}

شذرات لنهاية الحياة: "فن الاحتضار" للقرن الواحد والعشرين

جاستن هوكينز 4 يونيو 2025
ترجمات شذرات لنهاية الحياة: "فن الاحتضار" للقرن الواحد والعشرين
جدارية "موت العذراء" (1469) للفنان الإيطالي فيليبو ليبي

ترجمة: سارة حبيب 

من السهل عليّ أن أتخيل ما لم أره بأمّ عيني: أنّ جدتي، المعروفة بعدم إذعانها في الحياة، لم تبدِ أي سكينة في الاحتضار؛ أنه رغم أنها معمَّدة وكانت تتناول القربان المقدس طوال حياتها، فإن تلك النعم المستمرة على مدى الحياة لم تمنحها الراحة على ما يبدو مع اقتراب الموت. وعندما أصبح واضحًا لجميع الموجودين حول سريرها في المستشفى أنّ الموت يقترب، أنّ احتجاجاتها الملحّة بأنها ستعود إلى المنزل قريبًا كانت واهمة وبلا معنى، قال والدي: "ماما، إنها النهاية. هل لنا أن نمضي هذه اللحظات في إعادة التأكيد على حب واحدنا للآخر والتطلع إلى لقاء سعيد من جديد في المستقبل؟". لكنها رفضتْ. سوف تذهب إلى المنزل، قالتْ؛ لا إلى مدينة سماوية بل إلى ضواحي فيلادلفيا. لم تكن لتسلّم روحها إلى يدي الله أو أي أحد آخر. عنيدة في الحياة كانتْ، متعنتة في الموت. لكنّ الموت، بالطبع، كان غير مبالٍ بعنادها، وأخذها على أية حال.

كان ثمة على الدوام طرق كثيرة للاحتضار (1) على نحو سيء. في أواخر القرن الثامن عشر، كافح الكاتب الإنكليزي الورع صموئيل جونسون بشراسة وبتجديف ضد موته، آمِرًا جرّاحه، بعيدًا عن كل أمل ومنطق، أن يحفر أعمق في جلده بمبضع ليُخرِج بالقوة مزيدًا من النزيف الذي لا معنى له. كان هذا في ذلك الحين. والأمور أفضل الآن بالتأكيد؟ لا. ليس وفقًا للاهوتي وعالم الأخلاق ترافيس بيكيل الذي يناقش في كتابه الجديد "فاعلية مثقَلة: اللاهوت المسيحي وأخلاقيات نهاية الحياة" (2024) أن مجموعة واسعة من التقنيات الحديثة الخاصة بنهاية الحياة انتهت فحسب إلى تزويدنا بالمزيد من طرق "التخلص من متاعب هذه الحياة الفانية"(2). وما يدعوه بيكيل "فاعلية مثقَلة" هو على وجه الخصوص حالة حديثة تنجم عن اجتماع عاملين. أولًا، لأننا أُعطينا خيارات أكثر من أي وقت مضى، نحن مجبرون على الاختيار أكثر من أي وقت مضى. قبل قرن لا أكثر، على سبيل المثال، اكتفى شخص مريض بمقابلة الموت ببساطة عندما أتى إليه. الآن، على الشخص المريض أن يختار بين الخضوع لعمليات طبية باضعة (تجتاح الجسد بالمباضع) إلى أبعد حد، أو ربما أن يسرّع الموت من خلال ما يُدعى انتحارًا بمساعدة الطبيب. وحتى إذا رفض المرء كلا هذين الطريقين، فذلك في حدّ ذاته خيار له عواقب ومعانٍ أخلاقية. وبينما كان شخص عجوز يتلاشى ببطء نحو الموت يُستخدم يومًا كمثالٍ ربما عن التصميم والكرامة الهادئة حتى النهاية، يختار ذلك الشخص اليوم أن يستنزف بعناد خزائن الرعاية الصحية ويزيد أقساط التأمين التي يدفعها بقيتنا، بينما بوسعه بدلًا من ذلك أن يجرّد نفسه من أهلية الحياة ويوفّر العبء على المجتمع.

السمة الثانية للفاعلية المثقَلة هي السلطة المتناقصة للتقاليد التي ساعدت يومًا في توجيه اختياراتنا. وهذا تحّسرٌ سمعناه قبلًا. في كتابه "حلم الحياة المضطرب" (1993)، لاحظ دانيال كالاهان أن "الطب الحديث يُجبرنا أكثر فأكثر على القيام باختيارات"، حتى حين يكون المجتمع الذي نقوم فيه بتلك الخيارات هو مجتمع "ليست فيه استجابة عامة للموت، أو طقوس مشتركة، أو أعراف واضحة تخص العون، الأسى، والحزن". لذلك، ناقش كالاهان أن المجتمع الحديث يحتاج إلى "معنى جماعي مشترك" للموت؛ الموت الذي لا يمكن أن تضمنَ معناه "عضويةٌ في مجموعة دينية أو إثنية هي ذاتها تقدم تأويلًا للموت وطريقة لفهمه".

