عددهم اليوم 2.2 مليون فلسطيني، المكان الذي يريد الصهاينة الآن إعادتهم إليه من جديد.

ولم يعد الأمر في فلسطين اليوم يتعلق بالطرد فقط، بل أيضًا بالتجويع والقصف الذي ينطوي على إبادة جماعية حتى الموت... فمن قال إن التاريخ حين يعيد نفسه، لا يفعلها على شكل مأساة، كتلك الماثلة أمام أعيننا اليوم في غزة؟

(*) لوكاس كاترين: مؤرّخ وكاتب بلجيكي فلمنكي من مواليد عام 1947، له العديد من الكتب والدراسات التاريخية، خاصة عن الصراع العربي الإسرائيلي. منذ بداية مشواره البحثي عام 1969، والذي يقف فيه ضد التيار الغربي المناصر لدولة الاحتلال، قدم كاترين أكثر من 23 مؤلفًا عن العالم العربي والحضارة الإسلامية والأندلس واللوبي الصهيوني، وتناول في مؤلفاته العلوم الإسلامية من الهندسة والجبر وعلوم الفلك والجغرافيا والطب، إضافة إلى المذاهب الفلسفية وكتب ابن رشد وابن سينا والمتصوفة، وصولًا إلى العمارة الإسلامية وكتب التفسير والنص القرآني وتاريخ العرب الحديث.


إحالات:

(1) كان آشر تسفي هيرش غينسبرغ Asher Zvi Hirsch Ginsberg (1856 - 1927)، الذي اشتهر باسمه العبري المستعار أحاد هعام Ahad Ha’am، صحافيًا وكاتب مقالات عبري، وأحد أبرز المفكرين الصهاينة قبل الإعلان عن إسرائيل عام 1948، يُعرف بأنه مؤسس الصهيونية الثقافية من خلال رؤيته حول "المركز الروحي" اليهودي في أرض إسرائيل، تناقضت آراؤه فيما يتعلق بهدف الدولة اليهودية مع آراء شخصيات بارزة داخل الحركة الصهيونية مثل تيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية السياسية.

(2) البنك اليهودي الاستعماري The Jewish Colonial Trust: الأداة المالية للحركة الصهيونية. اقتُرح إنشاؤه في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد في بازل عام 1897؛ واتخذت الخطوات الأولى المحددة نحو إنشائه في كولونيا في أيار/ مايو 1898. وقد تصوره الصهاينة السياسيون كأداة مالية يجب أن يحفظ أموال الصهاينة كأمانة لأغراض الحركة المباشرة، وفي الوقت نفسه يجب أن يعمل كبنك ويدير الأعمال التجارية وفق أساليب العالم التجاري. وقد استندت هذه الأفكار المتضاربة بعض الشيء إلى مبدأ أساسي للحركة الصهيونية، وهو أن الحركة يجب ألا تعمل كجمعية خيرية، بل يجب أن تعمل على تعزيز الاستقلال. ومن ناحية أخرى، أدرك الصهاينة أن القوة المالية ضرورية لدعم المفاوضات الدبلوماسية.

(3) يغئال ألون (1918 - 1980): كان قائدًا عسكريًا وسياسيًا إسرائيليًا، قاد قوات البلماح وشغل منصب جنرال في جيش الدفاع الإسرائيلي، كان أيضًا زعيمًا لحزب "أحدوت هعفودا" وحزب العمال الإسرائيلي. شغل لفترة وجيزة منصب القائم بأعمال رئيس وزراء إسرائيل بين وفاة ليفي أشكول وتعيين غولدا مائير في عام 1969. 

(4) كميل هويسمانس Camille Huysmans (1871 - 1968): درس فقه اللغة الألمانية في جامعة لييج البلجيكية، انضم هويسمانس في سن مبكرة إلى الحزب الاشتراكي البلجيكي (BWP)، ثم أصبح صحافيًا في العديد من الدوريات الاشتراكية حتى عام 1904، وكان نشطًا بعد ذلك في النقابات العمالية. وبين عامي 1905 و1922 كان سكرتيرًا للأممية الثانية، وفي المؤتمر الاشتراكي في ستوكهولم عام 1917، ناشد ضد استمرار الحرب.

(5) "الكتاب الكبير لمذكرات برابوش، قرنان من الوجود اليهودي في فلاندرز/أنتويرب" Het grote Brabosh memorboek, Twee eeuwen Joodse aanwezigheid in Vlaanderen / Antwerpen,  (2012): كتاب من تأليف الصحافي والكاتب البلجيكي اليهودي سيلفان براشفيلد، صدر عام 2012، يؤرخ فيه للوجود اليهودي في فلاندرز، وخاصة في مدينة أنتويرب عاصمة الإقليم الفلمنكي في الشمال البلجيكي، على مدى أكثر من مائتي عام، مع مقدمة تاريخية مستفيضة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.