}

جيمس تارتاغليا: عن ضرورة الفلسفة في حياة بلا معنى

جورج كعدي جورج كعدي 28 يونيو 2025
تغطيات جيمس تارتاغليا: عن ضرورة الفلسفة في حياة بلا معنى
جيمس تارتاغليا
وظيفة الفلسفة في نظر الفيلسوف والموسيقيّ البريطاني جيمس تارتاغليا هي البحث في مسألة معنى الحياة. معنى الحياة هو حجر الزاوية في الفلسفة، حتى لو اكتشفت في نهاية المطاف، وبعد طول تمعّن وتأمّل، أن الحياة بلا معنى، وأن العدم هو "الحقيقة"، على ما يخلص تارتاغليا فيلسوفًا عدميًا معاصرًا واسمًا مهمًّا في سماء الفكر الغربيّ الحديث، مجهولًا حتى الآن في ثقافتنا العربية ونكاد لا نعثر على دراسة واحدة بلغتنا حول فكره وفلسفته، وهذا دافع إضافي لإضاءتي هنا.
جيمس تارتاغليا من دعاة الفكر العدمي المعاصر، يطرح كتابه "الفلسفة في حياة بلا معنى: نظام عدمية، وعي وواقع" Philosophy in a Meaningless Life: A System of Nihilism, Consciousness and Reality طريقة منهجية لكيفية إعادة تنشيط الفلسفة نفسها من خلال تقبّل انعدام معنى الحياة، واصفًا العدمية بأنّها حافز للسعي النشيط والمستمرّ نحو الفكر الفلسفي. ويجادل بأنّ المسألة الوحيدة التي توحّد الفروع العملية والنظرية للفلسفة هي مسألة معنى الحياة. رغم أنّ هذا السؤال يُنظر إليه بكونه محرجًا في الأوساط الفكرية المعاصرة، وبكونه غير علميّ ومرتبطًا بالدين. يريد تارتاغليا إعادة تركيز الاهتمام على الجوانب الفلسفية لمعنى الحياة، مقدّمًا إجابة لا لبس فيها عن السؤال القديم: "ما معنى الحياة؟"، وتلك الإجابة تكمن بالنسبة إليه في العدمية. ليس للحياة هدف أو معنى نهائيّ. ويصرّ على أنّ ذلك ليس بالأمر السيئ. العدمية كما يتصوّرها تنكر وجود أهداف وغايات نهائية ذات معنى، وتقوّض بالتالي إمكان أن تكون مشاريع الحياة البشرية بحدّ ذاتها ذات معنى في المنظور الأوسع. لكي تكون الحياة ذات معنى في هذا المنظور، لا بد من وجود إطار من الأهداف تُوجَّه نحوه جميع أهداف حياتنا الدنيوية وتبرَّر من خلاله. ويجب أن يوجد إطار الأهداف هذا بدوره ضمن إطار أوسع ليكون ذا معنى، وبالتالي، يجب أن يوجد هذا الإطار الأوسع ضمن إطار أكبر، وهكذا... يستتبع ذلك إمّا وجود إطار سياقيّ نهائيّ قائم بذاته، بلا سبب ذي معنى، أو عدم وجود إطار سياقيّ نهائيّ ذي معنى على الإطلاق. في كلتا الحالتين، تفتقر الحياة في المنظور الأوسع إلى الهدف النهائيّ، وبالتالي إلى المعنى، ولا إجابة نهائية عن سؤال: لماذا نسعى وراء مشاريع حياتنا المختارة؟ عند النظر إلى الواقع بكلّيته، نجد أنّه لا معنى له في النهاية ولا مبرّر ولا أساس. يقول تارتاغليا: "هكذا، عند التأمّل في حقيقة الوجود، نصل إلى أنّ المعنى الذي نكوّنه لحياتنا ينبغي أن يكون بلا أساس في نهاية المطاف، إذ لا يمكن أن تكون لأفعالنا غاية في المخطط الكبير للأشياء، في حال كان المخطط الكبير للأشياء بلا غاية وبالتالي ليس مخطّطًا على الإطلاق".