رغم أن التقاليد الدينية فقدت معظم سلطتها الثقافية في أواخر العصر الحديث، لا يزال بوسعنا استعادة شذرات منها لندعّم بها خرائبنا، على حد تعبير ت. س. إليوت. ولا يحاول بيكيل هنا أن يستعيد، أو يعبّر عن، استجابة "عامة" للموت تكون مقبولة لمجتمع تعددي. بالأحرى، يتطلع إلى اللاهوت والممارسات الخاصة بتقليد ديني واحد. فمن عملِ عالم اللاهوت الأخلاقي الدومينيكاني سيرفيه بينكيرس، الذي درس شخصية الشهيد في نصوص الكتاب المقدس بالإضافة إلى كتابات آباء الكنيسة وكتابات العصور الوسطى، يستعيدُ بيكيل "روحانية الشهادة". لأن الشهيد لا يعجّل الموت من خلال الانتحار ولا يهرب منه خوفًا، روحانية الشهادة تبلبل التمييز الحديث بين الاستجابات الفاعلة والاستجابات السلبية (غير الفاعلة) للموت، ويبقى الشهيد "شاهدًا أمينًا" حتى النهاية، كموضوع للاضطهاد الديني، الشهيد مثال متطرف، من غير ريب. لكنْ، كما ناقش أوغسطين من هيبّو، قصص الشهداء يمكن أن تنفع كأدوات توجيه لأولئك الذين يواجهون ظروفًا أكثر دنيوية. المسيحي "يمكن أن يكون شهيدًا في سريره"، كما يكتب بينكيرس، "إذا بقي مخلصًا للمسيح في وجه المرض والموت، رافضًا التعاويذ والخرافات التي يقدمها بعضهم إليه".

كذلك، يمدح بيكيل عمل اللاهوتي السويسري الإصلاحي كارل بارث، الذي سعى للحصول على إجابة لأسئلة أزلية تخص العدالة الإلهية، ضمن المشهد الفكري المتبدل للقرن العشرين. مثل أثناسيوس، بابا الإسكندرية في القرن الرابع، الذي زعم أن خلق البشرية من العدم جعل لديها ميلًا نحو العودة إلى العدم. توصيف كارل بارث لـ"محدودية تسم المخلوقات" يؤكد أن الموت استلزام طبيعي للمحدودية البشرية، حتى وإن كانت المخلوقات البشرية الآثمة تختبر الموت بوصفه المكان الذي يتلقّون فيه حكم الله ورحمته. لذلك، على الإنسان أن يتعلم "أن يرى الموت بوصفه حدًّا وضعه الله- في حين يؤكد في الوقت ذاته على الحياة بوصفها هبة أعطاها الله".

يتتبع بيكيل مسارات الفكر الكاثوليكية والبارثية هذه في عمل ستانلي هاورواس؛ لاهوتي أمضى معظم مسيرته وهو يفكر بالكنيسة بوصفها جماعة للإصلاح الأخلاقي. في أفضل أحوالها، مثل تلك الجماعة تشكّل أفرادها وفقًا لما يدعوه هاورواس "أخلاقيات التجرد من الملكية"؛ أخلاقيات تشكّلت، من جهة، بقبول الحدود التي تسم المخلوقات، ومن جهة أخرى، بالتضحية والنصر اللذين يمثلهما الشهيد النموذجي، يسوع الناصري. لا تشجّع هذه الأخلاقيات التجرّد من ملكية "الأشياء" فحسب، كما يكتب بيكيل، بل كذلك التجرّد من ملكية "حاجتنا القهرية لنكون مسيطرين".

نرى هنا نقد بيكيل لا للطب الحديث فحسب بل للحداثة ذاتها، هذا المشروع الحضاري لتوسيع السيطرة والتحكم لتشملا كل مجال في الحياة. ذلك الخلل - تلك الرغبة الجامحة بأن نكون مسيطرين- تصبح حادة أكثر في نهاية الحياة؛ تجربة مفزعة لا بسبب ترقب الألم والمعاناة في المقام الأول، بل بسبب الخوف من فقدان السيطرة.

