}

في السردية الفلسطينية الحاضرة

مصطفى بيّومي 27 يونيو 2025
ترجمات في السردية الفلسطينية الحاضرة
موت واسع النطاق من الجو، وتواطؤ غربي مع الإبادة(Getty)
ترجمة: لطفية الدليمي

عقب ما يزيد بقليل عن العشرين سنة على وفاته عام 2003، لم يزل إدوارد سعيد، الرجل المعروف بأبحاثه الرائدة، ودفاعه السياسي الذي لا يعرف الكسل والمهادنة، وموهبته الموسيقية الراقية، وذوقه الرفيع في الأزياء، مصدر إلهام متسامٍ للأجيال الجديدة. في أيامنا هذه يبدو أن كلمات سعيد وحضوره يُلبيان حاجة مُحددة ومُشخصة حركها الهجوم الإسرائيلي على غزة بما يقارب حملة مُدروسة ومُستمرة وممنهجة حد أن محكمة العدل الدولية وصفتها بأنها إبادة جماعية. ليس من اليسير معرفة الكيفية التي ينبغي بها للمرء أن يُواجه مثل هذا الشر، ويبدو أن الكثيرين يلجأون إلى سعيد كدليل مرجعي لهدايتهم حتى بعد غيابه قبل ما يزيد على العقدين من الزمن.
لم يكن العثور على مقاطع فيديو قديمة لإدوارد سعيد على وسائل التواصل الاجتماعي أمرًا شاقًا في أي وقت؛ لكن منذ هجمات حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 انتشرت أفكار سعيد واقتباساته ومقاطعه الأرشيفية على نطاق واسع عبر مجموعة من الكتب والمجلات والمنصات.
بعدما علقت جامعة كولومبيا Columbia فروع الحرم الجامعي لمنظمتي "طلاب من أجل العدالة في فلسطين Students for Justice in Palestine" و"صوت يهودي من أجل السلام Jewish Voice for Peace" في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي (2023، المترجمة)، أعلن موقع "بيجيون بوست Pigeon Post" عن سخريته الصارخة من جامعة كولومبيا، معقل إدوارد سعيد لما يقرب من 40 عامًا، بكلمات سعيد ذاتها. جاء في الموقع، وبنبرة مشبعة بسخرية ليس بمستطاع أحد تغافلها: "كتب إدوارد سعيد ذات مرة: دورنا هو توسيع مناطق النقاش، لا وضع حدود أمامها وفقًا لما تبتغيه السلطة السائدة". هذا هو السبب الذي دفع جامعة كولومبيا لتعليق عضوية منظمتي "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" و"صوت يهودي من أجل السلام".
جيري ليم Gerrie Lim، صاحبة مدونة "بيجيون بوست" المشار إليها، أتبعت ذلك بفيديو توضيحي على تك توك لسعيد يكشف فيه عن المدى الواسع لضروب النفاق الذي تمارسه جامعة كولومبيا اليوم، إذ كانت تدعم حق سعيد في حرية التعبير بشأن القضية الفلسطينية؛ لكنها الآن تُقيد حرية الطلاب في التعبير عن الموضوع ذاته.
في يناير/ كانون الثاني 2024 نشرت المجلة الأكاديمية "سوشيال تكست Social Text" نصًا مُقتضبًا (كتبه ستيفن شيهي Stephen Sheehi) عن اللحظة التي ألقى فيها سعيد حجرًا على برج مراقبة إسرائيلي فارغ من الجانب اللبناني من الحدود اللبنانية- الإسرائيلية.
شهد كتاب "الأعمال المختارة لإدوارد سعيد، 1996-2006"، وهو كتاب يضم أهم كتابات سعيد، والذي شاركت في تحريره مع أندرو روبين Andrew Rubin (كلّ منا طالب سابق لإدوارد) زيادة في المبيعات بلغت أحد عشر ضعفًا منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
في منصة إكس (تويتر سابقًا) عادت محادثة انعقدت وقائعها عام 1986 بين سلمان رشدي وإدوارد سعيد في معهد لندن للفنون المعاصرة إلى الظهور في منشورات مُختلفة. يصف سعيد في هذه المحادثة المستعادة لقاء مع بنيامين نتنياهو، السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة حينذاك. يكتب سعيد في هذا الشأن: "دُعيت إلى مناظرة تلفزية مع السفير الإسرائيلي، لكن نتنياهو لم يرفض الجلوس معي في الغرفة نفسها فحسب بل أيضًا أراد التواجد في مبنى مختلف حتى لا يُلوثه وجودي!!". طالب نتنياهو بهذا الفصل الغريب تحت لافتة الادعاء بأن سعيد، بسبب هويته الفلسطينية، أراد قتله. يعلق سعيد على هذه الواقعة بقوله إن "الوضع كان عبثيًا تمامًا".
وُلد إدوارد سعيد لعائلة فلسطينية أسقفية (طائفة مسيحية ضمن البروتستانتية، المترجمة) ثرية في القدس عام 1935، والتحق بكلية فيكتوريا في القاهرة قبل أن يكمل دراسته الإعدادية بمدرسة راقية في ماساتشوستس. تخرج سعيد من جامعتي برينستون وهارفارد، وكان عازف بيانو كلاسيكيًا بمستوى الحفلات الموسيقية المميزة، كما كان باحثًا أدبيًا معترفًا به حتى قبل نشر كتابه "الاستشراق" Orientalism (1978)، وهو الكتاب الذي غير مشهد النقد الثقافي والدراسات الثقافية على مستوى العالم بأكمله، وأطلق مباحث دراسية جديدة (مثل دراسات ما بعد الاستعمار Post-Colonial Studies)، وتحدى التمثلات Representations الغربية للشعوب غير الغربية. فضلًا عن هذا أصبح سعيد أشهر أميركي فلسطيني في الولايات المتحدة، حيث اعتاد على الكتابة والظهور بانتظام في وسائل الإعلام للدفاع عن حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم. في عام 1977 انتُخب سعيد عضوًا مستقلاً في المجلس الوطني الفلسطيني، وهو ما يشبه البرلمان الفلسطيني في المنفى. استقال سعيد من المجلس عام 1993 احتجاجًا على المفاوضات السرية والمضمون المدمر لاتفاقيات أوسلو التي رأى أنها لن تؤدي أبدًا إلى تقرير المصير الفلسطيني بل ستحول القيادة الفلسطينية - ببساطة- إلى "ذراع إسرائيل" التنفيذي القسري في تدعيم الاحتلال. حينها كان سعيد معظم الأحيان وحيدًا في تحليلاته، وأصبح ناقدًا لاذعًا لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات. منذ ذلك الحين برهن التاريخ بما لا يقبل أي شك مصداقية أطروحة سعيد وتحليلاته السياسية.

