ترجمة: سارة حبيب
قال الروائي الروسي إيفان غونتشاروف مرّة عن الكتّاب: "وأن يكتب ويكتب، مثل عجلة، أو ماكينة، غدًا، بعد غد، وفي أيام العطل؛ سيأتي الصيف، ولا بدّ أنه سيكون عندها مستمرًا في الكتابة. متى سيتوقف ويرتاح؟ ذلك الإنسان البائس؟".
وُلد غونتشاروف عام 1812، وتوفي عام 1891. لذلك، من الواضح أنني لست نموذج الكاتب الذي كان يتحدث عنه؛ رغم أني، بما أنه لطالما تم التعليق على كثرة نتاجي، يمكن خلافًا لذلك أن أكون ذلك النموذج حقًا. بطل روايته "أبلوموف"، الذي تحمل الرواية اسمه، يشعر على النحو ذاته حيال شخصية أخرى في الكتاب تحب السفر، وحيال شخصية ثانية تتمتع بحياة اجتماعية مفعمة بالحيوية، وشخصية ثالثة تعمل بجد على أمل الحصول على ترقية. جميع هؤلاء يراهم أبلوموف حمقى كونهم غير منسجمين مع هدف الحياة الحقيقي. وهذا الهدف، كما يراه أبلوموف، هو الاستلقاء في الفراش من دون فعل أي شيء طوال أيام حياة المرء. بالتالي، إذا كان يمكن القول إن للراحة بطلًا، فهو أبلوموف؛ رجلٌ نبيل بالولادة يرى أن "الحياة مقسَّمة، حسب رأيه، إلى قسمين: واحد مكون من العمل والضجر ــ هذه الكلمات مترادفة بالنسبة إليه ــ، والآخر مكون من الراحة وحس الفكاهة الهادئ". الراحة، الراحة الصارمة، هي اسم لعبة أبلوموف.
"تمامًا كما أن ثمة كلمات متعددة المقاطع تقول القليل جدًا، كذلك ثمة أيضًا كلمات أحادية المقطع ذات معنى غير محدود"، كتب جورج كريستوف ليشتنبرغ. "الراحة" هي واحدة من تلك الكلمات، بسيطةٌ في ظاهرها، لكن لا يمكن تعريفها بسهولة. كفعل، "يستريح" يعني "يتوقف عن العمل، أو الحركة من أجل الاسترخاء، تنشيط النفس، أو استعادة القوة"؛ كاسم، الراحة هي "حالة أو فترة من الاسترخاء، أو التوقف عن الانخراط في نشاط شاق ومرهق". لكن، لماذا ليست هذه التعاريف كثيرة الفائدة؟
الراحة ليست مترادفة تمامًا مع النوم، مع وقت الفراغ، أو الكسل. عندما يسأل رجل في منتصف سبعينياته، أو أكبر عمرًا، رجلًا آخر في العمر ذاته تقريبًا إن كان "يحصل على كثير"، (العبارة المستخدمة عادة للدلالة على الجنس)، فهو على الأرجح لا يشير إلى الجنس، بل إلى النوم. على الأغلب، أيٌّ من الرجلين لا يحصل على كثير من النوم، لأن قلّة من رجال أكبر سنًا أعرفهم يتخطون الليل من دون الاضطرار للاستيقاظ مرتين، ثلاثة، أو أكثر. بعضهم مجبرون على فعل ذلك من أجل زيارة "مجلس النواب"، كما دعا ديلان توماس الحمام. آخرون يجدون عقولهم مشتتة، أو تداهم نومهم الأحلام السخيفة. كان عندي صديق من أترابي يعاني من ثلاثية الأرق، جنون العظمة، وجنون الارتياب، وهكذا كان يمضي معظم لياليه مستيقظًا، قلِقًا من فقدان سيطرة لم يكن يمتلكها حقًا.