يناقش ترافيس بيكيل في كتابه "فاعلية مثقَلة: اللاهوت المسيحي وأخلاقيات نهاية الحياة" أن مجموعة واسعة من التقنيات الحديثة الخاصة بنهاية الحياة انتهت فحسب إلى تزويدنا بالمزيد من طرق "التخلص من متاعب هذه الحياة الفانية"


بوسع الكنيسة المسيحية، وفقًا لبيكيل، أن تقدم طريقة بديلة لمقاربة التجرد من الملكية الأقصى هذا بواسطة تلك الممارسات القديمة التي تشمل الصلاة، التعميد، والقربان المقدس. تقاوم كل من هذه الضوابط أخلاقيات "السيطرة والتحكم" من خلال تنمية "فاعلية استقبالية". والوعد الذي يتصوره بيكيل لأولئك الذين يتبعون مثل تلك الممارسات الكنسية وعد جميل: "مع الاقتراب أكثر فأكثر من الموت - العملية التي نحسن صنعًا بتذكرها، والتي تحدث طوال حيواتنا- سيكون أولئك الذين شكّلتهم هذه الممارسات المسيحية معتادين على التخلي عن حياتهم لله. لقد فعلوا ذلك في معموديتهم. وتشكّلوا على هيئة الجسد المكسور للمسيح، المسيح الذي بذل نفسه لأجل البشرية كلها، من خلال القربان المقدس. لقد شهدوا على لقاء الإنجيل مع الموت من خلال إعلان كلمة الحياة".

مع هذا، ثمة أسباب عملية للشك بمعقولية هذا الوعد. يزعم بيكيل أن "أناسًا شكّلهم القربان المقدس ليس بوسعهم إنكار فنائيتهم وهشاشتهم لزمن طويل". لكن يبدو، في الحقيقة، أن العكس هو الصحيح. فلعل إحدى الحقائق المزعجة أن المتدينين يستفيدون أكثر من أشكال عناية طبية تدخلية، باضعة، وعقيمة بالنتيجة، في نهاية حيواتهم. وجدت إحدى الدراسات التي نشرتها دورية (جاما) للطب الباطني أن "المرضى الذين أبلغوا عن تلقيهم دعمًا روحيًا عاليًا من جماعات دينية كانوا أقل ميلًا لدخول دار العجزة وأكثر ميلًا لتلقي إجراءات ‘نهاية حياة‘ عنيفة، واحتمال موتهم في وحدة عناية مشدّدة أكبر". كذلك، وجدت دراسة أخرى نشرتها "المجلة الأميركية للطب" عن مرضى السرطان المتقدم أن "استخدامًا أكبر للتأقلم الديني الإيجابي كان مرتبطًا بتفضيل متزايد لإجراءات بطولية... ودرجات أقل من إتمام طلب ‘عدم القيام بالإنعاش‘...، إتمام وصية الحياة (3)...، وتسمية وكيل للرعاية الصحية". أيضًا، وجدت دراسة تلوية "تبني على دراسات أخرى" نُشرت في صحيفة "العناية الداعمة والتلطيفية للألم" أن المسيحين في هولندا كانوا "أقل ميلًا لرفض الإنعاش في ‘نهاية الحياة‘ مقارنة بالمجموعات الأقل تدينًا"، وأنه في ويسكونسُن "كان الكاثوليك والبروتستانت المتشددون أكثر ميلًا لتأييد المعالجة المطيلة للحياة عند الإصابة بمرض عضال مقارنة بأقرانهم غير المتشددين". 

هذه ميتات سيئة خضعت لتدخلات طبية مبالغ فيها، خضع لها أناس يبدو أنهم تشكّلوا بفعل الكثير من الممارسات التي يوصي بها بيكيل لأجل الاحتضار على نحو جيد. يقول بيكيل متأسفًا إنه "عندما يتخذ تجنب الموت والمعاناة أهمية قصوى، على سبيل المثال، يجب أن تُستخدم كل ميزة تكنولوجية في المعركة ضد المرض والموت". ويعزو هذا إلى "الهوية الحديثة". لكن الكثير من المسيحيين الذين يستفيدون من هذه الميزات التكنولوجية يقولون إنهم يؤمنون بأن الله يفعل المعجزات استجابة للإيمان وأن رفض علاج نهاية الحياة العنيف سيكون تجليًا لانعدام الإيمان بالله. يبدو، إذًا، أن ضرورة فعلِ كل ما بوسعنا لإطالة الحياة - ما يُزعم أنه مُميِّز للسيطرة والتحكم الحديثين- قد زُوّدت بتبرير لاهوتي مسيحي. يوحي هذا بأن الهوية "الحديثة" والتشكيل "المسيحي" متداخلان بشكل متبادل، لا كلّان متعارضان. باختصار، ليس ثمة جماعةُ تشكيلٍ نقية يتعين العثور عليها. ربما يجب علينا أن نكف عن البحث عن واحدة.