تلك هي "حقيقة" العدمية بحسب تارتاغليا: "لا شيء علينا أن نفعله البتة". هذه "الحقيقة" أفرزت على مرّ التاريخ مجموعة متنوعة من "استراتيجيات التكيّف المضلّلة" بما في ذلك الدين والوجودية والنزعة الإنسانية ونظريات النسبية وما بعد الحداثة... إلخ. كلّها تدّعي التغلّب على مشكلة انعدام المعنى، أو حلّ هذه المشكلة من خلال طرائق اجتماعية أو تعبّدية أو نفسية مختلفة، فيما لا تعدو كونها ردود فعل ضد العدمية وضدّ الواقع البسيط: الحياة البشرية بلا معنى. لا شيء يمكن أن يغيّر هذه الحقيقة. العدمية ليست أمرًا يمكن التغلّب عليه أو تجاهله أو إنكاره... أو حتى قبوله، فنظرية تارتاغليا المثيرة تقول بأننا لو قبلنا "حقيقة" العدمية فإنّ لا مفاعيل حقيقية يرتّبها هذا القبول في ما يتعلق بكيفية عيش حياتنا. مسألة العدمية هي "مملّة" من الناحية العملية. ليست لها آثار أخرى سوى إمكان تحرير غير العدميين من معتقداتهم الزائفة والتزاماتهم بغايات نهائية وهمية. فالعدميّ المستنير حرّ في فعل ما يشاء، غير ملزم بتوجيهات أو قواعد سلوكية محددة. وطالما كانت العدمية هي الحقيقة على الدوام، فإن الحياة تستمرّ مثلما كانت دائمًا بمجرّد وعي هذه الحقيقة.
إنّ عالمنا الزمانيّ والمكانيّ، الذي يسمّيه تارتاغليا "العالم الموضوعيّ"، تتجاوزه التجربة الواعية، وبالتالي فإنّها ليست جزءًا من عالم الزمان والمكان. العلم نفسه لا يدرس سوى "العالم الموضوعيّ" داخل المكان والزمان. ولا يستطيع أن يدرس ما هو خارجهما. يستخدم تارتاغليا تشبيهًا مكثّفًا بالأحلام لإثبات وجهة نظره، فعندما نحلم يقدّم إلينا وعينا عالمًا موضوعيًا (عالم الأحلام) الذي لا وجود فيه لعقولنا/ أدمغتنا، ولكنه يعتمد على عقولنا/ أدمغتنا في وجوده الموضوعيّ. بذلك، يوجد عالم الأحلام داخل الوعي، ومن ثمّ يتجاوز الوعي عالم الأحلام، خارج حدود الزمان والمكان "المحلوم" بهما. العلاقة نفسها تنطبق على جميع العوالم الموضوعية، أي تلك المرتبطة بالزمان والمكان (وليس الأحلام فحسب). لو صحّ ذلك فإنّه يحلّ ألغازًا ميتافيزيقية تقليدية كلغز العقل والجسد. فإذا كان الوعي هو دائمًا "خارج" عالم الزمان والمكان الموضوعيّ، فإنّه لا مكان له في هذا العالم، وسيكون من غير المنطقي تفسير التفاعلات السببية بين الأجسام المادية والوعي، فالتجربة الواعية تتجاوز العالم الموضوعي، أي العالم المادي.
يشبه الخطّ العام الذي يتّبعه تارتاغليا في فلسفته ما يجادل به كانط في "نقد العقل المحض"، بل وأقرب إلى ما يجادل به شوبنهاور في مؤلّفه الأساسيّ العظيم "العالم إرادةً وتمثّلًا". ومع ذلك، ينأى تارتاغليا بنفسه عن كانط، ففي حين أنّ الفيلسوف الألماني الكبير "يعطي الأولوية للعقل" فإنّ الفرضيّة الترنسندانتاليّة المتسامية تعطي الأولوية للعالم الموضوعي.



