يستعد جيل الشباب الألماني للاحتفال بذكرى ولادة الكاتب الألماني إيريك ماريا ريمارك (22 يونيو/ حزيران 1898 ــ 25 سبتمبر/ أيلول 1970)، فالشباب هناك ينظر إلى ريمارك باعتباره ممثلًا لـ "الجيل الضائع"، والناطق باسمه، وخاصة في روايته "كلّ شيء هادئ على الجبهة الغربية"، التي كتبها عام 1929، كواحدة من أشهر الروايات المناهضة للحرب في القرن العشرين.
في شبابه، درس ريمارك إبداع كتّابٍ كبار، مثل: هرمان هيسّه، وشتيفان زفايغ، وتوماس مانّ، وفيودور دوستويفسكي، ومارسيل بروست، ويوهان فولفغانغ غوته. إبان الحرب العالمية الأولى، استُدعي ريمارك عام 1916 لأداء الخدمة العسكرية، فأُرسل إلى الجبهة الغربية، حيث أصيب هناك بجروح في مناطق مختلفة من جسده جعلته يقضي ما تبقى من زمن الحرب متنقلًا بين المشافي العسكرية. بعد تسريحه من الجيش عام 1919، عمل ريمارك معلمًا، لعامٍ واحد فقط، وراح يتنقلّ من مهنة إلى أُخرى: عمل في محلٍ تجاري، ومحاسبًا، وبائعًا لتماثيل القبور، وعازفًا للأورغ في أيام الآحاد، وأعطى دروسًا في العزف على البيانو، وهذه الذكريات وجدت لها مكانًا في روايته "المسلّة السوداء".
في عام 1924، انتقل ريمارك إلى برلين، وتزوج من إلزا يوتا زامبونا، الراقصة السابقة. جعل ريمارك من يوتا، التي عانت طويلًا من مرض السلّ الرئوي، نموذجًا لعدد من بطلات رواياته، ومن ضمنها شخصية (بات) في رواية "الرفاق الثلاثة". انفصل الزوجان بعد مرور أربعة أعوام على زواجهما، ليعودا إلى الارتباط عام 1938 كي تتمكن يوتا من مغادرة ألمانيا وتحصل على إذن الإقامة في سويسرا، حيث يقيم ريمارك (الزوج). في ما بعد، غادر الاثنان إلى الولايات المتحدة الأميركية. أمّا الطلاق فوقع رسميًا فقط عام 1957، من دون أن يتوقف ريمارك عن دفع النفقة لزوجته، بل أوصى لها بمبلغ 50 ألف دولار أميركي.
شهرة ريمارك
أثناء مشاركته في معارك الحرب العالمية الأولى، شهد ريمارك بنفسه مأساة أزهقت، عبثًا، أرواح مئات الآلاف من الشباب. سجّل الكاتب تلك التجربة المريرة في رواياته، التي جاءت صرخة مدوية ضد عبثية الحرب، وكارثية نتائجها على جميع الأطراف المشاركة فيها.
في رواية "كلّ شيءٍ هادئ على الجبهة الغربية"، وصف قسوة الحرب من وجهة نظر هاينريش غيربر، الجندي الذي لم يبلغ العشرين من عمره. بعد فترةٍ وجيزة، سقط هاينريش قتيلًا في إحدى المعارك على الجبهة الغربية، فألقيت جثته على كومة من الجثث جهزت بعد تعريتها للدفن في عجالةٍ، في سياق عملية اعتيادية تُمارس بهدف جمع الملابس وإعادة تدويرها ليلبسها جنود آخرون يأتون إلى الميدان، منتشين بروح الوطنية والبطولة، وليصطدموا هم أيضًا بالحقيقة المرّة، حيث لم يجدوا في الخنادق سوى الجوع والبرد القارس والموت. تحكي الرواية أيضًا انعدام قيمة الإنسان في مواجهة آلة الحرب التي يديرها القادة من مقراتهم الفخمة، حيث ينعمون فيها بالدفء، يتناولون أطايب الطعام، ويشربون أفخم الخمور.. بينما يتقاسم الجنود في ساحات المعارك الخبز العفن مع الفئران التي لا تتوقف عن نهش أجسادهم أحياء وأمواتًا. فور صدورها، أثارت الرواية جلبة صاخبة، وترجمت إلى 26 لغةٍ، وبيع منها خلال عام واحد أكثر من نصف مليون نسخة. بعد عامٍ، أي عام 1930، أنتجت هوليوود فيلمًا يحمل عنوان الرواية ذاته من إخراج لويس مايلستون. وفي الوقت نفسه، أثارت الرواية حنق الاشتراكيين القوميين بقيادة جوزيف غوبلز، الذين لم يتأخر ردهم على الرواية، فقاموا بتنظيم احتجاجاتٍ جماهيرية، في محاولة لمنع العرض الأول للفيلم في برلين.
