}

"أوديسة" معاصرة بدون "قداسة" أو "أبطال خارقين"

عماد فؤاد عماد فؤاد 25 يونيو 2025
تغطيات "أوديسة" معاصرة بدون "قداسة" أو "أبطال خارقين"
ستيفن فراي

في مشروعه الأدبي الطموح الرامي إلى إعادة سرد الأساطير الإغريقية، والممتد على أربعة أعمال متتالية، يقدّم الكاتب والممثل البريطاني ستيفن فراي قراءة حديثة للأساطير اليونانية، بأسلوب يجمع بين الحكي الشفاهي القديم، وأساليب التهكّم والسخرية المعاصرين.

منذ صدور الجزء الأول تحت عنوان "أساطير" عام 2017، ثم "أبطال" (2018)، و"تروي"... أو "حصان طروادة" (2020)، وصولًا إلى كتابه الأحدث والمتمّم للأجزاء الثلاثة السابقة: "الأوديسة" (2024)، ينحت الكاتب البريطاني ستيفن فراي جسدًا سرديًا متكاملًا، يعيد من خلاله تقديم الميثولوجيا الإغريقية بعيون القرن الحادي والعشرين، بدون أن يفقدها سحرها أو عمقها الرمزي، بل يضيف إليها لمسة إنسانية ذاتية، تجعله كاتبًا وشخصية داخل النص في الآن نفسه، لا مجرد راوٍ لها.

بدأ ستيفن فراي مشروعه في الأساطير منذ كتابه الأول في هذه السلسلة "أساطير" (2017)، وتحديدًا من اللحظة التي سبقت بدء الخلق، من "خاوس"، أو الفوضى، وهي حالة الفراغ الكوني التي سبقت خلق الكون، ومن "أورانوس"، إله السماء في الميثولوجيا اليونانية، بدءًا من هذه اللحظة يصيغ ستيفن فراي ملحمته الخاصة عن نشأة الكون بلغة ساخرة وبناء سردي مشوق، واضعًا نفسه منذ الصفحات الأولى كراوٍ معاصر لهذه الأساطير القديمة.

في الجزء الثاني من هذه السلسلة: "أبطال" (2018)، يتجرأ ستيفن فراي على شخصيات الأساطير ويبدأ في التلاعب معها بمنطق السرد الحديث، ليقدّم سلسلة من الشخصيات البطولية التي تشبه أبطال روايات الجرافيكس المصورة، شخصيات مليئة بالهشاشة والانتصارات الصغيرة، مركزًا على أبطال البشر منهم، أو البشر الذين "يملكون نفَسًا إلهيًا"، من نوعية: برسيوس وهيراكليس وأتالانتا وأورفيوس وأوديب وثيسيوس وجيسون.

كل شخصية من هؤلاء يتم تقديمها من قبل ستيفن فراي في فصل مستقل، مع تباينات عما عهدناه عن قصصهم في الأساطير القديمة، فنجد هيراكليس، على سبيل المثال، ليس فقط البطل الذي أنجز اثني عشر عملًا خارقًا، بل: "رجل محطم، قتل زوجته وأطفاله، وها هو الآن راكع على ركبتيه يطلب الفداء لنفسه، لا النصر"! هنا لا يصمت فراي احترامًا وهيبة للمشهد المؤثر، بل يضيف معلقًا: "إن قتل أسد أسهل من إسكات الوحش داخلنا"!

أما أورفيوس، فتتحول قصته على لسان ستيفن فراي درسًا عن الحب والخسارة والعجز الإنساني، بأسلوب شاعري يذكّر بقصص الحب المعاصرة، خاصة مع تعليقاته التي امتلأت بها الهوامش، والتي يحولها أحيانًا كثيرة إلى توقفات ساخرة على السرد نفسه، ولعلّ براعة فراي هنا لا تكمن فقط في تبسيط المادة المعقدة، بل في تلوينها بلغة أدبية مرحة، وبهوامش وإحالات متعمقة، تنم عن مدى ثقافة الكاتب الشعبية واللغوية، مثلًا، في الوصف الأسطوري لمشهد ولادة أفروديت من زبد البحر، يعلّق فراي قائلًا: "أليس هذا شاعريًا؟ ولدت من زبد البحر! قد تظن أنها إعلان عن عطر"، بهذا النوع من الفكاهة يخترق فراي النصوص بدون أن يزعزع عمقها، بل يضيف إليها بعدًا إنسانيًا جديدًا.

في عام 2020، قدّم ستيفن فراي الجزء الثالث من مشروعه في الأساطير: "تروي" أو "حصان طروادة"، ليفاجأ فيه الكاتب البريطاني القارئ بجرأته، ليس فقط على تفكيك الأساطير والنظر إليها من زوايا مختلفة، بل أيضًا على إعادة بنائها كجسد سردي حي ومستمر، فيدمج بين نصوص "الإلياذة" و"الإنيادة" و"إلكترا"، ليخلق توازيًا بين الأسطورة الخرافية الكبرى للحرب، وبين رواية الخيانة الفردية والغرور الذكوري، ونشاهد شخصيات مثل أخيل وأجاممنون وهيكتور وباريس وهيلين وبريام، تُستعاد كلها بروح سردية معاصرة، لا من حيث اللغة فقط، بل من المنظور الأسطوري نفسه.

