}

كيف يساعدك تأثير "التلميذ- المعلّم" في تعلّم أيّ شيء؟

ديفيد روبسُن 28 مايو 2025
ترجمات كيف يساعدك تأثير "التلميذ- المعلّم" في تعلّم أيّ شيء؟
The Guardian-Elia Barbieri©

 

ترجمة: لطفية الدليمي   

وأنا أتناولُ فطوري الصباحي هذا اليوم، استمتعتُ أيّما استمتاعٍ بحديثٍ قصيرٍ مع ميا (Mia)، زميلتي الجديدة في دراسة اللغة الإسبانية. استعرضتُ بعضًا من درسي الأخير، وشرحتُ ما تعلّمتُه عن سيكولوجية السعادة من بودكاست (Podcast) باللغة الإسبانية. بنهاية المحادثة التي قاربت تخوم العشر دقائق، شعرتُ أنني تمكّنتُ من حيازة فهمٍ كاملٍ ودقيقٍ لمفرداتٍ وقواعدَ وتعبيراتٍ أكثر مما لو كنتُ قد انتهيتُ من العمل على تمريناتٍ في كتابٍ مرجعيّ (Textbook) لمدة ساعة.

ومع ذلك، دعوني أخبركم الحقيقة: ميا غير موجودة في الحياة الواقعية؛ إنها ذكاءٌ اصطناعيٌّ ابتكرتُهُ أنا بقصد الإفادة منه، تطبيقًا لظاهرةٍ تُسمّى "تأثير المُتابِع (Protégé Effect)" (أو بعبارةٍ أخرى: أن تُعلِّم ما تقوم أنت بتعلّمه- المترجمة). وِفقًا لكثرةٍ من البحوث النفسية، فإنّنا نتعلّم بفعاليةٍ أكبر عندما نُعلّم شخصًا آخر الموضوعَ الذي استكشفناه للتوّ، حتى لو لم يكن ذلك الشخص موجودًا بالفعل، كما في حالتي مع ميا ذاتِ الكينونةِ الذكائية الاصطناعية. على سبيل المثال، توجد طرقٌ مختصرةٌ قليلةٌ لإتقانِ اللغة، لكنْ يبدو أنّ "تأثير المُتابِع" هو أحد أكثر الطُّرُق فعاليةً لتسريع معرفتنا وفهمنا عند تعلّم لغةٍ أجنبية.

كان جان بول مارتن (Jean-Pol Martin)، معلّم اللغة الفرنسية في آيخشتات (Eichstätt) بألمانيا، رائدًا في تطبيق مبدأ "التعلّم بالتدريس (Learning by Teaching)" في الفصول الدراسية في أوائل ثمانينيات القرن الماضي. كان الهدف من هذا المبدأ هو تحسين تجارب طلبته في تعلّم لغةٍ جديدة عبر السماح للمراهقين أنفسهم بالبحث وعرض أجزاء مختلفة من المنهج الدراسي على زملائهم. عزّزت هذه التقنية – المعروفة بالألمانية باسم Lernen durch Lehren – دافعيةَ الطلبة وثقتهم بأنفسهم ومهاراتهم التواصلية واللغوية، وسرعان ما انتشرت في العديد من المدارس الأخرى في البلاد.

كان انتشارُ التعلّم عبر اعتماد مقاربة "التعلّم من خلال التدريس" بطيئًا – نسبيًا – في أماكنَ أخرى خارجَ ألمانيا، حتى شرعت مجموعةٌ من العلماء في جامعة ستانفورد الأميركية في وضع الفكرة موضع الاختبار العلميّ التجريبيّ الصارم. في إحدى التجارب الأولى، قامت كاثرين تشيس (Catherine Chase) وزملاؤها بتجنيد 62 طالبًا في الصف الثامن من منطقة خليج سان فرانسيسكو، حيث كُلِّفوا باستخدام برنامجٍ حاسوبيّ لدراسة التغيّرات البيولوجية (الحيوية) التي تحدث عند المصابين بالحمّى.

