ترجمة وتقديم: عماد فؤاد
أصدر الكاتب والصحافي الهولندي إدوارد كوزين مؤخرًا كتابه الجديد "الإسكندرية: قصة مدينة تعيش في الماضي" (*)، محاولًا عبره استكشاف تاريخ هذه المدينة الساحلية المصرية، التي كانت ذات يوم عاصمة للعالم الهلنستي، ومقارنة هذا الماضي العريق بحاضرها البائس. يأتي كتاب كوزين الجديد كتأكيد على ما أنجزه الكاتب في إصداره الأول "العالم لا يراقب الآن: الحياة في مصر بعد الربيع العربي"، الصادر بالهولندية عام 2021، والذي كتبه بعد عشر سنوات من الحياة في مصر، عمل خلالها كمراسل صحافي لعدد من وسائل الإعلام الهولندية والأوروبية من القاهرة.
هنا ترجمة لمقدّمة كتاب إدوارد كوزين الجديد عن الإسكندرية:
يتسلّل الشوق إلى البحر بداخلي بمجرّد وجودي في التاكسي المتجه إلى المحطّة، الوقت مبكر، ولديّ تذكرة لقطار الساعة السابعة صباحًا المتجه مباشرة من القاهرة إلى الإسكندرية، نخترق مدينة فارغة تستيقظ ببطء، فيما يهبّ هواء الصبح المنعش عبر النوافذ المفتوحة، وعلى الرصيف يقف رجال بظهور محنية في ستراتهم الرسمية البالية، مستعدون لحمل حقيبتي ومرافقتي إلى العربة المناسبة.
تمرّ أمامي مبانٍ رمادية اللون بينما يندفع القطار خارج المدينة، أنظر عبر النوافذ المتسخة إلى أشجار النخيل التي يلفّها الضباب، في إحدى القرى ترقد عشرات السيارات والتكاتك المحطمة، مجردة من هياكلها ومغطاة بطبقة من الغبار، رحلة القطار نقطة استراحة، لحظة للتفكير فيما فعلته بي مجددًا الغابة الخرسانية لمدينة القاهرة العملاقة، آخذ نفسًا عميقًا.
يعبر القطار نهر النيل عند مدينة بنها، أول مدينة كبيرة في الدلتا، ثم تشرق الشمس، لتظهر أشجار البرتقال ورؤوس نباتات الخس، فيما طيور البلشون في الحقول التي تم حرثها للتو، والغسيل الجاف على الشرفات... كل هذا يكتسب لونًا، أرى النساء منتشرات بين المحاصيل في الحقول، رجالًا يجمعون الحصاد على عربات تجرها الحمير، والجواميس المربوطة في جذوع الأشجار تنفض عن جلودها الذباب.
على متن القطار، يمرّ رجال يرتدون قمصانًا بيضاء وسترات خمريّة اللون بدون توقف تقريبًا: "ماء، قهوة، نسكافيه، شاي". يبدو محصِّل القطار مثل، حسنًا، محصِّل قطار: بدلة زرقاء واسعة مع سترة قطنية وقميص وربطة عنق تحتها، شعر رمادي فاتح، نظارة معلقة بخيط حول رقبته، وبجرة قلمه على تذكرتي، يكمل مهمته.
بعد ساعات قليلة، أرى غيومًا تتحرك من الساحل إلى الريف، يصبح الهواء أكثر رطوبة والأرض أكثر بللًا والحقول أكثر اتساعًا، وفي الوقت نفسه، يصبح المشهد أكثر ازدحامًا. تمتلئ قنوات الري بالقصب الذي يلوح ذهابًا وإيابًا، ما يذكرني بالخنادق في هولندا، تلك المخصصة للصرف وليس للري، الأراضي القاحلة هنا ليست أرضًا ترابية، كما هي الحال في القاهرة، ولكنها مغطاة بالأعشاب.
وبينما تلوح المباني الشاهقة في الأفق، نمرّ بموقع بناء شاسع، تتناثر هياكل لا حصر لها من الشقق السكنية قيد الإنشاء بين الحقول المُجرَّفة وجذوع أشجار النخيل المقطوعة، ثم يدخل القطار إلى المدينة، تبدأ الإسكندرية كما تنتهي القاهرة: بكيلومترات من الأحياء العشوائية المكتظة بالسكان، مبانٍ سكنية رتيبة من الطوب الأحمر على مقربة من خطوط السكك الحديدية، إلا أن الطوب يبدو متآكلًا بعض الشيء والمباني متهالكة هنا وهناك أكثر من العاصمة، ينزل أغلب الركاب في محطة سيدي جابر، تُركت وحدي في العربة، بعد توقف قصير، ينطلق القطار إلى نهاية الخط: "محطّة مصر".