جامعة كولومبيا كانت تدعم حق إدوارد سعيد في حرية التعبير بشأن القضية الفلسطينية؛ لكنها الآن تُقيد حرية الطلاب في التعبير عن الموضوع ذاته (Getty)

تُرجمت أعمال سعيد إلى عشرات اللغات، ومن بين كتبه ما صار لاحقًا عناوين كلاسيكية مثل "قضية فلسطين The Question of Palestine" و"الثقافة والإمبريالية Culture and Imperialism" ومذكراته "خارج المكان Out of Place". كما لم تزل الكتب التي صدرت بعد وفاته تُنشر على نحو لم ينقطع، بما في ذلك ديوان شعر جديد بعنوان "أغاني كائن إنساني شرقي Songs of an Eastern Humanist"، وثمة كتاب قادم بعنوان "سعيد عن الأوبرا Said on Opera"، سيُنشر هذا الشهر (شباط/ فبراير 2024، المترجمة).
توفي سعيد في 24 سبتمبر/ أيلول 2003 بعد صراعه البطولي مع نوع نادر من سرطان الدم رافقه اثني عشر عامًا.




حتى قبل السابع من أكتوبر ظل ميراث سعيد راسخًا بين الفلسطينيين. في عام 2022 نشرت مكتبة "أضواء المدينة City Lights" في سان فرانسيسكو ديوان "أشياء قد تجدونها مخبوءة في أذني Things You May Find Hidden in My Ear"، وهو ديوان شعر للشاعر الفلسطيني الشاب مصعب أبو توهة، مؤسس مكتبات إدوارد سعيد في غزة. يضم الديوان قصيدة بعنوان "إدوارد سعيد، نوعم تشومسكي، وثيودور أدورنو في غزة"، والتي جاء فيها:
غبار يدب على أطراف أصابعه في مشهد جماعي
بعد الانفجار.
...
إدوارد سعيد (خارج المكان)،
ثانية:
كُتُبه تتساقط من رفوفي
على زجاج النافذة المهشم
فلسطين أيضًا خارج مكانها:
خريطتها
تسقط من جداري...

