منذ روايتها الأولى "فتاة القطار" (2015، نقلها إلى العربية الحارث النبهان، منشورات الرمل - مصر) أفردت الكاتبة البريطانية بولا هوكينز (مواليد عام 1972) مكانة لنفسها في المشهد الأدبي، لا البريطاني وحسب، بل أيضًا في جميع أنحاء العالم، حيث تصدّرت قائمة الكتب الأكثر مبيعًا لأسابيع عدّة، وتُرجمت إلى 42 لغة، بيع منها أكثر من 20 مليون نسخة، كما تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج تيت تايلور وبطولة إميلي بلانت وإنتاج ستيفن سبيلبرغ، وقد تصدر الفيلم بدوره شباك التذاكر.
جاءت روايتها هذه، التي وضعها النقاد ضمن فئة روايات "الإثارة النفسية" (وأميل كثيرًا إلى ترجمتها بـ "الثريللر")، وكأنها على شكل مجموعة من اليوميات المختلفة التي يكتبها (ويرويها) أشخاص عدّة، وكأنها نوع من قطع "البازل" التي بحاجة إلى تركيب مع بعضها البعض، كي نصل إلى اللوحة النهائية. وهي تسرد لنا فيها أقاصيص أناس "عاديين" يعيشون حياة عادية تتراوح ما بين السعادة والحزن، مثلهم مثل أي إنسان آخر.
لكن بالنسبة إلى راشيل، فتاة القطار، فقد كانت تجد أن لا شيء يُضيء حياة حزينة وكئيبة؛ ومن هذه النقطة يبدأ هوسها، الذي نجده في الرواية عبر سلسلة من الأحداث التي تجعلنا بدورنا نشعر بسلسلة مختلفة من الأحاسيس المتنوعة؛ فالحياة، بالنسبة إليها، ليست نهرًا طويلًا وهادئًا، بل على العكس من ذلك تمامًا.
كانت راشيل تسكن في إحدى ضواحي لندن، وكانت تستقل القطار مرتين يوميًا: صباحًا في الساعة الثامنة و4 دقائق لتذهب إلى المدينة، ومساءً في الساعة الخامسة و56 دقيقة لتعود إلى منزلها. وفي كلّ يوم، حين يتوقف القطار في إحدى المحطات، تلاحظ منزلًا جميلًا أسفل خط السكة الحديد. لقد حفظت هذا المنزل عن ظهر قلب؛ حتى إنها اخترعت أسماء لقاطنيه الذين تراهم خلف النافذة. بالنسبة إليها، هما جيسون وجيس. زوجان تتخيلهما مثاليين، سعيدين. مثلما كانت هي مع زوجها في يوم من الأيام، قبل أن يخونها ويغادرها. لا شيء استثنائيًا في هذا المشهد (المتخيل)؛ أبدًا، مجرد زوجين يحبان بعضهما البعض. حتى صباح اليوم الذي رأت فيه راشيل جيس في حديقتها مع رجل آخر غير جيسون. ماذا يحدث؟ هل تخون جيس زوجها؟
لقد قلب هذا المشهد كيانها، بل لنقل إنه دمّرها، بالأحرى لقد ذكّرتها هذه الرؤية بحياتها هي، بزواجها الذي كانت تعتقد أنه مثالي، لكنه انهار؛ من هنا بدأت وساوسها في تكهّن انهيار حياة هذين الزوجين، تمامًا مثلما حصل لها؛ لذا قررت أن تعرف المزيد عن جيس وجيسون، وتتقصّى عنهما. إلا أنها صُدمت، بعد بضعة أيام، عندما اكتشفت صورة جيس على الصفحة الأولى من الصحف: لقد اختفت الشابة، واسمها الحقيقي ميغان هيبويل، في ظروف غامضة...
ومع وجود هذه الشخصيات، لا تملك رواية "فتاة القطار" أبطالًا روائيين، كذلك ما من شخصيات رئيسية مثالية تقريبًا، إذ لكلّ واحدة منها أسرارها الخاصة، الغامضة إلى حدّ كبير، حيث عرفت الكاتبة كيفية تجسيدها من خلال عيوبها وغرائبها، وماضيها المضطرب أو السعيد.