أتذكر أني عندما كنتُ مراهقًا كنتُ أنام لثماني، تسع، أو عشر ساعات. الآن، إذا تمكنتُ من النوم ساعتين، أو ثلاث، على نحو متواصل، أشعر بانتصار نوعًا ما. المحادثات مع الأصدقاء، رغم أنها تجلب كثيرًا من المتعة، تميل نحو التحفيز، وبالتالي لا تُعد بالضرورة كراحة. وكوني أعمل الآن من شقتي، كما أفعل منذ سنوات، آخذ غالبًا قيلولة عند الظهيرة، لكن هذه القيلولة قلما تجلب شعورًا مريحًا في صد التعب المحتوم لرجل في ثمانينياته.
منذ خمس وعشرين سنة، كتبتُ مقالة حملت عنوان "فن القيلولة"، أظهرتُ فيها براعتي العالية في هذا الفعل. ما أتذكره من المقالة اليوم حادثة عن هيو لويد جونز، الذي كان في حينها أستاذًا بمنحة ملكية في جامعة أوكسفورد في اختصاص الأدب الإغريقي (ولأنه كان على قيد الحياة حينها، لم أستخدم اسمه). بدا لي لويد جونز في تلك الأيام رجلًا إنكليزيًا إلى أقصى درجة: بدا أن له 50 إلى 60 سنًّا، جبالٌ عالية من القشرة غطت أكتاف سترته الزرقاء، وكان يتحدث بتلعثم أوكسبريدجيّ طفيف. عندما سألته إذا كان يأخذ قيلولة، أجاب "كلما أمكن ذلك". مستلقيًا على الظهر، أو منبطحًا على الوجه؟ "مستلقيًا". على أريكة أو سرير؟ "سرير". مرتديًا بنطالك أم لا؟ "عمومًا، لا". ولكم من الوقت؟ "يتوقف ذلك على موعد استيقاظ القطط"، أجاب.
مفهوم الراحة قديم بقدَم التوراة. في اليوم السابع، بعد خلق العالم وكل ما فيه، قيل لنا إن الرب استراح. لكن ليس، في حالته، من التعب، بل ليتأمل فيما سيخلق بعد ذلك. يرى آلان كوربن، وهو باحث فرنسي نشر مؤخرًا "تاريخ الراحة" المختصر، أنه، بالنسبة إلى الله، يوم الراحة كان "وقفة إبداعية". لاحقًا، يقول الله للنبي موسى: "وأنت تكّلم بني إسرائيل قائلًا: سُبُوتي تحفظونها، لأنه علامةٌ بيني وبينكم في أجيالكم لتعلموا أنّي أنا الربُّ الذي يقدّسكم. فتحفظونَ السبت؛ لأنه مقدّسٌ لكُم". (سفر الخروج 31: 13-14) (ترجمة معتمدة).
حفظ السبت (السَبَث)، حسب كلمات كوربن، لا يتعلق بالراحة وحدها، بل بـ"الطبيعة المقدسة لتلك الراحة". لاحقًا، بعد إجراء التعديلات اللازمة، أخذ المسيحيون، الذين كانوا في البداية بالطبع يهودًا في أغلبهم، فكرة اعتماد يوم مقدس للراحة، جاعلين يومهم هو الأحد. في بعض الأماكن، بلغ الأمر اليوم أن بات كلا الدينين يُعرَّفان بحسب أيام راحتهما. وعُرف عن الإسلاميين المتطرفين زعمهم أنهم "بعد أن نقضي على شعب السبت، سنقضي عليكم، يا شعب الأحد". في الوقت ذاته، سرى فهم مفاده أنه لا راحة للأشرار، أي لا راحة في جهنم، وهو إلى حد كبير ما لا بدّ أنه يجعلها جهنمية للغاية.