تشير القصيدة بوضوح إلى هجوم (إسرائيلي) سابق؛ ولكن منذ بدء الهجوم الأخير على غزة دمرت إسرائيل أو ألحقت أضرارًا جسيمة بما لا يقل عن 13 مكتبة، وقتلت ما لا يقل عن ستة أمناء مكتبات؛ الأمر الذي دفع بملايين آخرين إلى النزوح من منازلهم. أبو توهة نفسه نزح مؤخرًا إلى القاهرة، ومن هناك كتب لي: "عبد إدوارد الطريق لمزيد من المثقفين والكُتاب لقول الحقيقة للسلطة (الإسرائيلية)، وهو أمر بالغ الأهمية الآن في ضوء الخطاب الصهيوني اللاإنساني والعنصري المتواتر تجاه الفلسطينيين".
للأسف، هذا الخطاب المُهين للإنسانية ليس جديدًا، ويبدو أنه لن يتهافت قريبًا. كتب سعيد عام 1979: "العرب هم المجموعة الإثنية (العرقية) الوحيدة تقريبًا التي يُتسامح مع ارتكاب الأفعال الشنيعة بالضد منها، بل ويُشجع عليها، في الغرب". قد يبدو حينذاك هذا الادعاء مُبالغًا فيه؛ لكن ما عسانا نقول اليوم لو تذكرنا كيف نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" مؤخرًا مقال رأي افتتاحي Op-Ed (مقال الرأي الافتتاحي هو المعبر عن السياسة التحريرية للمطبوعة تجاه القضايا الراهنة، المترجمة) يُسيء إلى مدينة ديربورن Dearborn الأميركية العربية بولاية ميشيغان باعتبارها مأهولة بإرهابيين لا يعرفون إبداء أدنى مظاهر الندم تجاه أفعالهم، وكيف كتب توماس فريدمان Thomas Friedman مقالاً في صحيفة "نيويورك تايمز"، في اليوم نفسه، يُشبه فيه العرب والإيرانيين بالحشرات!!. مع أن الأمر ليس مستحيلًا للأسف؛ إلا أن من العسير - بالتأكيد- تخيل هذا المستوى من التعصب المُعلن تجاه أية مجموعة إثنية أخرى من غير العرب في وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية. الغريب في الأمر أن أيًا من الصحيفتين لم تتراجع عن محتواها.
الخطاب المتعصب أمر يعاني منه العرب والمسلمون والفلسطينيون اليوم؛ لكن تقييد حريتهم في التعبير أمر آخر. يقول تيموثي برينان Timothy Brennan، مؤلف كتاب "أماكن العقل Places of Mind"، وهو سيرة ذاتية حديثة لإدوارد سعيد: "قراءة إدوارد سعيد بعد السابع من أكتوبر 2023 تجعلنا نشعر بنوع من الإحباط. إنه إحباط ناجم عن عدم وجود سعيد هنا للرد على الرقابة الواضحة التي تُمارس في جميع الصحف اليومية الرئيسية في الولايات المتحدة. كان بمستطاع سعيد أن يُحدث اختراقًا ويجد من يُصغي إليه، في وقت يشهد فيه الكثيرون حول العالم لأول مرة حقيقة المشروع الصهيوني على أرض الواقع".
من أسباب لجوء الناس الدائم إلى سعيد قدرته على صياغة موقف أخلاقي بحساسية تاريخية مُتطورة. وَصَف سعيد الشعب الفلسطيني بأنه "ضحايا الضحايا"، مُظهرًا كيف أصبح الفلسطينيون جزءًا لا يتجزأ من التاريخ اليهودي الأوروبي حتى وإن كانت "للحياة والثقافة والسياسة الفلسطينية ديناميتها الخاصة، وفي نهاية المطاف أصالتها الخاصة". كانت هذه الخطوة نموذجية لفكره، حيث كان التواصل أكثر أهمية من الانقسام في نهاية المطاف. كان سعيد يتمتع بقدرة على بناء التحالفات من خلال جاذبيته السياسية وسحره العاطفي، وهي قوة جذبت الكثيرين (وصفت الروائية المصرية- البريطانية أهداف سويف نفسها ذات مرة بأنها "واحدة من أصدقاء إدوارد المقربين البالغ عددهم 3000!!").