في الحقيقة، يمكن أن توجد إرشادات الاحتضار على نحو جيد داخل الكنيسة وخارجها. أوغسطين، المتشكك العظيم بالفضيلة الوثنية، ورغم كل انتقاداته لروما، أخبر قراءه أن "يتأملوا بعناية وجدّية في الأمثلة الرومانية". وفي مقدمتها وضع ماركوس ريجولوس، الجنرال الروماني الذي وفى بوعده لآسريه القرطاجيين بأن يعود إليهم ويواجه الإعدام على أيديهم. إنه بعدم قتل نفسه أو النكث بوعده من خلال البقاء مع الرومان، "عاد غير هيّاب إلى نهايته الفظيعة". وقبوله الفاضل للموت - بعدم الإسراع نحوه بيديه ولا الهرب منه من خلال الرذيلة- هو ما جعل أوغسطين يزعم أنه "بين كل رجالهم الجديرين بالثناء، المشهورين بفضيلتهم الرائعة، لا يمكن للرومان أن يأتوا بمن هو أفضل من ريجولوس".

كذلك، البحث عن توجيهات أو حلفاء خارج حدود الكنيسة هو ضرورة للسياسات الديمقراطية التي هي بطبيعتها ائتلافية. ليس المسيحيون وحدهم، في آخر الأمر، من وقف ضد التشريع المتزايد للانتحار بمساعدة الطبيب في أوروبا وأميركا الشمالية، بل تحالفُ مجموعات الدفاع عن حقوق المعاقين، المجموعات المؤيدة للحياة، وآخرين، كثير منهم من اليسار السياسي. وأيًا تكن التزامات المرء اللاهوتية أو السياسية، من الممكن أن نرى أن مثل تلك السياسات العامة تخلق بنية فاسدة تحفيزية من شأنها أن تدفع الناس الهشين إلى نهاية مأساوية وغير عادلة. وهذا يدل، من بين أشياء أخرى، على أن مجتمعنا يكون في أقوى حالاته عندما تنضم الجماعات الدينية، التي قوّاها نوع من التشكيل الأخلاقي الذي يكتب عنه بيكيل ببلاغة كبيرة، إلى الآخرين لتحمي أولئك الأكثر هشاشة وتعتني بهم.

 

هوامش:

(1) "فن الاحتضار" (باللاتينية: Ars moriendi، بالإنكليزية: The Art of Dying): يشير التعبير إلى ثلاثة معان متداخلة: 1. أي نقاش روحاني أو لاهوتي موسع معدّ ليحضّر المسيحيين للموت؛ 2. نوع من الكتب نشأ في القرن الخامس عشر تتضمن عناوينها غالبًا كلمات مثل "فن" أو "طريقة" تُستخدم كدليل إرشادي لإدارة الفترة الأخيرة من حياة المرء؛ 3. نصان لاتينيان مترابطان مجهولا المؤلف يقدمان نصائح حول "الاحتضار على نحو جيد" تبعًا للتعاليم المسيحية في القرون الوسطى، وهما عبارة عن نسخة مطولة كُتبت عام 1415، وأخرى مختصرة عام 1450.

(2) "التخلص من متاعب هذه الحياة الفانية": ترجمة شبه حرفية للعبارة الإنكليزية shuffling off this mortal coil التي تعني مجازًا "الموت"، وهي عبارة شكسبيرية استخدمها هاملت في مونولوجه الشهير "أكون أو لا أكون".

(3) وصية الحياة: وصيّة تحدد الإجراءات الطبية التي يريد الشخص أن تُتّخذ في حالة مرضه مرضًا يجعله غير قادر على التواصل أو غير مستقر عقليًا، لا سيما فيما يتعلق باتخاذ، أو عدم اتخاذ، إجراءات إطالة الحياة.

(*) جاستن هوكينز: باحث في مجال الأخلاقيات البيولوجية في جامعة كولومبيا، حاصل على الدكتوراه من جامعة ييل عام 2024. يركز بحثه الحالي على أهمية نظرية الإعاقة في العناية السريرية، والمسائل القانونية والفلسفية المتعلقة بلجان الأخلاقيات الحيوية الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية. 

رابط النص الأصلي:

https://hedgehogreview.com/issues/after-neoliberalism/articles/fragments-for-the-end-of-life

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.