أتوقّف للحظة خارج المحطّة، الهواء أنقى مما كان عليه في القاهرة، والألوان تبدو أكثر إشراقًا والشمس أكثر تسامحًا، طبقة الضباب الدخاني والغبار غائبة، هذا كثير بالنسبة للشاعرية: فالساحة التي كانت خضراء أمام المحطة أصبحت الآن موقع بناء، قُطعت الأشجار واختفى الباعة بعرباتهم، لافتة كبيرة مغبرة قليلًا تعلن عن تطوير الميدان الذي تنفذه شركة تابعة لوزارة الدفاع، وبما أن الساحة غير قابلة للعبور، أتبع موكب المسافرين بمحاذاة مبنى المحطة، تسمح لنا بعض الحجارة المتراكمة بتسلق جدار صغير ومواصلة طريقنا نحو المدينة، وبجانب الدرج، تجلس امرأة ترتدي عباءة سوداء وهي تمد يدها إلى العابرين.
كان المشهد مختلفًا تمامًا في المرة الأولى التي خرجت فيها من المحطة ذاتها؛ بائع عصير البرتقال الطازج يرحب بك في الإسكندرية، وما أن تخرج من المحطة حتى تسير عبر حديقة صغيرة بها مقاعد على طول المساحة الخضراء والشجيرات، كان هناك نصب تذكاري للحرب في المنتصف يحتشد حوله الأطفال وهم يلعبون، أحاول أن أطمئن نفسي: "من المؤكد أن الميدان الجديد سيكون جميلًا"، ومع ذلك من الصعب ألا أتوق إلى الميدان القديم، بعد أقل من 10 سنوات من زيارتي الأولى للإسكندرية، أشعر بالفعل بحنين ما، ذلك الحنين الذي يتميز به أهل الإسكندرية.
حدثت هذه الزيارة الأولى في صيف 2014، بعد عام واحد فقط من وصولي إلى مصر للعمل كصحافي مستقل، كانت التوقعات كبيرة، فهذه مدينة الإسكندر الأكبر والمكتبة الشهيرة وكليوباترا، كانت الإسكندرية مركز العالم الهلنستي لمدة ثلاثة قرون منذ تأسيسها عام 331 قبل الميلاد، عندما هيمن الإغريق على شرق البحر الأبيض المتوسط، حينها كانت الإسكندرية أكبر مدينة في العالم.
وجدت أن القصة الأهم والأجمل هي قصة بومباي Pompeius، فتى الجمهورية الرومانية الذي صعد بسرعة البرق ليصبح سياسيًا داهية وقائدًا عسكريًا لا يعرف الخوف، كانت الإمبراطورية الرومانية التي مزقها الجنرالات المتنافسون، على عتبة الانتقال من الجمهورية إلى الإمبراطورية، وفي فارسالوس Pharsalus اليونانية، هُزم بومباي هزيمة مدوية عام 48 قبل الميلاد على يد حليفه السابق يوليوس قيصر، رفض بومباي، الذي نجا من المعركة، الاستسلام، واعتقد أن بمقدوره أن يجد الدعم في مصر لتشكيل جيش جديد وتحدي قيصر مرة أخرى، رست مركبه شرق حاضرة الإسكندرية آنذاك، وأخذته سفينة شراعية عبر البحر الفيروزي إلى الشاطئ ناصع البياض، حيث استقبله هناك وفد من حكام مصر: سلالة البطالمة، أحفاد أحد جنرالات الإسكندر الأكبر.
ليس في استطاعتنا هنا الحديث عن أي استقبال حار، كانت ضربة خنجر علامة على نهاية حياة بومباي المجيدة، أرسل الملك بطليموس الثالث عشر حاكم مصر (ووالد كليوباترا السابعة- المترجم) رأس بومباي إلى قيصر، هذا الأخير بدوره لم يكن مسرورًا بذلك، وردّ بغزو مصر، ليجبر بطليموس على إفساح المجال أمام ابنته كليوباترا، كانت الإسكندرية جائزة رئيسية في معركة مبكرة بين جبهتي "الغرب" و"الشرق" في الإمبراطورية الرومانية.
وبعد مرور ثمانية عشر عامًا، حسمت مواجهة أخرى بين الجزأين الشرقي والغربي للإمبراطورية الرومانية على الساحل نفسه في الإسكندرية، حين انتحرت كليوباترا بلدغة من ثعبان سام وفقًا للتقاليد، وكذلك انتحر أنطونيو، الذي طارده أوكتافيان، الإمبراطور أوغسطس فيما بعد. بمعنى ما، كانت هذه نهاية العالم الهلنستي، وعلى مدى القرون التالية، كان مركز ثقل البحر الأبيض المتوسط قد انتقل إلى الغرب، في روما. وظلت الإسكندرية تحتفظ بمكانة هامة في الإمبراطورية لفترة طويلة، ولكنها لم تعد مركزًا لها، وكذلك بدأت مكتبة الإسكندرية تشهد عملية بطيئة من الاضمحلال، إلى أن لم يتبق منها شيء، وبعد ألف عام، قضى زلزال أيضًا على أعجوبة الإسكندرية المعمارية في العالم، منارة الإسكندرية.