لا يزال اليهود الأرثوذكس (المتشددون) يتقيدون بالسبت المقدس بدقة شديدة. كما لا يزال المسيحيون الملتزمون يتناولون القربان المقدس أيام الأحد. واحد من المصاعد الثلاثة في مبنى مؤلف من خمسة عشر طابقًا في شيكاغو عاش والداي فيه كان مبرمجًا على أن يتوقف عند كل طابق طوال يوم السبت، لكيلا يُجبر اليهود الأرثوذكس على انتهاك السبت المقدس بالاضطرار لضغط زر وجعل المصعد يتحرك. كذلك، نلاحظ عادة الـ"شابس غوي"، الشخص غير اليهودي الذي يعينه اليهود الأرثوذكس ليتولى كل أعمال تشغيل الأفران، إضاءة المصابيح، تسخين الوجبات، وغيرها من الأعمال المجهدة الممنوعة يوم السبت المقدس في أسفار اللاويين، التثنية، والعدد.
في العصر القديم الكلاسيكي، كانت الطبقات العليا في كل من اليونان وروما تنظر بدونية إلى أفكار العمل النمطية. وقت الفراغ الممتد كل الوقت تقريبًا، otium، كان من بين استحقاقات الأرستقراطيّة في روما. وفي كلا البلدين، كانت الأعمال تُعد تافهة، وتُترك غالبًا للعبيد. الفن كذلك لم يكن مقدَّرًا كثيرًا. فالدفاع عن دولة مدينة المرء (البوليس)، أو دولته، ومناقشة الأفكار، هو حيز العمل. ليكرجوس، مشرّع إسبارطة العظيم، خلق مجتمعًا مكرسًا بكامله لصناعة المحاربين. وفي جمهورية أفلاطون، لم يُنسب أي شرف للأعمال التي، حسبما ساد من فهم، كان يقوم بها المرتزقة الوضيعون.
علاوة على ذلك، لم تكن الراحة موضوعًا أظهر الفلاسفة كثيرًا من الاهتمام به، لكن تم تناوله من قبل كتّاب "الأدب الجميل" الفرنسيين العظماء (الكتابة التي تستمد قيمتها من أسلوبها وسماتها الجمالية لا الإخبارية). في "تاريخ الراحة"، يقتبس كوربن عن مونتين، باسكال، لاروشفوكو، لابرويير، ديدرو، جوبير، روسو، وآخرين كتبوا عن هذا الموضوع. وقد يكون باسكال الأكثر لذعًا بينهم، لأنه فهم أن البشر يسعون للراحة، ويمقتونها في الآن ذاته. "لا يجد الإنسان شيئًا غير محتمل بتاتًا بقدر أن يكون في حالة من الراحة التامة". كتب باسكال، "من دون عاطفة، من دون عمل، من دون إلهاء، من دون جهد". وأشهر تعليقات باسكال، من دفاتر ملاحظات دعاها "خواطر"، يقول إن "التعاسة الدائمة التي يواجهها البشر تنبع من سبب واحد: أن المرء عاجز عن المكوث هادئًا في غرفته".
بالنسبة إلى مونتين، الراحة هي حيث يوجد الهدوء، والهدوء يعيق الطموح. "المجد والهدوء"، كما يكتب مونتين، "لا يمكن أن يسكنا المسكن ذاته". بالنسبة إلى لاروشفوكو، تؤدي الراحة إلى التقاعد، حيث "يميل الذوق عندها إلى أشياء صامتة عديمة الحس... حالةٌ هانئة للروح، تواسيها على كل خساراتها، وتعمل كبديل لكل الأشياء الجيدة". بالنسبة إلى لابرويير، "الحياة قصيرة ومضجرة، وتُستَهلك بكاملها في التمني؛ نثق بأننا سنعثر على الراحة والمتعة في وقت ما من المستقبل، غالبًا في عمر تكون فيه نعمنا، شبابنا وصحتنا، قد فارقتنا سلفًا". جوبير رأى أنه "أن نكون محرومين من الراحة يعني كثيرًا للروح. الراحة ليست ذات أهمية قليلة بالنسبة إليها. إنها تمثّل حالة تكون فيها الروح حرة على نحو فريد باتباع حركتها الخاصة من دون دوافع خارجية".