***
الرواية الثانية التي نُقلت للكاتبة إلى العربية، هي رواية "في عتمة الماء" (وأيضًا عن منشورات الرمل بترجمة لـ الحارث النبهان). وهي تتحدث عن شقيقتين، نيل وجوليا، لنجد فيها مرة أخرى، هذه الأجواء "البوليسية" (فيما لو جاز القول)، أو هذا الجو من "الإثارة"، من دون أن ننسى تلك الحالات النفسية - وبخاصة فيما يتعلق بثقل الماضي الذي يحمله كل كائن بشري- التي تفردها الكاتبة من رواية إلى أخرى.
ففي اليوم السابق لوفاتها، اتصلت نيل بشقيقتها جوليا. إلا أنها لم تكن ترغب في الردّ على الهاتف، وكأنها كانت ترفض ذلك، إذ لم يتحادثا منذ سنين عديدة. وحين عُثر في صباح اليوم التالي على جثة نيل في النهر الذي يجتاز مدينة بيكفورد، مسقط رأسيهما، لم تتردد جوليا في اعتباره انتحارًا. من هنا بدأت تشعر بالرعب من فكرة العودة إلى أماكن طفولتها. ما الذي كان يخيفها في ذلك؟ هل يكمن الأمر في مواجهة مسألة انتحار شقيقتها المزعوم؟ هل كانت تتهرب من عملية رعاية لينا، ابنة أختها ذات الخمسة عشر عامًا، التي لا تعرفها، وذات الحزن المزدوج، إذ كانت قد فقدت أعزّ صديقاتها قبل فترة، بعد أن انتحرت بدورها؟ أم تكمن المسألة في مواجهة هذا الماضي الذي لطالما هربت منه؟ ربما أكثر من أي شيء آخر، النهر هو ما يخيفها، تلك المياه الساحرة والقاتلة في آن واحد، حيث تتوالى المآسي تلو المآسي. لقد كان النهر ذو صيت سيّئ، على الرغم من أن المراهقين يجتمعون على ضفافه في فصل الصيف للعب والاستحمام، إلا أنه ذات يوم غرقت فيه امرأة بعد أن اتُّهمت بممارسة السحر، ومنذ ذلك الحين، تختفي في مياهه النساء. نعم، تموت النساء والفتيات في كثير من الأحيان في "نهر الغرقى" هذا... وإذا كان من الممكن سماع صوت النهر بألف طريقة وطريقة في هذه البلدة الصغيرة، فإنه يتردد صداه أيضًا في منزل نيل، الذي ليس سوى طاحونة، بالإضافة إلى كونه منزل طفولة الأختين، حيث يشكل الماضي جوهر الحكاية بأسرها.
إننا أمام رواية "كورالية"، تتناوب فيها جوليا، وابنة أختها لينا، وشون الشرطي، وزوجته، ووالده، ووالدة الفتاة المتوفاة، وآخرون، على سرد روايتهم للقصة التي تأتي متعدّدة الأوجه، متجذّرة في الماضي، ومثل الجداول الصغيرة، تغذّي في النهاية نهر بيكفورد. تموجات صغيرة في الماء: ضجيج خفيف، ثم دوائر تتجمع في النهاية، أو لا تتجمع... لذا نحن لسنا أمام "رواية بوليسية" مليئة بالتشويق والإثارة، بل أمام رواية مليئة بالقلق المنتشر، والأسرار، والكثير من الأمور غير المعلنة، وسوء الفهم الذي يشكّل هذه الفوضى الجميلة.
***
آخر الكتب التي تُرجمت لـ بولا هوكينز، رواية "بقعة عمياء" (نقلتها إلى العربية سارة طه علام، وصادرة عن منشورات هنداوي الإلكترونية). وأول ما يلفت الانتباه، قصر الرواية (90 صفحة) مقارنة بالروايتين السابقتين (على التوالي 392 و417 صفحة)، مثلما يمكن القول إنها، بشكل عام، ليست بجودتهما، لكن قصرها يدفعك إلى هذه القراءة السريعة، حيث لا تشعر بالتوتر أو القلق. ربما ما يجعل الرواية "عادية" يكمن في أن خلفية الأحداث، التي تتشكل من صورة نمطية شائعة عن مرحلة المراهقة، نجدها عند كثيرين من الروائيين، إذ لم تستطع الكاتبة الخروج أو الابتعاد عنها. أضف إلى ذلك أن شخصياتها هي شخصيات ضبابية وغير مكتملة: ضباط شرطة يتورطون ثم يختفون، إذ لا جديد في تحقيقاتهم ولا أخبار سارة، لتأتي النهاية مجرد نهاية مُشتّتة ومُعقّدة. بمعنى آخر، نجد أنفسنا أمام حبكة متوقعة، وشخصيات لا تثير فينا أي تعاطف معها، وربما كانت تستحق وصفًا أقل سطحية. حوارات تبدو زائفة وكأنها غير ذات صلة.