في عام 1931، رشّحت الرواية للحصول على جائزة نوبل للسلام، ما دفع اتحاد الضباط الألمان إلى الاحتجاج على هذا الترشيح، متذرعين بأنّ الرواية تلطّخ سمعة الجيش الألماني وجنوده.
تراوحت ردود فعل النقاد والكتاب تجاه الرواية بين الإعجاب الشديد والنقد اللاذع. ففي حين رأى شتيفان زفايغ أنها مجرد "رواية كاملة"، كتب توماس مانّ في يومياته أنّه يمنح ريمارك "سعفة عدم الاكتمال". وذهب بعضهم بعيدًا فاتهموا الكاتب بسرقة الرواية من صديقٍ له قتل على جبهات القتال. ومع تصاعد النازية في البلاد، بلغت الاتهامات ذروتها، حيث اتهم الكاتب بخيانة الشعب الألماني، وبأنّه عميل مختلّ.
في عام 1932، أنهى ريمارك رواية "بات"، التي سميت في ما بعد بـ"الرفاق الثلاثة"، وحصل لقاءها على مبلغ 20 ألف مارك... بعد تنصيب هتلر مستشارًا في يناير/ كانون الثاني عام 1933، غادر ريمارك البلاد نهائيًا. ودفع تزايد الممارسات النازية في الحياة الألمانية اليومية الكاتب ليوثق تلك الفترة القاسية في روايته "الرفاق الثلاثة"، حيث يحكي عن مصائر ثلاثة رفقاء عايشوا الحرب معًا، ثم التقوا بعد انتهائها، لينشئوا ورشة لإصلاح السيارات وقد تفاقمت الأزمة الاقتصادية الخانقة التي مهدت لصعود النازية. بأسلوبه السردي الممتع، يستعرض ريمارك حياة هؤلاء الرفاق، ويتابعهم في حياتهم اليومية، في سكنهم، وعملهم، وفي لقاءاتهم الصاخبة، مستعرضًا أوضاعهم الاقتصادية، ومواكبًا هزائمهم، واضعًا القراء في أجواء صعود النازية من دون أن يقوم بأية تعليقات.
في سبتمبر/ أيلول عام 1937، التقى ريمارك الممثلة مارلين ديتريش، التي سبق له أن تعرّف عليها في ألمانيا. نشأت بين الاثنين قصة حبّ، وأصبحت مصدر عذاب دائمٍ للكاتب. كان ريمارك عاشقًا بلا أمل، ومع ذلك أخرج معبودته (بوم) إلى الضوء من خلال شخصية (جان مادو) في روايته "قوس النصر"، التي أنهاها في عام 1945. بعد عقدٍ من الغياب، عاد ريمارك إلى أوروبا، وهناك وقع ضحية مرض (مانيير)، عانى خلاله حالة اكتئابٍ شديد. شخص الأطباء جذور المشكلة في معاناته خلال طفولته. في عام 1951، تعرف ريمارك على الممثلة الهوليودية بوليت غودار، الزوجة السابقة لشارلي شابلن، والتي ساعدته في العودة، نوعًا ما، إلى الحالة الطبيعية والتعافي من الكآبة، كما قال الكاتب بنفسه. بعد شفائه، أكمل ريمارك رواية "شرارة الحياة"، وترجمها إلى الإنكليزية. وفي عام 1954، ظهرت رواية "وقت للحياة ووقت للموت"، المكرّسة لبوليت غودار، ليواصل من ثمّ نشاطه الإبداعي حتى وفاته عام 1970.