لا يلتزم تارتاغليا بأيّ ادعاء محدد حول الطبيعة الأساسية للواقع الترنسندانتاليّ، فقد يكون مكوّنًا من العقل أو من المادة أو من أي شيء آخر. لا نستطيع أبدًا معرفته لأنه يتجاوز على الدوام كل نوع من التوصيف الموضوعيّ. ومع أن الفكر الدينيّ يحاول (بطريقة غير مشروعة، بحسب تعبير تارتاغليا) تناول طبيعة الواقع المتسامي، فإن الفلسفة هي المجال الذي يُعنى به عقلانيًا ومنهجيًا، وبالتالي مشروعًا. وبما أن الأسئلة الفلسفية الكبرى حول طبيعة الواقع ومعنى الحياة تُعدّ همومًا إنسانيةً دائمةً لا يعالجها العلم ولا الدين على نحو كافٍ، يخلص تارتاغليا إلى أنّه ينبغي أن تبقى الفلسفة مجالًا دراسيًا ذا أهمية فريدة. رغم أنّ الفلسفة لا تقدّم إجابات نهائية ولا تؤثّر في الحياة عمليًا ولا تنبئ باكتشاف إلّا القليل عن طبيعة الواقع الحقيقية، غير أنه يجب الاستمرار في استخدام الفلسفة لإشباع الرغبة الإنسانية الفطرية في استكشاف العالم الترانسندنتالي بالطريقة الوحيدة الممكنة.
يأسف تارتاغليا لإهمال الفلسفة الأكاديمية المعاصرة عنصر الخيال إلى حد بعيد. حتى التجارب الفكرية، التي يصعب تصوّر المناقشات الفلسفية الحديثة من دونها، باتت موضوع شك أكاديمي. ما يهيمن هو النثر الموحّد الجاف والمختصر والتقني، وفقًا لنموذج المنشورات العلمية الأكاديمية. ويرى أنّ "علمية" الفلسفة الحديثة ترتكز على المنظور المادي السائد، ما يُضعف قدرة الأدبيات المعاصرة على جذب الناس. فالعديد من المواضيع الفلسفية الأكثر أهمية بالنسبة إلى غير المتخصصين، مثل معنى الحياة والإرادة الحرة ووجود الروح والقيم الأخلاقية، لا تُعدّ جديرة بالمناقشة ضمن ما يسمّى بالفلسفة "العلمية". الميتافيزيقا التي يتبنّاها تارتاغليا ويدافع عنها هي "مثالية الفضاء الداخلي"، فكل ما نتعرّف إليه ونواجهه ونقدّره في نهاية الأمر هو، في جوهره، تجاربنا. تلك التجارب تحصل في فضائنا الداخلي، أي في وعينا. كل ما هو حقيقيّ بالنسبة إلينا يحدث في هذا الفضاء الداخليّ، وتعتمد نوعية حياتنا على ما يحدث فيه. لا يعتمد مستقبل البشرية، بحسب تارتاغليا، على استكشاف الفضاء الخارجي المادي، بل على فضائها الداخلي. هنا للفلسفة دور مهمّ، ليس عبر تطوير الفلسفة الأكاديمية بحد ذاتها، ولا تأثيرها في المجتمع، بل إلهام الناس بتعميق فهمهم لأنفسهم وللآخرين، وتطوير فضائهم الداخلي فلسفيًا لكي يتمكنوا من خوض غمار عالم يزداد تعقيدًا وتطويرًا تكنولوجيًا، بوعي ومسؤولية. إذا أردنا أن يكون المستقبل جديرًا بالعيش فيه، لا بدّ من أن يكون فلسفيًا.