في أي حال، نقع في هذه الرواية أيضًا على جريمة قتل. فبعد شجارٍ آخر مع زوجها جيك، تُغادر إيدي منزل الزوجية لتنتقل للعيش مع صديقهما المُقرّب، رايان. بعد بضعة أيام، يحدث ما لا يُصدّق: يُقتل جيك، ويُشتبه بـ رايان في تورطه في جريمة القتل. تُضطر إيدي إلى العودة للعيش بمفردها في "منزل الجريمة" - وهو بيت ناءٍ على سفح المنحدرات- في عزلة عن الجميع، مُمزّقة بين الحزن والرعب. وسرعان ما تجد نفسها مجبرة على الإجابة عن أسئلة نيتا، ضابطة الشرطة المسؤولة عن التحقيق. ستحاول المرأتان معًا تفسير ما لا يُمكن تفسيره. فإذا كان كل شيء يُشير إلى رايان، ترفض إيدي تصديق ذلك. ولكن، ماذا حدث في ذلك اليوم؟ من كان ليُريد التخلّص من جيك، ولماذا تحديدًا؟
"الركض، الأكل، النوم": وفي اليوم التالي، تُستعاد هذه الحكاية من جديد. هذا ما أصبحت عليه حياة إيدي. أصبحت تُرهق نفسها طوعًا. تُؤجّل كل شيء. كي لا تُضطر للتفكير. كي لا تُضطر للتفكير في الخسارة، والحزن، والمأساة التي ألمّت بها. لم تعد ترغب في رؤية الديون، والمنزل المهجور، وحياتها اليومية مُبعثرة. لا تريد أن تُضطر للتفكير في موجات الشك التي تُسيطر عليها خلال النهار، والأسوأ من ذلك، في ليالي كوابيسها الوحيدة. لكن الأسئلة تُلحّ عليها؛ الحقيقة لا يُمكن الهروب منها طويلًا، ولكن هل ستتمكن من مواجهتها؟
تشكل الصداقة، والحب، والثقة ركائز الحياة. إنها تُنمي الناس والمصائر. إنها تقود إلى مسارات مثمرة، ودائمًا ما تكون أقوى إذا كان هذا التطور مشتركًا. كان لدى إيدي هذا الثلاثي الفائز منذ مراهقتها: مع صديقها وزوجها لاحقًا، كان لديها كل ما تحتاجه لتزدهر. لقد شكلت... مع رايان وجيك، اتحادًا مثاليًا. لكن، الآن جاءت هذه الجريمة لتُعكر صفو سعادتها. وكلما خدشت تلك البقعة من زاويتها، اتضح أن "الورنيش" يتقشر. بيد أنها كانت ترفض رؤية البقع السوداء، العمياء، لأن بصرها فشل في إدراك ذلك، حرفيًا ومجازيًا. فالمرئي ليس دائمًا قابلًا للتمييز؛ إنه جزء من غرابة الحياة. ولكن، مع تلاشي الثقة في المسافة البعيدة، غرقًا في بحر من الأكاذيب، ومع تراكم الأدلة الدامغة، ماذا تبقى من الحب والصداقة؟ لماذا يفقد ركائزه الأساسية؟ ما الذي يجعله أعمى لدرجة أنه يرفض الواضح؟
"بقعة عمياء" رواية إثارة نفسية، وهي أيضًا لا تشذ - برغم الملاحظات التي تُثار حولها- عن رواياتها السابقة، حيث نجد تلك القضايا الخاصة بالمرأة، كما التي تتناول القضايا الاجتماعية الراهنة، بالإضافة إلى العيوب النفسية لشخصياتها، لتقدّم لنا لحظات نادرة ومؤثرة.