}

الحكومة العالمية: هل هي ممكنة؟

ترجمات الحكومة العالمية: هل هي ممكنة؟
(Elia Barbieri, The Guardian©)

ترجمة: لطفية الدليمي


المعضلات العالمية تستلزم استجاباتٍ عالمية، ونحن لدينا الكثير من تلك المعضلات. قد نتساءل أحيانًا ونحن في ذروة واحدة من تلك المعضلات: هل نحن في حاجة إلى سلطة واحدة موحّدة (بمعنى أوضح وأدق: حكومة عالمية) لحلّها؟ هل هذا ممكن في المقام الأول؟ إن الأمر يعتمد في النهاية على ما نعنيه بمفهوم "الحكومة العالمية". أليس كذلك؟ هل نعني إمبراطورًا على رأس إمبراطورية واحدة عالمية؟ هل نعني شكلًا من أشكال الحكومة الديمقراطية الفيدرالية للعالم؟ فيلم "حرب النجوم" السينمائي يعرض لنا جمهورية مجرّية - نسبة إلى المجرّة - Galactic Republic؛ لكنه لا يقدّم مثالًا صالحًا. إنه محض خيال علمي.

إنه لأمر في غاية المشقة أن نتخيّل حكومة عالمية بمواطنين عالميين في عالمٍ مكتظّ بهويات محلية طاغية ونظم سياسية واجتماعية متباينة. سبق لنا أن أدركنا منذ نهاية الحرب الباردة أنّ الدولة القومية Nation-State ليست حيّة فحسب، بل أيضًا مترعة بالحياة. تجربة الاتحاد الأوروبي مثلًا أمامنا. يعاني الاتحاد الأوروبي من أعضائه على نحو لا ينقطع منذ تأسيسه. فكّرْ في إمكانية مدّ نطاق الاتحاد الأوروبي على كامل مساحة العالم. هل تتخيّلون كيف سيكون شكل العالم لو طبّقنا فيه نظام الانتخابات القائم على أساس صوت واحد لكل فرد في العالم؟ الأمر معقّد إلى حدود لا يمكن أن نتخيلها.

لو توافقنا على أنّ الحكومة، أية حكومة، يمكن أن تكون ممارسة للسلطة على شعب منطقة محددة، بموافقة أفراد هذا الشعب أم بدونها، فحينئذ نعم، يمكن تخيّل قوّة مهيمنة أو مجموعة قوى تحكم العالم، وربما تحكمه بطريقة أفضل مما شهدناه من نظم حكمٍ حتى اليوم. قد تكون هذه الحكومة العالمية أكثر سخاءً مع مواطنيها العالميين. هذا أمرٌ يقع في نطاق الإمكانية أيضًا. سيطرت الإمبراطورية الرومانية على عالمها الذي نعرفه اليوم لقرون عديدة. كذلك ادّعى الأباطرة الصينيون امتلاكهم "تفويضًا سماويًا" افترضوا أنه يمنحهم سلطة الحفاظ على النظام Order في الأرض. كما أن القوى العظمى عقب نهاية الحروب النابليونية أنشأت ما سُمّي الوفاق الأوروبي Concert of Europe بغية تسوية النزاعات بينها سلميًا واستتباب رسوخ نظام متسم بالنزعة المحافظة على كامل القارة الأوروبية.

مع توسّع نطاق معرفتنا مع بعضنا نحن البشر في القرون الأخيرة، توسعت كذلك حدود قدرتنا على تخيّل إمكانية وجود نظام عالمي حقيقي. سوّغت الإمبراطوريات الأوروبية زحفها التوسعي بادّعاء جلب الحضارة إلى رعاياها البعيدين، كما حلم مناصرو النظام البريطاني الإمبراطوري بسيادة مشتركة للإمبراطورية البريطانية (الأجزاء الواقعة تحت سيادة البيض منها فحسب) والولايات المتحدة الأميركية لتحقيق حكم عالمي. كانت لدى لينين وماو رؤى مختلفة؛ إذ طمحا في بلوغ دولة شيوعية واحدة موحّدة تذيب الحدود الوطنية فيما بينها.