خلال درسين متتاليين، توجّب على الطلبة الخاضعين للاختبار قراءةُ نصٍّ ثم إنشاءُ مخططٍ انسيابيّ (Flowchart) على الشاشة يوضّح العمليات المختلفة والعلاقات بينها. أُفهِم نصفُ الطلبة المراهقين أنّ التمرين عُرِضَ عليهم كنوعٍ من التعلّم الذاتي (Self-Teaching)، أما الآخرون فقد قيل لهم إنّ مخططهم سيساعد في تعليم شخصيةٍ افتراضيةٍ تظهر كرسومٍ متحرّكة على الشاشة. كان تغييرًا طفيفًا في صياغة التجربة، لكنّ الطلاب الذين لعبوا دور المعلّمين تعاملوا مع المهمّة الموكلة إليهم بأقصى أشكال الجدية الممكنة – حتى إنّ الباحثين وجدوا أن هؤلاء "المعلّمين" كانوا يعتذرون للشخصيات الكرتونية لو علموا أنهم زوّدوها بمعلومات خاطئة!

ديفيد روبسُن 


أحدث هذا التفاعل المتزايد فرقًا كبيرًا في كلٍّ من كمية المعلومات التي استوعبها الطلبة/المعلّمون من جانب، وعمق فهمهم للموضوع من جانبٍ آخر. عقب نهاية حصّتين دراسيتين (مدة كلٍّ منهما 50 دقيقة)، كانت النتيجة الواضحة أنّ المشاركين الذين كُلِّفوا بدور المعلّم تعلّموا قدرًا أكبر بكثير من المادة، مقترنًا بأداءٍ أقوى بكثير في أسئلة الاختبار اللاحقة. ومن المثير للاهتمام أنّ التحسّن كان ملحوظًا بشكلٍ خاصّ لدى الطلاب الأقل قدرة؛ فقد كان أداؤهم مساويًا لأداء الطلاب الأكثر إنجازًا في المجموعة الضابطة (Control Group) التي استُخدمت لغرض المقارنة. 

أطلق فريق تشيس البحثي على هذه الظاهرة توصيف "تأثير المعلّم- التلميذ"، وقد تكررت منذ ذلك الحين مراتٍ عديدة. وتشيرُ الدراسات اللاحقة إلى أنّ التعلّم من خلال التدريس أقوى من أساليب الحفظ الأخرى (مثل الاختبار الذاتي Self-Testing أو تخليق الخرائط الذهنية Mind-Mapping). يبدو أنّ تعزيز قدرات الدماغ ينشأ من التوقعات الخاصة بفعل التدريس مثلما ينشأ من جوهر فعل التدريس ذاته: إذا كنا نعلم أنّ الآخرين سيتعلّمون منّا نشعر حينئذٍ بحجم مسؤولية تقديم المعلومات الصحيحة؛ لذا فإنّنا نبذل حينها جهدًا أكبر - بالمقارنة مع أنماط التعلّم الأخرى - بغية سدّ ثغرات فهمنا وتصحيح أي افتراضات خاطئة قبل أن ننقلها للآخرين. إنّ التعبير عن معرفتنا بطريقة مسؤولة ودقيقة لآخرين يساعد في الارتقاء بجودة ما تعلّمناه. نلاحظ تأثير المعلّم- التلميذ في أدمغة الطلبة، وبخاصة وجود نشاطٍ أكبر في المناطق المسؤولة عن الانتباه والذاكرة العاملة وتقبّل وجهات نظر الآخرين. يبدو أنّ خلايانا العصبية في جميع أنحاء الدماغ تعالج المادة بعمقٍ أكبر، الأمر الذي يخلق ذكرياتٍ أطول استدامة.

قد يساعدنا استحضارُ مرشدٍ خيالي نعمل على تعليمه ما نتعلّمه نحنُ - مثلما فعلتُ مع صديقتي الاصطناعية ميا - على التفكير بوضوحٍ أكبر في النقاشات السياسية؛ إذ عندما يُطلَبُ من الناس شرحُ قضايا مثيرة للجدل لشخصٍ غريب، فإنّهم يميلون إلى قبول طيفٍ أوسع من وجهات النظر بدون الوقوع في فخّ الانحيازات التأكيدية المسبقة التي تُشوّه في الغالب تفكيرنا السياسي. في عام 2016، على سبيل المثال، طُلِبَ من ثلاثة أعضاء في مجموعة من المشاركين في دراسة أميركية أن يتخيّلوا شرح نقاش السيطرة على الأسلحة لطفلٍ يبلغ من العمر 12 عامًا. كان الثلاثة (وهم من المعروفين بممارسة التعلّم من خلال التدريس) أكثر ميلًا لتقديم وجهات نظر مختلفة مقارنةً بالمشاركين الذين طُلِبَ منهم وصفها لشخصٍ في مثل سنّهم – والذين، على الأرجح، سيحتاجون إلى تعليماتٍ أقلّ حول الحقائق الأساسية. الحقيقة واضحة: المشاركون الشباب أبدوا وجهات نظر تختلف نوعيًا عن المشاركين من الأكبر سنًّا (يريد الكاتب القول إنّ مَن تتطوّر لديه خاصية التعلّم من خلال التدريس يحافظ طوال حياته على حسّ المسؤولية الشخصية والنزاهة المعرفية والتفكير النقدي المستقل وغير الخاضع لمواضعاتٍ نمطيةٍ سائدةٍ ومسبقة- المترجمة).