إدوارد سعيد، الرجل المعروف بأبحاثه الرائدة، ودفاعه السياسي الذي لا يعرف الكسل والمهادنة (Getty)

لم يستمع الناس إلى سعيد لخبرته فحسب، بل لأنه، على عكس نتنياهو، كان مستعدًا للتحدث إلى الجميع بمن فيهم اليهود الإسرائيليون. وكما أوضحت نجلاء سعيد، الكاتبة المسرحية والممثلة وابنة إدوارد سعيد: "لطالما اعترف والدي بمعاناة اليهود ودافع عن سبيل [للفلسطينيين والإسرائيليين] للعيش معًا بحقوق متساوية مع الحفاظ على ثباته في انتقاده لإسرائيل".
غير أن سعيد لم يقتصر على الاعتراف بمعاناة اليهود، بل أدرك أيضًا الضرر الجسيم الذي قد ينجم عن إساءة استخدامها. "أتفهم تمامًا، قدر استطاعتي، خوف معظم اليهود من أن أمن إسرائيل يُمثل حماية حقيقية من محاولات الإبادة الجماعية المستقبلية للشعب اليهودي"، يوضح سعيد في كتابه "قضية فلسطين" الصادر عام 1979. ثم يمضي في توضيح أطروحته: "ولكن... لا سبيل إلى حياة مُرضية يكون همها الرئيسي منع تكرار الماضي. بالنسبة للصهيونية أصبح الفلسطينيون الآن بمثابة تجربة ماضية مُتجسدة في صورة تهديد راهن. والنتيجة هي أن مستقبل الفلسطينيين كشعب مرهون بهذا الخوف، وهو ما يُمثل واقعًا كارثيًا عليهم وعلى اليهود".
كل هذا يجعل سعيد يبدو معاصرًا للغاية، كما هي الحال مع الطريقة التي ربط بها سعيد الحركة الوطنية الفلسطينية بنضالات أخرى ضد الاستعمار في جميع أنحاء العالم. كتب سعيد في كتابه "قضية فلسطين": "كل دولة أو حركة في الأراضي المستعمرة سابقًا في أفريقيا وآسيا اليوم تتعاطف مع النضال الفلسطيني، وتدعمه بالكامل، وتفهمه. في كثير من الأحيان هناك تطابق واضح بين تجارب الفلسطينيين العرب على يد الصهيونية وتجارب أولئك السود، والصُفر، والسُمر الذين وصفهم إمبرياليو القرن التاسع عشر بالدونية في المراتب الإنسانية".
لم يزل القراء الأصغر سنًا ينجذبون بشكل خاص إلى هذه الرسالة العالمية المناهضة للعنصرية. أوضحت ليم، من موقع "بيجيون بوست" المنوه عنه فيما سبق، أمر هذا الانجذاب تجاه سعيد قائلة: "تحليل سعيد للغرب، وبخاصة نهجه تجاه الشرق كممارسة للسلطة والسيطرة، واضح في الكثير من المحتوى الذي أراه على صفحتي "For You" على تك توك هذه الأيام". وأضافت: "يتزايد عدد الشباب الذين يشككون في أميركا والغرب وافتراضاتنا الثقافية الراسخة. تنتقد الأجيال الشابة تحيز وسائل الإعلام الغربية، مثل صحيفة ’نيويورك تايمز’. هناك تعطش لسرديات تأتي مباشرة من الفلسطينيين أنفسهم، مثل سردية سعيد. ربما كان سعيد سيحظى بشعبية جارفة على تك توك. تخيلوا صفحة نصفها تحليل ونصفها الآخر محتوى بيانو. أو ربما يتحدث وهو يعزف على البيانو. سيستمتع الناس بذلك. أنا موقنة في ذلك". كان برينان أيضًا يعتقد أن سعيد سيُسعده الاهتمام الذي يحظى به الآن على وسائل التواصل الاجتماعي، وأن سعيد كان دائمًا مهتمًا برواية القصص متعددة الوسائط، مستشهدًا بمقال سعيد المصور "بعد السماء الأخيرة After the Last Sky" كمثال.