الفلاسفة كانت لهم أحلامٌ تخالفت مع أحلام السياسيين الإمبراطوريين. حلم كانط Kant بإمكانية أخرى تتعاون فيها الدول التي تتشارك القيم الليبرالية طواعية من غير قسر، وفي إطار من السلام الكامل من غير أيّ شكل من أشكال القوة العنيفة. عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، عبّر الرئيس الأميركي وودرو ويلسون Woodrow Wilson عن رأي الملايين برؤيته لنظام عالمي أكثر ليبرالية وديمقراطية مما كانت عليه الحال قبل نشوب الحرب، وحيث يمكن أن تعمل الدول معًا ضد التهديدات المشتركة التي تواجه البشرية بشتى أشكالها: من الأوبئة وحتى الحروب. تجسّد حلم ويلسون في عصبة الأمم League of Nations التي كانت بمجلسها وجمعيتها العمومية وبيروقراطيتها الفجّة انعكاسًا للحكومات الديمقراطية المنضمّة إليها، مع فارق أنّ عصبة الأمم افتقدت امتياز احتكار القوة أو السلطة المطلقة بالمقارنة مع الحكومات.

لم تمنع عصبة الأمم نشوب الحرب العالمية الثانية؛ غير أنها تعلّمت دروسًا ثمينة من إخفاقها، ولعلّ في مقدّمة هذه الدروس وأهمّها أن الوحدة العالمية كفيلة بكبح العدوان والوقوف في وجه انتشاره. جابه العالم الممزّق الناشئ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 تحدياتٍ هائلة، سواءٌ في إعادة بناء ما خرّبته الحرب أو في منع نشوب حرب عالمية جديدة ثالثة أكثر كارثية من سابقاتها. استطاع الرئيس الأميركي حينها فرانكلين روزفلت، لكونه الرئيس الأقوى في العالم، تأكيد رؤيته في أن تتمتّع الأمم المتحدة United Nations بسلطات وصلاحيات أكبر من نظيراتها في عصبة الأمم.

أنشأ المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة والذي عُقِد في سان فرانسيسكو هيئة جمعت بين الاستبداد والديمقراطية. كان "رجال شرطة روزفلت الأربعة العالميون" بريطانيا والولايات المتحدة والصين والاتحاد السوفياتي أعضاء دائمين في مجلس الأمن Security Council (أضيفت فرنسا لاحقًا كبادرة حسن نية دبلوماسية)، وكانت المهمة الأساسية لمجلس الأمن هذا واضحة ومثبّتة: "تقع على عاتق مجلس الأمن مسؤولية أساسية تتمثل في الحفاظ على السلام والأمن الدوليين" كما نصّ على ذلك ميثاق الأمم المتحدة. مع حلول عام 1948، أسّست الأمم المتحدة قوات حفظ سلام عالمي خاصة بها، وهو الأمر الذي لم تتمكّن عصبة الأمم السابقة من التفكير به أو تنفيذه. في الوقت ذاته، أشرفت الأمم المتحدة على مجموعة من الوكالات - مثل منظمة الصحة العالمية أو منظمة العمل الدولية - التي وضعت المعايير والسياسات الدولية في مجالات مثل: الصحة والعمل، وأصبحت هذه الوكالات مع الزمن مراكز للخبرة العالمية.