من ناحية أخرى، ينظر كوربن في ضريبة الراحة القسرية التي يسببها السجن، أو المنفى. ويذكّرنا أن الراحة كانت تُعد العلاج الأساسي للسل، وكان يوصى بها كذلك كعلاج للعجز الجنسي. في الأزمنة الأحدث، توصف الراحة أيضًا لقيمتها العلاجية عمومًا. يكتب كوربن عن د. شارل فير، الذي في أواخر القرن التاسع عشر "ربط الراحة بإمكانية التقليل من حالات الانتحار، خفض مستويات الجريمة وحتى... التشجيع على الادخار". ومع بدء فقدانها لكينونتها المقدسة، باتت الراحة تصبح أكثر فأكثر جزءًا مما يدعوه كوربن "أخلاقيات دنيوية".
معظمنا يسعى إلى الراحة، ويتخوّف مع ذلك من الضجر المضمّن فيها. وهذا تناقض متعذر الحل على ما يبدو. ولعل المخلوق الوحيد المعروف بحلّه هو القطط. في "اليوميات" خاصته، يكتب جول رونار أن "مثل الهدوء الأعلى يتجلى في قطة جالسة". ويشير إلى أن "قطة تنام عشرين ساعة من أصل أربع وعشرين هي أكثر مخلوقات الله كمالًا"، ثم يتابع ليعلّق على "حيوية القطة التي تبدو كسولة للغاية"، مضيفًا أن "الكسل هو عادةُ نيلِ الراحة قبل أن يبدأ التعب".
"الحق في الكسل" هو عنوان مقالة كتبها بول لافارغ (1842 ــ 1911) الذي تزوج ثاني بنات كارل ماركس الأربعة، والذي يُقال إنه أول شخص استخدم كلمة "ماركسي". لافارغ، بينما كان يكتب في ذروة الثورة الصناعية، مع وجود عمال كثير منهم من الأطفال، يعملون 10 إلى 12، وأحيانًا 15 ساعة في اليوم، رأى أن مثل عبء العمل الثقيل ذاك كان، من كل النواحي، غير ضروري، وحقًا لا يُحتمل. ولأنه لاحظ أن الإنكليز قللوا ساعات العمل في المصانع بمقدار ساعتين في حين ازداد إنتاج البلد، اقترح التخلص من "جنون العمل المسعور" في فرنسا، والأمكنة الأخرى. وبتحفيزه "الأثر المدوخ على الإنتاج الفرنسي... الذي سيُحدثه تحديدُ ساعات العمل بثلاث ساعات"، يختتم لافارغ مقالته بهذه الملاحظة الندائية: "أوه، أيها الكسل، أشفقْ على فقرنا الطويل الأمد! أوه، أيها الكسل، يا أم الفنون والفضائل النبيلة، كن البلسم لمعاناة البشر!".
بالنسبة إلي، لقد حققتُ المثل الأعلى الذي يحدده لافارغ باليوم ذي الثلاث ساعات. فقلما أمضيت أكثر من ذلك في العمل على حاسوبي، محاولًا كتابة مقالات، مراجعات كتب، قصصًا قصيرة. وإن كنت أُمضي وقتًا أكثر من ذلك في القراءة لأجل التحضير لبعض هذا العمل، فإني عندها لا أكون قادرًا قط على اعتبار القراءة عملًا حقيقيًا. إن الكتابة ليست عملًا متواصلًا. أفكار، خواطر، مفاهيم، عبارات، وكلمات مفردة عن الأشياء التي أقوم بكتابتها تخطر لي في أوقات غريبة، أي في كل الأوقات: عند الاستيقاظ، أثناء الاستحمام، وأنا أحضّر وجبة. لذلك، اتخذتُ عادة إبقاء هاتفي المحمول على الطاولة قرب سريري لأخذ ملاحظات عن الأشياء التي تخطر لي في ساعات مختلفة من الليل حول المقالات التي أعمل عليها في ذلك الوقت.
