}

"الاقتصاد الرمزي" وصعود "سلع يوم الأحد": تحوّلات الحرب التجارية

بلال خبيز 10 يونيو 2025
تغطيات "الاقتصاد الرمزي" وصعود "سلع يوم الأحد": تحوّلات الحرب التجارية
يتحكم المستهلك الأميركي بالصانعين، وعليهم أن يراعوا أذواقه وأمزجته(Getty)

 

لم تأت حملة الرئيس الأميركي دونالد ترامب القاضية بفرض رسوم جمركية على معظم دول العالم، لفرض شروطه عليها من عبث. إذ تحكم الاقتصاد العالمي اليوم معادلات لم تتناولها الكتب التي اعتنت بالتحليل الاقتصادي في القرن السابق. وهي الكتب التي ما زالت تتصدر مناقشات المفكرين والمحللين في العالم. واقع الحال، إن جزءًا أساسيًا من الازدهار الاقتصادي يعتمد بدرجة أساسية على قدرة المستهلك على الإنفاق. في هذا المقام تقع أميركا في صدارة الدول. اقتصاد مزدهر واستهلاك مرتفع، يعززه هامش ربح وارتفاع في نسبة الدخل الفردي عن نظائره من الدول المصنعة. فضلًا، وهذا هو الأهم، عن أن السوق الأميركية واسعة وتخدم مئات الملايين وليست كنظائرها في الدول ذات الدخل المرتفع كالنرويج وأيسلندا والدنمارك. إذ يتحكم المستهلك الأميركي بالصانعين، وعليهم أن يراعوا أذواقه وتحولاته وأمزجته، والدرجات التي تدرج في مجتمعه، ليتسنى لهم بيع سلعهم المنتجة له خصيصًا. فضلًا عن هذا الأمر، يؤثر المزاج الأميركي العام على معظم المجتمعات في العالم، فإذا انتشرت موضة ما في أميركا فإنها لا تلبث أن تغزو العالم بكل جهاته. وهذا ما يجعل الانتباه لهذا الاجتماع حيويًا وضروريًا بالنسبة لأي اقتصاد في العالم.

هذا كله ليس بجديد على التحليل والمراقبة والملاحظة. ليستر ثارو Lester C. Thurow في كتابه "الصراع على القمة" (Head to Head) أطلق حكمًا قاطعًا، كان صحيحًا بنسبة عالية حتى بضع سنوات خلت. هذا الحكم يفيد بأن الدولة التي تفتح أميركا أسواقها لها لن تلبث أن تنمو بسرعات قياسية وأن يزدهر اقتصادها. بين هذه الدول ثمة الكثير ممن لا تنساق بسهولة للمزاج الأميركي محليًا: اليابان على سبيل المثال لم تتخل مطلقًا عن عاداتها وتقاليدها في الحياة العامة، وتاليًا ثمة الكثير مما يقبل عليه الياباني، لا يعرف عنه الأميركي أو الأوروبي شيئًا. فييتنام في هذا المجال مثال صارخ. تصنّع مفروشات ومراتب للنوم، لكن سكانها ما زالوا يفضلون النوم والجلوس في بيوتهم بلا أثاث تقريبًا.

كتاب ليستر ثارو عالج فيه أزمة عالمية تشبه كثيرًا الأزمة التي نعيشها اليوم


كتاب ليستر ثارو الآنف الذكر عالج فيه أزمة عالمية تشبه كثيرًا الأزمة التي نعيشها اليوم. وهي أزمة بدأت معالمها مع تولي رونالد ريغان السلطة في أميركا وشهدت خواتيمها مع نهاية عهد جورح بوش الأب. وخلال تلك السنوات شهد الاقتصاد العالمي تقلبات حادة فرضت تغييرات جوهرية على الاقتصاد العالمي برمته، ونقلت دولًا من صعيد الازدهار إلى الأزمة، وأخرى انتقلت من الأزمة إلى الازدهار. ومن المفيد قراءته اليوم لتبين أوجه الشبه بين ما يجري اليوم وما جرى حينها أميركيًا وعالميًا. لكن التغيرات التي طرأت منذ ذلك الحين بليغة ومعبّرة ولا توحي بأن النتائج قد تكون مماثلة لما حصل سابقًا. منذ ذلك الزمن وحتى اليوم حدثت أعاصير كثيرة في الاقتصاد العالمي، والأميركي خصوصًا. ولعل أبرزها واقع تراجع السلع الفعلية عن موقعها المقرر في الاقتصاد، وحلول السلع الرمزية محلها. قبل ذلك الحين كانت أميركا تصدر سلعا رمزية أيضًا، أبرزها صناعة السينما التي نجحت في احتكارها تقريبًا على مستوى العالم، بعد منافسة أوروبية شهدتها العقود الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. لكن نسبة مساهمة السينما في الاقتصاد الأميركي في عز ازدهارها لم تكن تبلغ ما بلغته نسبة السلع الرمزية اليوم.



ثمة صناعة هائلة من السلع غير الملموسة تتحكم فيها أميركا من دون منافس تقريبًا. هذا يبدأ بالأنظمة التي تشغل الكمبيوترات التي تغزو العالم، والهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، ولا ينتهي باحتكار شبه مطلق لمصادر المعلومات التي يتزود بها العالم يوميًا، والوسائل المتاحة لتحصيلها، فضلًا عن مجالات الترفيه الحديثة والفنون التي تتحكم بها وسائط أميركية أيضًا. لهذا تبدو المعركة الجارية اليوم متصلة بالدرجة الأولى بالسلع الفعلية. فحين نتحدث عن صراع عنيف حول صناعة السيارات، وهو صراع شهدنا مثيلًا له في عهدي ريغان وبوش الأب، فإننا نغفل حقًا أن نصف ثمن السيارة اليوم يدفع في مقابل التجهيزات ذات التقنية العالية التي تزوّد بها سيارات الفئة الأولى من كل طراز. وحين نتحدث عن صناعة البناء اليوم، فإن المواد الأولية من خشب وحديد وإسمنت على أهميتها لم تعد تشكل نسبة كبيرة من كلفة البناء. إذ باتت تدخل فيها أنظمة تقنية وصناعات معقدة تعنى بالمواد العازلة للحرارة وتلك المتعلقة بأحوال الطقس. وبالتالي فإن المعركة التي تخاض اليوم تبدو في عمقها تطاول الحاجات الأولية للناس، أو في أحسن احوالها ما يمكن تسميته بـ "سلع يوم الأحد"، أي تلك السلع التي تبرع الصين في إنتاجها والتي يمكن وصفها أنها فائضة عن الحاجة لكنها تلبي نزوات عابرة. كأن يشتري المرء في وقت راحته آلة لتقطيع البصل بلا دموع. لكنه في حياته العادية لن يستعملها كل يوم كما يستعمل سكين المطبخ. وبالتالي، ومع تكاثر هذه السلع سيتحول تخزينها إلى عبء على مستخدمها. لكن هذا الأمر لا يمنع أن تبقى هذه السلع منتشرة، ذلك أنها تلبي حاجات طارئة وغير مستدامة، لكنها تطرأ كل وقت.

الحرب الاقتصادية الجارية ستترك آثارها على كل شيء. لكن الهلع الذي تثيره لا يبدو في صالح الدول الصناعية، إذ أن انصراف الأميركيين عن الإنفاق على النحو الذي أدمنوا عليه، قد يؤدي إلى كساد عام في العالم كله، وسيكون أكثر المتضررين منه شعوب الدول التي لا تملك تجارتها هامش ربح واسع يسمح لها بإدمان "سلع يوم الأحد".

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.