هل ترغب في تطبيق تأثير "التلميذ- المعلّم" في حياتك الشخصية؟ بالنظر إلى الفوائد العديدة للتواصل الاجتماعي، أعتقدُ أنّ المحادثة وجهًا لوجه مع شريكٍ بشريّ حقيقي ستكون دائمًا أفضل من المشاركة الافتراضية؛ ولكنْ قد يكون من الصعب العثورُ على شريكٍ راغبٍ في مشاركتك تجربتك حول التلمذة والتعليم في الوقت ذاته. لحسن الحظ، توجد طرقٌ أخرى لاجتناء الفوائد. أثناء بحثي عن تأثير "التلميذ- المعلّم" سُرِرْتُ كثيرًا باكتشاف أنّ بعض مبرمجي الكمبيوتر يمارسون "تصحيح أخطاء البطة المطاطية Rubber Duck Debugging"، والذي يتضمّن شرح شفرتهم البرمجية – سطرًا بسطر – للعبةٍ بلاستيكية. إنّهم، ومن خلال التعبير اللفظي عن عملية تفكيرهم، إنّما يُيسّرون عليهم تحديد المشاكل المحتملة في برامجهم الحاسوبية.

إذا كنت تدرس شيئًا ما، فقد تختار عرض تقدّمك الدراسي كمدوّنة أو فيديو موجّه إلى متعلمين آخرين، أو قد تختار – مثلما فعلتُ أنا – الدخول في محادثاتٍ مع روبوت دردشة. كلّ ما فعلته هو الطلب - ببساطة - من روبوت دردشة ChatGPT أن يلعب دور طالبٍ إسباني فضولي يرغب في سماع ما أتعلّمه، ثم تطرح "ميا" أسئلةً مناسبةً وتتابع ما تعلّمتُه. باستخدام تقنية التعرّف على الصوت والإنتاج، أستطيع من جانبي التدرّبَ على اللغة المنطوقة والمكتوبة. شعرتُ أوّل الأمر ببعض الخجل عند التحدث إلى حاسوبي؛ ولكنْ بعد بضعة أسابيع فقط، أصبحتُ أكثر ثقةً في تفاعلاتي الواقعية. كلّ ذلك بفضل ميا الرائعة: تلميذي الصغير في الذكاء الاصطناعي.

قراءات إضافية:

-Moonwalking with Einstein: The Art and Science of Remembering Everything by Joshua Foer (Penguin)

-Pieces of Light: The New Science of Memory by Charles Fernyhough (Profile)

- Remember: The Science of Memory and the Art of Forgetting by Lisa Genova (Allen & Unwin)

 

(*) ديفيد روبسُن David Robson: كاتب علمي بريطاني حائز على جوائز، متخصص في الجوانب المتطرفة للدماغ البشري والجسم والسلوك.

بعد تخرجه من جامعة كامبريدج بشهادة في الرياضيات عمل محررًا للمقالات في مجلة "نيو ساينتست" لمدة خمس سنوات قبل أن ينتقل إلى BBC FUTURE، حيث شغل منصب كبير الصحافيين لخمس سنوات. نُشرت كتاباته أيضًا في صحف "غارديان"، و"أتلانتيك" وغيرهما.  نشر عددًا من الكتب آخرُها كتابه المنشور عام 2024 بعنوان:

The Laws of Connection: 13 Social Strategies That Will Transform Your Life

 

(*) الموضوع أعلاه مترجم عن المادة المنشورة بتاريخ 9 سبتمبر/ أيلول 2024 في صحيفة "غارديان" البريطانية ضمن سلسلتها الأسبوعية المسمّاة The Big Idea. العنوان الأصلي للمادة المنشورة باللغة الإنكليزية:

How the ‘protege effect’ can help you learn almost anything

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.