إن أقصى ما حققته من الراحة، حسب اعتقادي، هي الساعات التي أمضيها في مشاهدة التلفاز، معظمها في مشاهدة الأخبار والرياضة. مع هذا، لا أشعر بكثير من الراحة بوجه خاص بعد النهوض من إمضاء الساعات القليلة الأخيرة في الاستماع لتقارير عن كوارث العالم في الأخبار، أو التحديق من دون تحديد في رجال يصطدمون واحدهم بالآخر في ملعب كرة سلة، أو ملعب كرة قدم. إيميت سميث، لاعب سابق في فريق دالاس كاوبويز، زعم أن لعبه كظهير عدّاء في أي يوم أحد في دوري كرة القدم الأميركية مشابهٌ للإصابة بثلاثين حادث سير، وهو ما لا يبدو مبالغة بالنسبة إلي، كما أنه ليس تمامًا نوعَ مخفّفِ الإجهاد الذي يرجوه المتفرج.
الضجر لا يقلقني. لم أشعر بالضجر سوى برفقة المضجرين، إنما ليس وحدي قط. العالم مكان أكثر إمتاعًا، غالبًا أكثر تسلية، من أن يُفسح المجال للضجر. فحين لا أكتب، أو أفكر بما سأكتبه، يثير اهتمامي تأمل غنى الحياة، كوميدياها، ونعم، حزنها.
يمكن للعمل أن يكون شاقًا، أو مهيبًا. وفي كلتا الحالتين، يكون مركز معظم حيواتنا. وعندما يُسحَب العمل، حتى من خلال التقاعد بأكثر الشروط سخاء، يترك فراغًا، فراغًا يملؤه المرء غالبًا بشعور بالوحشة يصل أحيانًا إلى حد التروما (الرضّ النفسي). ورغم أنه لا يقع في ذات الفئة العقابية كالسجن، أو المنفى، يمكن للتقاعد أن يكون شكلًا من أشكال الراحة القسرية. سمعتُ قصصًا عن رجال (خصوصًا رجال) يسعون للعلاج ليتجاوزوا شعور الوحشة المربكة التي سبّبها لهم التقاعد. الراحة، على ما يبدو، يجب أن تكون نتيجة اختيار ذاتي، غير مفروضة أبدًا، لكي تكون مُجدِّدة حقًا.
العمل في حد ذاته يجلب ضروب البهجة والاستياء. بالنسبة إلى عملي، قيل كثير عن صعوبات الكتابة. زعم الكاتب الرياضي ريد سميث ذات مرة أن "الكتابة سهلة. كل ما عليك فعله هو أن تجلس إلى آلتك الكاتبة إلى أن تظهر قطرات صغيرة من الدم على جبهتك". لكني لم أجد الكتابة هكذا قط. وجدت دائمًا أن الكتابة هي فعل اكتشاف، والاكتشاف، بالنسبة إلي، يأتي غالبًا في عملية تأليف الجمل ذاتها، الجمل التي يشكّل قالبها وشكلها غالبًا مفاجأة. إعادة الكتابة، أو مراجعات ما كتبته سابقًا، لها بهجتها الخاصة. زعم إرنست همنغواي أن "النوع الوحيد من الكتابة هو إعادة الكتابة" التي، في عصر أرى أنه من نواح أخرى عصرُ طغيان تكنولوجي، جعلها الحاسوب أسهل بكثير.
أشعر أني محظوظ لكوني قادرًا على الاستمرار بالخربشة في أواخر ثمانينياتي، مبعِدًا التقاعد عني، جاعلًا إياه (متشبثًا بأمل لا رجاء فيه) متاخمًا للموت. عادة، ينقسم الكتّاب بين أولئك الذين ليسوا مضطرين للكتابة حقًا، وأولئك الذين هم في أمس الحاجة لفعل ذلك. أنا أنتمي إلى الفئة الثانية. فإذا مضى أسبوع، أو نحو ذلك، من دون أن أكتب فيه أي شيء، أشعر بأن حياتي بلا جدوى، وأن مكاني في العالم موضع شك. ثمة كثير من الوقت للراحة لاحقًا. المقابر، كما يكتب كوربن، "يشار إليها أحيانًا على أنها حدائق الراحة".