بالنسبة لي، وبفضل هذا الوعي التاريخي الكلاسيكي، كانت الإسكندرية مدينة مختلفة تمامًا عن القاهرة، كانت سنتي الأولى في مصر صعبة في خضم الآثار الدموية لثورة 2011، وبصرف النظر عن العنف المندلع حولي، كانت القاهرة مختلفة، بل مختلفة جدًا في بعض الأحيان، عن العالم الأوروبي الغربي الذي كنت منغمسًا فيه حتى ذلك الحين، لم يختلف الواقع اليومي اختلافًا كبيرًا عما كنت أعرفه فحسب، بل افتقدت في القاهرة نوعًا معينًا من التواصل، قصة مشتركة مع العالم الذي كنت أعرفه، وقد وجدت هذا التواصل مرة أخرى في الإسكندرية.
يعود تاريخ بناء مبنى محطّة الإسكندرية إلى ما قبل إنشاء قناة السويس، فقد بناه البريطانيون عام 1876 على الطراز الفيكتوري، وهو الآن محاط بسقالات التجديد، أتجول في الميدان، مرورًا بالفيللات الرومانية والمدرج اليوناني الذي تم التنقيب عنه في الثمانينيات، ثم أتوغل باتجاه وسط المدينة في شارع النبي دانيال، الذي يقول المؤرخون إنه يقع في المكان ذاته الذي كان شارعًا رئيسيًا في الإسكندرية القديمة، أمرُّ بسوق الكتب والمعهد الفرنسي وكنيس يهودي تم ترميمه مؤخرًا وكاتدرائية القديس مرقس، يعلن الباعة الذين يحملون الميكروفونات ومكبرات الصوت عن بضائعهم تحت الشرفات المتهالكة للمباني التاريخية، ويفضي الشارع إلى ساحة تلوح من خلفها وجهة رحلتي: البحر الأبيض المتوسط، أنا في وطني مرة أخرى.
ورثت عشقي للبحر الأبيض المتوسط من أبي منذ الصغر، عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، ذهبنا في عطلة إلى سردينيا بالسيارة، لأن أبي أراد أن يغرس فينا أنا وأخوتي شعورًا بالبعد، وأكثر من ذلك، أراد أن يأخذنا في رحلة عبر البحر الأبيض المتوسط بالعبّارة من جنوة إلى أولبيا، وهناك أهداني كتاب "البحر الأبيض المتوسط" للمؤرخ الفرنسي الكلاسيكي فرناند بروديل، لأقرأه حينها وأنا على البحر نفسه.
عبرت الساحة وسرت باتجاه الكورنيش الممتد على طول المدينة بمحاذاة البحر، ومن أمامي خليج الإسكندرية الدائري، عندما وصل الإسكندر الأكبر إلى هذه البقعة، أدرك إمكانية إنشاء مدينة ساحلية كبرى، فأمر ببناء حاجز بين الساحل وجزيرة فاروس الصخرية، وقد أدى هذا إلى إنشاء خليج يمكن للسفن أن ترسو فيه، وبعدها بُنيت منارة الإسكندرية على رأس الخليج، ومكانها تنتصب اليوم قلعة قايتباي الشامخة التي بناها العثمانيون من حطام منارة الإسكندرية المنهارة، يرفرف من فوقها العلم المصري، وعلى الحاجز السابق تقف الآن البنايات الشاهقة والأزقة الضيقة لمنطقة الأنفوشي. عندما هبط نابليون في مصر عام 1798، كان هذا هو الجزء الوحيد المأهول بالسكان من المدينة الآخذة في الانهيار، مجرد قرية صيد تقع بين بقايا الأبراج الرومانية وأسوار المدينة التي حافظت على ذكرى ماضيها المجيد.
أرى في مخيلتي المنارة على رأس الخليج وهي تعطي إشارات ضوئية، وفي عيني أرى سفينة بومباي تقترب، تحضرني كلمات الكاتب السكندري إبراهيم عبد المجيد: "عندما أقف أمام المحيط، أشعر بالضياع، لا أعرف ما الذي يقع على الجانب الآخر، على ساحل البحر الأبيض المتوسط في الإسكندرية، يتكشف تاريخ "العظماء"، جميلًا كان أو قبيحًا، هنا تملأ قصص كليوباترا وأنطونيو والإسكندر وقيصر العالم، وأنا أجلس جوارهم".