ولكن ماذا لو كان السبب وراء جاذبية سعيد الخالدة، على ما يبدو، لا تختص بمواهبه وشجاعته الأخلاقية بل بالإنكار المستمر (من جانب الاحتلال الإسرائيلي، المترجمة) للسعي الفلسطيني التواق للحرية؟ ما كتبه سعيد قبل 35 عامًا قد يبدو وكأنه كُتب بالأمس، مثل هذا المقتطف من "رسالة مفتوحة إلى المثقفين الأميركيين اليهود"، التي دبجها عام 1989:
"لا أفهم كيف يمكن للمثقفين الأميركيين تجاوز الأدلة المتكاثرة والملموسة على الأفعال الشنيعة لإسرائيل لمجرد أن "أمن" إسرائيل يتطلب ذلك. قصف مستشفى، استخدام النابالم (القنابل الحارقة) ضد المدنيين، إرغام الرجال والفتيان الفلسطينيين على الزحف أو النباح أو الصراخ قائلين (عرفات ابن عاهرة)، كسر أذرع وأرجل الأطفال، حبس الناس في معسكرات اعتقال صحراوية بدون مساحة كافية، أو صرف صحي، أو ماء، ومن غير ما تهمة قانونية، استخدام الغاز المسيل للدموع في المدارس: كل هذه أفعال مروعة، سواء أكانت جزءًا من حرب ضد "الإرهاب" أو لاستكمال متطلبات الأمن المُدعاة. إن عدم الإشارة إليها، أو عدم تذكرها، أو تغافل قول: (انتظر لحظة: هل يمكن أن تكون هذه الأفعال ضرورية من أجل الشعب اليهودي؟) أمر لا يمكن تفسيره، ولكنه أيضًا تواطؤ غير مصرح به مع مرتكبي هذه الأفعال. إن الصمت الذي يفرضه المثقفون على أنفسهم، والذين يمتلكون، في حالات أخرى وفي بلدان أخرى، قدرات نقدية رفيعة المستوى، أمر يدعو إلى الحيرة".
قد تعتقد عند قراءة هذه السطور أن سعيد نبي حقيقي. كيف يمكن لكلماته التي تعود لعقود أن تبدو وكأنها مُستلة من عناوين صحف هذا الصباح؟ في الحقيقة ليس الأمر أن سعيد كان ذا بصيرة خارقة، بل أن تهجير الفلسطينيين يمضي بوتيرة حثيثة، وأن الاحتلال الإسرائيلي باقٍ، وأن العدالة للفلسطينيين ما زالت حلمًا بعيد المنال. إن كان هناك شيء قد تغير فهو حجم العنف وليس مبدأ العنف ذاته.
ذكرتنا قراءة إدوارد سعيد بضرورة الوقوف في وجه الظلم في كل مكان، واكتشاف موقف أخلاقي يُترجم إلى أفعال، وتغليب الشك على التحزب. "لا تضامن قبل النقد"، كما كان سعيد يُحب أن يقول، تمامًا كما كان يُكثر من الحديث عن فلسطين باعتبارها "المعيار" لحقوق الإنسان على نطاق عالمي في يومنا هذا.
إذا كانت الأجيال الجديدة تكتشف إدوارد سعيد فإنها في سياق ذلك تكتشف أيضًا كيف يُمكن لقضية فلسطين أن تُرشد المبادئ الأسمى لهذه الأجيال. كما أن هذه الأجيال ذاتها باتت تشهد ما لا قدرة لها على احتماله: موت واسع النطاق من الجو، وتجويع كسلاح حرب، وتواطؤ غربي مع إبادة جماعية مُحتملة، وشعب تُساء معاملته بما يتجاوز حدود احتمال أي كائن بشري عاقل. إنها حقائق كثيرة يصعب استيعابها، وهي تُقود إلى درس واحد عن فلسطين لا يُمكن لأحد، ولا حتى إدوارد سعيد ذاته، أن يُعدك له حقًا. فلسطين ستُنقذ روحك؛ لكنها ستُحطم قلبك أيضًا.


(*) مصطفى بيومي: أستاذ اللغة الإنكليزية في كلية بروكلين بجامعة مدينة نيويورك CUNY. مؤلف كتابين حائزين على جوائز: "كيف تشعر لو كنت مشكلة؟: أن تكون شابًا وعربيًا في أميركا How Does It Feel To Be a Problem?: Being Young and Arab in America" و"هذه الحياة الأميركية المسلمة: تقارير من الحرب على الإرهاب This Muslim American Life: Dispatches from the War on Terror". 

(*) الموضوع المترجم أعلاه منشور في صحيفة "غارديان" البريطانية في باب حرب إسرائيل على غزة Israel – Gaza War بتاريخ 15 شباط/ فبراير 2024.

العنوان الأصلي للموضوع المنشور باللغة الإنكليزية هو:

Edward Said Seems Like a Prophet: 20 years on, there's hunger for his narrative

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.