في هذه الأثناء، فيما عدا حيوات المسيحيين المتدينين بجدية، فقد الأحد منذ زمن طويل صلته بالمقدس، وأصبح بمثابة "سبت مقدس" دنيوي. بينما، لسنوات كثيرة، بقي يوم واحد يفصل بينهما. كأوروبي، لا يذكر كوربن القوانين الأميركية الزرقاء (قوانين يوم الأحد). القوانين الزرقاء، التي هي إرث البيوريتانية (التطهّرية) الأميركية، منعت بيع المشروبات الكحولية، أو عروض الترفيه العامة، أيام الأحد في عدد من الولايات والمدن الأميركية. كما منعت أيضًا التسوق عمومًا، مجبِرة معظم المتاجر على أن تبقى مغلقة. وبينما كانت في حيز التنفيذ، أضفت القوانين الزرقاء على يوم الأحد هالة من الركود، من الضجر. "الأحد اللعين الأحد" هو عنوان فيلم من عام 1971 يتطرق إلى هذا الجانب من الراحة القسرية.
يذكر كوربن مرارًا المنتجعات البحرية بوصفها أماكن للراحة. لكن الإجازات على الشاطئ، التي كانت يومًا رائجة للغاية عند الأشخاص الذين في وسعهم تحمل نفقتها، أصبحت أقل رواجًا بسبب الخوف من سرطان الجلد الذي يسبّبه التعرض للشمس لفترة طويلة. كذلك، كان السفر على السفن السياحية يُعد يومًا من راحة منظمة من قبل كثيرين، رغم أن أي شخص قرأ كتاب ديفيد فوستر والاس "شيء يُفترض أنه ممتع لن أقوم به مرة أخرى" من غير المحتمل أن ينطلق في رحلة بحرية، مع كل نشاطاتها المخطط لها، محاضراتها، عربات الطعام اللانهائية، ناهيك عن وقوع المسافر في شرك رفاقه المسافرين الذين أشار إليهم هنري جيمس، في سياق مختلف قليلًا، بقوله "زملائه الحجاج البغيضين".
إن أحد تعاريف الحياة الجيدة هو التوازن المثالي بين العمل المفيد والراحة الراضية. لكن، مايكل أوكيشوت، وهو مفكر جدير بالاعتبار دائمًا، يرى خلاف ذلك. "نقضي حيواتنا ونحن نحاول أن نكتشف كيف نعيش، نكتشف طريقة حياة مثالية، معنى الحياة. لكننا لن نعثر على تلك الطريقة أبدًا. الحياة هي البحث عنها؛ الحياة الناجحة هي تلك المسلَّمة لهذا البحث؛ وعندما نعتقد أننا وجدناها، نكون أبعد ما نكون عنها. نوهم أنفسنا أننا وجدناها، نقنع أنفسنا أنه هنا على الأقل ثمة نقطة معينة يمكن لنا الراحة فيها، بينما أصبحت الحياة حالًا على شفير الموت. فتمامًا كما أن البقاء في حالة حب يتطلب بقاءنا باستمرار واقعين في الحب، كذلك لكي نبقى أحياء، يجب علينا أن نكون باستمرار في حالة سعي لنحيا".
أوكيشوت محق بلا شك. فالطريقة المثالية للحياة قد تكون متعذرة المنال. لكن ذلك لا يعني أنه يُسمح لنا أن نتخلى عن البحث. الهدف مضلِّل، السعي لا نهاية له، والاستمرار فيه طوال الحياة يتطلب ــ نعم، لا بد أنكم خمنتم ــ كثيرًا من الراحة.
(*) جوزيف إبستاين: كاتب أميركي (1937 ــ ). له ثلاثون كتابًا، وسبع عشرة مجموعة من المقالات، وأربع مجموعات قصص قصيرة. حاصل على الوسام الوطني للعلوم الإنسانية، وجائزة ريبالو للأدب. من أحدث كتبه: "الرواية: من يحتاجها؟" (2023)، "لا تقل أبدًا أنك عشتَ حياة محظوظة: خصوصًا إن كنت قد عشت حياة محظوظة" (2024).
رابط النص الأصلي:
https://www.commentary.org/articles/joseph-epstein/rest-work-purpose/