تماشيًا مع رؤية آن ماري سلوتر، فإنّ حوكمة العالم تتجاوز بكثير المؤسّسات الرسمية العالمية لتشمل الشبكات المتنامية للوكالات الخاصة وجماعات المصالح 


عند تأسيس الأمم المتحدة، دعا روزفلت بقوة لم يتوانَ عنها إلى ضرورة إنشاء جمعية عامة General Assembly تتمثّل فيها جميع الدول، صغيرها وكبيرها، بصرف النظر عن قدراتها الاقتصادية والعسكرية، وتُعامل على أساس قاعدة المساواة الكاملة. مع الوقت، طوّرت الجمعية العامة تكتّلاتها الخاصة التي مكّنتها - في قضايا بعينها مثل معالجة تفكّك الإمبراطوريات الأوروبية عقب نهاية الحرب العالمية الثانية - من تحشيد الرأي العام العالمي سعيًا لممارسة الضغط على القوى العظمى. اليوم، وفي أسوأ التقديرات، يمكن النظر إلى الجمعية العامة باعتبارها منتدى يضمّ 193 دولة بأطياف سياسية واقتصادية شديدة التباين، من كوريا الشمالية إلى السويد. ربما صار من المألوف اليوم أن نتجاهل الأمم المتحدة؛ لكنّ وجودها يساعدنا على التفكير في نطاق عالمي.

الدرس الآخر الذي تعلّمه قادة العالم المؤسسون للأمم المتحدة من ثلاثينيات القرن العشرين هو أنّ التعامل مع الكساد الكبير Great Depression عن طريق إقامة الحواجز التجارية (ما يُسمّى بسياسة الحمائية Protectionism) وسواها من السياسات لم يفعل شيئًا سوى إطالة أمد الشقاء العالمي والإضرار بالعلاقات الدولية. ساعدت مؤسسات بريتون وودز مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (ولاحقًا منظمة التجارة العالمية) في إدارة الاقتصاد العالمي وتعزيز التنمية الدولية. نعم، هناك الكثير مما يستوجب النقد الموجع؛ لكن كما هي الحال مع الأمم المتحدة، فإننا كنا سنشهد وضعًا عالميًا أكثر سوءًا من دونها. مع ذلك، وتماشيًا مع رؤية آن ماري سلوتر، فإنّ حوكمة Governance العالم تتجاوز بكثير المؤسسات الرسمية العالمية (الأمم المتحدة والوكالات المرتبطة بها) لتشمل الشبكات المتنامية للوكالات الخاصة وجماعات المصالح من قوات الشرطة إلى المنظمات الخيرية غير الحكومية والعابرة للحدود الوطنية. الأمر سواءٌ لو كنت تكافح الجريمة العالمية المنظّمة أو تدير التدفقات الرأسمالية أو تقدّم يد العون للاجئين، فإن هذه الشبكات تعمل على الحفاظ على نظام عالمي؛ بل وتنشر القيم والمعايير المشتركة.

هل شجّعتنا المعضلات العالمية السابقة (كوفيد-19 هو أحدثها) على تعزيز النظام العالمي الذي نعرفه؟ من المؤكد أنّ الكوارث العالمية السابقة دفعتنا إلى التفكير بكيفية مختلفة عن السياقات التقليدية التي ألفناها. انبثقت أساليب جديدة لإدارة العلاقات الدولية عقب الحروب النابليونية والحربين العالميتين، ومن جانب آخر عمل وباء كوفيد-19 على تسليط الضوء المكثّف على مكامن الضعف في هذا النظام العالمي (سلاسل التوريد Supply Chains على سبيل المثال)، فضلًا عن مفاقمة وجوه عدم المساواة. غالبًا ما لجأت دول العالم إلى سياسة إلقاء اللوم على بعضها، كما أن تجهيز اللقاحات الخاصة بوباء كوفيد-19 للدول الفقيرة كان بوتيرة بطيئة بشكل يبعث على الشعور بالعار. برغم كل هذه المساوئ، لا يمكننا نكران أنّ جهودًا عالمية تضافرت بشكل رائع لتطوير اللقاحات وأدارت عملية توزيعها على دول العالم.