في كتابه الأحدث "الأوديسة"، يبدو ستيفن فراي أكثر اندماجًا مع المادة الأدبية والخيالية التي يعالجها، بل وأكثر استعدادًا للانحراف الحرّ عن النصوص الأصلية للأساطير، من دون أن يتخلّى عن شغفه بالدخول في دهاليز التاريخ، أو طرافته الأسلوبية، أو حرصه على مدّ الجسور بين العالم القديم والزمن الحاضر. ونجد أن الشخصية الرئيسية أوديسيوس، بطل هوميروس المخادع، تتحول لدى ستيفن فراي من القائد الذي يتحدى الآلهة والوحوش، إلى شخصية متذبذبة، يقتلها التردد، ما جعل القارئ يرى فيها انعكاسًا للإنسان المعاصر، الغارق والمتورّط في دوامة من الأقدار والأخطاء والاختيارات.




لم يعد أوديسيوس هذا المحارب الرحّالة الذي واجه سايكلوبس وسيرس وسكيلا، بل رجلًا: "يتغير ويهرم كل يوم، ويعود إلى بيته لا كما غادره، بل كظلٍ باهت مما كان عليه". وفي مشهد آخر يصف فراي لحظة خداع أوديسيوس للعملاق بوليفيموس قائلًا: "ما معنى الاسم؟ إذا كان اسمك "لا أحد" يمكنك النجاة من أي شيء"! لتصبح "الحيلة" هنا أحد تحولات الهوية، وتتحول الكذبة إلى وسيلة للنجاة.

وفي فصل لقاء أوديسيوس مع سيرسي، لا يكتفي فراي بإعادة رواية الحدث، بل يضفي على المشهد بعدًا نفسيًا حين يقول: "ربما لم تحوّل سيرسي الرجال إلى خنازير فقط لأنها قادرة على فعل ذلك، بل لأنها كانت تعلم، بطريقتها الرصينة، أن بعضهم كانوا خنازير فعلًا"! بجملة ذكية مثل هذه، تشير إلى التوترات بين السلطة الذكورية والهوية الجندرية، يضع فراي أمام قرائه الشباب مشاكلهم العميقة بشكل طريف وذكي، لا تلغي السخرية فيه المعنى، بل تعمّقه.

صحيح أن فراي كحكاء عظيم يمتلك القدرات الكافية التي تمكنه من تقديم القصص الأسطورية بدون أن يحوّلها إلى محاكاة ساخرة، إلا أن "تدخلاته" المستمرة في أسس القصص الأسطورية صنعت له فريقًا معارضًا يقف ضد أسلوبه هذا، كما أن بعض النقاد وجدوا في أسلوبه "انحرافًا نحو التهكّم المسرحي على حساب التراجيديا الأصلية"، متّهمين إياه بـ"الابتذال وتدجين الوحوش والشخصيات الأسطورية".

وفي الحقيقة، إن تدخلات فراي في النصوص الأصلية للأساطير هي ما صنع له انتشارًا واسعًا لدى الأجيال الجديدة من القراء حول العالم، وقد وصفت أعماله بأنها: "مليئة بالإحالات التي تخرج عن النص بدون أن تفصل القارئ عنه". خاصة وأن فراي لا يقوم بإعادة سرد هذه الأساطير فحسب، بل يُمثِّلها ويعلّق عليها ويُحلّلها، يسخر من شخصياتها ويحزن لمصائرهم. مدركًا كراوٍ محترف كيف يخلق الإيقاع السردي المناسب للأسطورة التي يعيد سردها، تمامًا كما يفعل في عروضه المسرحية أو برامجه الوثائقية.

أسلوب فراي في السرد يمزج بين البنية الملحمية ولغة النثر الخفيفة، يعرف متى يصمت ومتى يسخر، ومتى يفتح نافذة على تعليق ثقافي دقيق، في مقدمة الكتاب، يصرّح: "هذه القصص ليست مقدّسة ولا تُخيف أحدًا، بل تُروى وتُعاد، يُساء فهمها وتُحب"، بهذه الجملة يعبر ستيفن فراي عن عقيدته الأدبية، المؤسسة على التلقّي الحر، وحق القارئ في أن يُخطئ التأويل.

لكن هذا النهج يبقى مختلفا عليه، وله أعداء كثر، وها هي الانتقادات التي وُجهت له سابقًا تطلّ من جديد، خاصة فيما يتعلق بتبسيطه المخل لبعض الحكايات أو التخفيف من قسوتها، في ختام رحلة أوديسيوس، حين يعود إلى إيثاكا ويقتل المنافسين الذين حاولوا الاستيلاء على بيته وزوجته، يلمّح فراي إلى المجزرة التي حدثت بعد مقتل هؤلاء جميعًا بجملة ساخرة: "تم إرسال بعضهم إلى العالم السفلي بأسرع مما يمكننا قول ‘استضافة‘"، التي اعتبرها البعض تلميحًا ذكيًا من كاتب محترف، لكنها أدت إلى طمس العنف المدوّي في المشهد الأصلي، فهل هو اختيار واعٍ للتخفيف من قسوة الأصل؟ أم محاولة لإعادة تأهيل الميثولوجيا من عُنفها لتتلاءم مع حساسية القارئ المعاصر؟ ستيفن فراي لا يجيب على هذه الأسئلة، بل يترك قارئه متأرجحًا بين السحر والريبة.