المثالية الميتافيزيقية، في نظر تارتاغليا، لا تلتزم بالآلهة أو بالأرواح، بل بالأسبقية الوجودية للتجربة الواعية فقط. لا شك في أنّ المؤمن يكون أفضل حالًا مع المثالية المادية (وجود إله من مادة فكرة غريبة). تقول المثالية الميتافيزيقية، غير المادية، إننا جزء من كون قائم على تجربة محض واعية، وإن الإيمان بالوجود المادي للصخور والحصى يمكّن البشر من تحديد اتجاهاتهم في ذاك المحيط من الإحساس. الصخور والحصى وسيلة لفهم التجربة. إنها غير موجودة بشكل مستقل، لكنّ طبيعة التجربة تُظهرها كذلك. يقول الماديون إن الصخور والحصى موجودة بشكل مستقل، لكنهم يواجهون مشكلة في كيفية التعبير عن تجربة الوجود التي لن يجدوا حلًا لمشكلتها، وسيتأرجحون بين خيارين لا معنى لهما: إمّا القول بعدم وجودها، أو أنها تنشأ على نحو غامض من الدماغ. في حين أن المثالية الميتافيزيقية تخبرنا أننا نعيش في واقع يتكوّن من كل ما نهتم به حقًا: التجربة. إن التجربة هي كل ما يهمّنا حقًا: الحب، الرضى، الإثارة، الاهتمام... وليس في ذلك أيّ أنانية. إن انجذابنا إلى التجربة منطقي جدًا لأننا كائنات تجريبيّة. تتجه أفكار الناس نحو الفضاء الخارجي، أي خارج ذواتهم (عبر الدين والإيمان والتفكير في عالم الما بعد المادي، إلخ) فتختفي التجربة تمامًا من المشهد. لكن بعد توقفهم عن التفكير في "الواقع" وعودتهم إلى حياتهم اليومية تعود التجربة إلى بؤرة اهتمامهم الرئيسية.
نظرة تارتاغليا إلى موضوع التجربة في زمننا مثيرة للاهتمام وفريدة في شكل خاص. يقول إنّ ثمة تراجعًا في تفكير البشر فلسفيًا، بينما تتطوّر قدراتهم التكنولوجية بسرعة عالية جدًا. لكنّ المفارقة أن التطور التكنولوجي يسعى وراء التجربة، فقد انتقلنا مثلًا بسرعة فائقة من التجربة السلبية للتلفزيون إلى التحكّم النشط في التجربة غير الطبيعية التي تتيحها ألعاب الفيديو وتطوّر الواقع الافتراضي. استحوذت الآلات الافتراضية (VR) على المزيد والمزيد من حياتنا وتسيطر تمامًا على الأجيال الشابة. إنها آلات تجربة خاصة مستقلة يفيد البشر من مزاياها ويحاولون التعامل مع سلبياتها، في انتظار التطور التكنولوجي الكبير الآتي مع الذكاء الاصطناعي. قد ينسّق الجنس البشري تطوّره التكنولوجي الذي أصبح شديد التركيز على تحسين التجربة الفردية، بحيث يسود الحب والجمال والبهجة والذكاء، مع تناقص الكراهية والقبح والملل والغباء. وحين نعي أننا كائنات تجريبية، فإنّ هويات مثل الجنس والعرق والهوية تبدو أقل أهمية، إذ ندرك عندئذ أننا جميعًا متشابهون، ونجد أن التعاون في ما بيننا أسهل لأننا أصبحنا جنسًا فلسفيًا بامتياز، منبهرًا بالتجارب التي يعيشها.
إنها لعمري أوّل عدمية متفائلة أقع عليها معجبًا في فلسفة جيمس تارتاغليا، التي تطلّ من شرفة الأصالة الفكرية على عصر الحداثة والتكنولوجيا، وتلمح فيهما بعض الإيجابيات فيما يتعلق بمستقبل البشرية.

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.