هل سنتعلّم بعض الدروس من هذا؟

من الأفضل لنا جميعًا أن نتعلّم هذه الدروس بسرعة. نحن نواجه المزيد من الأوبئة العالمية، والمزيد من الاضطرابات على النطاق الدولي، والأهم من كل هذا هو التهديد الوجودي للبشرية والمتمثل في التغيّر المناخي. هل يمكننا في واحد من السيناريوهات مثلًا - وكما اقترح ريتشارد هاس وتشارلس كوبشان Richard Haass and Charles Kupchan مؤخرًا في مقالة مشتركة منشورة في مجلة Foreign Affairs - تأسيس "تحالف قوى" جديد بهدف محدد هو الحفاظ على الاستقرار العالمي؟ العقبات عظيمة من غير شك. الدول المارقة Rogue Nations لا تفتأ تتحدّى الرأي العام العالمي، والصراعات الإقليمية تهدّد العالم بالتحوّل إلى حروب مدمّرة. من جانب آخر للصورة، يتصرّف القادة الأقوياء على مستوى العالم بنظرة آنية ومحلية كما لو أنّ لا مستقبل ينتظر بلدانهم أو العالم، وسلوكهم الآني هذا ينتج عنه مفاعيل ضارة طويلة الأمد. دونالد ترامب على سبيل المثال خان حلفاءه وتعمّد توجيه الإهانة لهم، وكذلك تواصل بريطانيا عزل جيرانها وأكبر شركائها التجاريين. الأمثلة أكثر مما نستطيع عده والإشارة إليه.

يتوجّب عليك أن تكون متفائلًا إلى حدود غير معهودة أو شائعة لتؤمن بإمكانية نشوء حكومة عالمية قائمة على التعاون والقيم المشتركة في عالمنا المعاصر. لو سلّمنا أنّ هوبز Hobbes (الفيلسوف السياسي مؤلف كتاب "اللفياثان") ورهطه من المُريدين كانوا على صواب في رؤيتهم السياسية، فإنّ حالة مقبولة وغير صراعية من الفوضى السائدة في العلاقات الدولية هي كلّ وأعظم ما نأمله. هل يحمل لنا المستقبل نموذجًا آخر غير الذي حلم به هوبز؟ تحالف بين القوى العظمى مثلًا أم شيء آخر؟ هل نحن على أعتاب عصر إمبراطوري جديد؟ ما نظنه هو أنّ عصر الإمبراطوريات قد غاب إلى الأبد؛ لكن من يدري؟ ربما يكون في فترة استجمام فحسب.

قراءات إضافية:        

 Governing the World: The History of an Idea by Mark Mazower (Penguin)

A New World Order by Anne-Marie Slaughter (Princeton)
The World: A Brief Introduction by Richard Haass (Penguin)

1. اتفاقية بريتون وودز Bretton Woods‏: الاسم الشائع لمؤتمر النقد الدولي الذي انعقد من 1 إلى 22 تموز/ يوليو 1944 في غابات بريتون في نيوهامبشاير بالولايات المتحدة الأميركية.  حضر المؤتمر ممثلون عن أربع وأربعين دولة، وقد وضعوا الخطط من أجل استقرار النظام العالمي المالي وتشجيع إنماء التجارة بعد الحرب العالمية الثانية. (المترجمة)

(*) مارغريت ماكميلان Margaret MacMillan: أستاذة التاريخ والعلاقات الدولية في مدرسة لندن للإقتصاد والعلوم السياسية LSE. ألّفت كتابًا عنوانه:  الحرب: كيف شكّلتنا الصراعات   War: How Conflict Shaped Us

(*) الموضوع أعلاه ترجمة للموضوع المنشور في صحيفة "غارديان" البريطانية ضمن سلسلتها الأسبوعية المسمّاة The Big Idea بتأريخ 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021. العنوان الأصلي للموضوع باللغة الإنكليزية:

?Is world government possible

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.