هذا هو بَحْرِي، البحر نفسه الذي قضيت فيه عطلات لا حصر لها، حيث درست التكوينات الصخرية عندما كنت طالب جيولوجيا، وحيث كنت أسير مع أصدقائي الإيطاليين عندما كنت طالب تبادل، وحيث القصص التي استوعبتُها في دروس اليونانية واللاتينية عندما كنت تلميذًا. منذ انتقالي للعيش في مصر وأنا أشعر أنني هبطت إلى عالم آخر، ولكن ما يشترك فيه هذا العالم مع عالمي هو البحر الأبيض المتوسط، أنا على الجانب الآخر، لكنه البحر نفسه. في الإسكندرية، ورأسي وسط رياح البحر، أستطيع أن ألمس الوطن.
عندما أسير في الأزقة تحت الشرفات، حيث يتدلّى الغسيل ليجف، أتخيل نفسي أحيانًا في جنوة، ولست الوحيد، فعلى سبيل المثال، كتب الدبلوماسي الأميركي فريدريك كورتلاند بنفيلد عام 1903 قائلًا: "إن السماء الياقوتية، والجو المائل إلى السمرة، وأشجار النخيل التي ترتفع فوق المنازل، تخبرك كلها أنك في مصر؛ ولكن المباني والمتاجر وبضائعها، توحي لك بأنك في مدينة في إيطاليا أو جنوب فرنسا، ربما في نابولي أو مرسيليا".
وصف بنفيلد وغيره من المستشرقين الغربيين في القرنين التاسع عشر والعشرين مدينة تقع على الحدود بين عالمين، بين أوروبا والشرق، هذا النموذج من الانقسام بين الغرب والشرق، بين أوروبا والشرق الأوسط، ينعكس أيضًا في وجودي؛ أنا هولندي الجنسية، لكنني عشت في مصر لأكثر من عقد من الزمان، ومتزوج من مصرية، أقف بساق في مصر، وبالأخرى في هولندا، يسألني الناس عما إذا كنت أشعر بأنني عربي الآن، وعما إذا كانت مصر هي وطني حقًا أم لا. ابني رام، هل هو الآن جزء من "الغرب" أم من "الشرق"؟ من كليهما، أم لا علاقة له بأي منهما؟
برزت هذه الثنائية أيضًا خلال حفل زفافي، فقد حاولت وزوجتي أن نمنح التقاليد من كلا البلدين مكانًا في الحفل، من خلال زهور التوليب على الطاولات والموسيقى العربية وعروض الرقص، تحدث والدي في خطبته عن زواجنا بوصفه "جسرًا بين نهري الراين والنيل"، حيث لا يمكننا إلا أن نقبِّل بعضنا البعض إلى الأبد، أعطتنا أختي قطعتين نقديتين رومانيتين كهدية، كانت النقود وسيلة صالحة للدفع قبل ألفي عام في كل من هولندا ومصر؛ فقد كانتا في النهاية جزءًا من الإمبراطورية نفسها.
تبدو مصر الآن بالنسبة لي أيضًا عالمًا مختلفًا تمامًا عن عالمي، العالم الذي جئت منه وتنتمي إليه أصولي وجذوري، في الأوقات التي كانت تسوء فيها الأمور في القاهرة، أو حين كان حر الصيف يشتد ويصبح خانقًا، أو عندما كان سائق التاكسي يحاول سرقتي، بدا الفرق بين عالميّ أكبر من أن أشعر بأنني في وطني في أي منهما، وكان هذا الانقسام في وجودي يحطمني، في تلك اللحظات كنت أحجز تذكرة قطار إلى الإسكندرية، وحدي، كنت أشعر وأنا أتجول على طول الكورنيش أن الحدود تتساقط، وأستعيد السلام، وهكذا أصبحت الإسكندرية أكثر بكثير من مجرد رحلة ترفيهية.
الإسكندرية، كمدينة، كفكرة، ضرورية لربط عوالمي، إنها مثل الجسر؛ جسر رقيق مهزوز، يوشك على الانهيار، بالنظر إلى الحالة المزرية لمبانيها التاريخية، وتنوعها وازدهارها المفقود، أو مثل حبل النجاة، لو انقطع تنهار عوالمي، لهذا السبب تحتل الإسكندرية مكانًا قريبًا جدًا من قلبي، لهذا السبب تهمّني قصتها، ويجب ألّا أفقدها، يجب أن تبقى كما هي: المدينة المتوسطية بين عالمين، مدينة الرومان والعثمانيين واليونانيين والإنكليز والعرب، ولكن قبل كل شيء، هي مدينة البحر، "عروس البحر الأبيض المتوسط"، كما يسمّيها المصريون بمحبّة.
(*) Eduard Cousin: ‘Alexandrië, Het verhaal van een stad die leeft in het verleden’. 2024, Atlas Contact, Amsterdam, 237 pagina’s