في  جديده "الأوديسة"، يبحر ستيفن فراي في التناقض، في الكذب بوصفه وسيلة للنجاة، في الحنين المشوب بالعنف، في الإنسان الذي يبحث عن ذاته ضمن أهوال هذا العالم الضخم الذي يجهل عنه كل شيء، وأحيانًا ما يقلب المنظور الذي عهدناه عن الشخصيات الأسطورية، وعلى سبيل المثال، يظهر ستيفن فراي بينلوب زوجة أوديسيوس بوصفها امرأة حصيفة وليست مجرد زوجة وفية فقط، بل كمخططة ماهرة فوق ذلك: "إذا كان أوديسيوس ماكرًا، فإن بينلوب أكثر منه مكرًا"، جملة كهذه تقول الكثير، وتختصر أيضًا معركة الصبر والتكتيك التي خاضتها بينلوب طيلة عشرين عامًا.

رغم الشعبية الكبيرة لكتب ستيفن فراي، وصدارتها الدائمة لقوائم الأكثر مبيعًا، إلا أنه لا ينجو تمامًا من النقد الأكاديمي، إذ يرى البعض أن مزجه المستمر بين الحكاية والنقد الاجتماعي يفرّغ النص الأصلي من غموضه، ويحمّله ما لا يحتمل من إسقاطات معاصرة، وأن تعليقاته الفكاهية تُنتج قراءة سطحية، لكن فراي لا يدّعي الموضوعية، بل المتعة، صوته في الكتب المسموعة يُعيد الأساطير إلى أصولها الشفاهية، ويحوّل الكتاب إلى حدث درامي بحد ذاته.

في المقابل، يجد كثيرون أن مشروع فراي هو ما تحتاجه الأساطير الآن؛ أن تُروى بصوت حيّ، وأن تُنقذ من عتمات الأكاديميا ودراساتها العقيمة، وأن تُعاد إليها روحها الأصلية. الشفاهية، ربما تكمن هنا قيمة مشروع ستيفن فراي الحقيقية، في اعترافه الصريح بأنه لا يقدّم إلينا "حقائق"، بل "حكايات"، ولأنه لا يقدّس الـ"حقائق"، فالأفضل أن "يحرّفها" عن أصلها... كي تعيش.

يقول ستيفن فراي في مقابلة مع "الغارديان" البريطانية: "الأساطير اليونانية تُخاطب كل جيل بطريقة مختلفة. إنها مرآة، وليست كتاب قواعد"؛ جملة أخرى تلخّص لنا فلسفة فراي في إعادة سرده الأساطير اليونانية القديمة، إذ لا ينظر إلى الميثولوجيا كدستور أو نص مقدس، بل كمرآة نرى فيها هشاشتنا، وكتابًا نتعلم منه الكثير عن الطبائع البشرية، إلى الدرجة التي نستطيع معها القول إن هذه الرباعية الأسطورية التي قدّمها ستيفن فراي على مدى الأعوام السابقة، لم تكن فقط مجرد إعادة سرد للأساطير الإغريقية القديمة، بل مشروع ثقافي كامل لإعادة ربط الماضي بالحاضر، "الأوديسة" لدى فراي ليست فقط رحلة أوديسيوس بطل هوميروس المعروف منذ مئات السنين، بل أيضًا رحلة فراي نفسه في الأساطير وأسرارها التي تنتظر إعادة اكتشافها من جديد.

(*) ستيفن فراي: ممثل وكاتب بريطاني وُلد عام 1957، بدأ حياته الأدبية بروايات الجريمة والتشويق مثل "الكاذب" (1991)، و"فرس النهر" (1994)، كما كتب سيرته الذاتية قبل أن يتحوّل إلى مشروعه الطموح في إعادة كتابة الميثولوجيا الإغريقية. قدم برامج وثائقية بارزة مثل "الحياة السرية لمرضى الاكتئاب الهوسي" و"ستيفن فراي في أميركا"، كما ساهم بشكل كبير في كسر الصور النمطية حول المرض النفسي والهوية الجندرية. عرف فراي أيضًا بعلاقته الوثيقة مع المسرح، وتجسيده لشخصيات أدبية معقدة بأسلوبه الكوميدي الساخر، أما في كتاباته الصحافية أو الأدبية، فيدمج بين الثقافة العالية والحس الشعبي، ما جعله صوتًا فريدًا في الساحة الثقافية البريطانية، من أشهر كتبه ضمن مشروعه لإعادة سرد أشهر الأساطير اليونانية: "أساطير" (2017)، "أبطال" (2018) و"تروي" (2020) قبل أن يختمها بكتابه الأحدث "الأوديسة" (2024).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.