جدل لا ينتهي في الجزائر بسبب رواية "هوارية"
مرّ شهر تموز/ يوليو الفائت في الجزائر ساخنًا، لا حديث فيه إلا عن رواية "هوارية"، التي أثارت جدلًا حادًّا، بل يمكن القول إنه أكبر جدل تشهده البلاد حول عمل أدبي، اختلف فيه الجزائريون من كتّاب، مثقفين، أدباء، ناقدين، ناشرين وغيرهم وانقسموا فيه إلى فئة تدعم مؤلفة النص إنعام بيّوض وتدافع عن حريتها في الكتابة باعتبار الإبداع لا حدود أخلاقية له وفئة أخرى تستنكر ما جاء في الرواية من كلمات "نابية" وتهاجم الكاتبة وترفض الخلط بين الإبداع والتعدي على القيم الأخلاقية.
صور تفجر مواقع التواصل الاجتماعي
في التاسع من تموز/ يوليو، أعلنت جائزة آسيا جبار للرواية في طبعتها السابعة، فوز الكاتبة والمترجمة إنعام بيوض في فرع الرواية باللغة العربية عن روايتها "هوارية" الصادرة عن دار ميم للنشر والتوزيع، من بين ست وثمانين رواية مشاركة باللغة العربية.
وبمجرد الإعلان عن فوز إنعام بيوض، نُشرت صورٌ من صفحات الرواية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تتضمن كلمات "مبتذلة" باللهجة الجزائرية استخدمتها المؤلفة في الحوار بين شخوص الرواية. وانتشرت الصور بسرعة رهيبة بين المستخدمين وتداولوها على نطاق واسع ليبدأ الجدل بين من يعتبرها حرية وجزءًا من تصوير الواقع وبين من يعتبرها تعديًّا على الأخلاق.
وظلّ الجدل يتوسّع ويتعمق، انخرط فيه كتاب ونقاد ومثقفون وناشرون، يتبادلون التهم والشتائم أيضًا، إذ اتهمت فئة الداعمين الآخرين بالجهل والانغلاق وممارسة الرقابة على الكتابة الإبداعية بدعوى احترام الأخلاق والدين، وأكّدت على دعمها الكامل لحرية المؤلفة في طريقة تصوير الواقع واستخدام ما تراه مناسبًا من كلمات وأوصاف إباحية، وذهبت لحدّ السخرية من المعارضين بدعوتهم إلى استبدال لجان القراءة في الجوائز الأدبية بالأئمة والمشايخ، ووصفهم بأدعياء الفضيلة والمنافقين الذين ينزعجون من تعرية الواقع.
في المقابل، هاجمت فئة المعارضين من يدعمون الرواية، ووصفتهم بالساعين إلى إفساد الأخلاق والمشجّعين على الانحراف تحت ذريعة الإبداع وتعرية الواقع، وذهبت إلى حدّ اعتبار ذلك تعدّيًا على خصوصية المجتمع الجزائري المحافظ، الذي يرفض أن يشارك نصًا كهذا مع عائلته وأصدقائه، ومشاركة في نشر الرذيلة، مطالبة بالتحقيق مع دار النشر ولجنة تحكيم الجائزة.
وبفعل الجدل الذي أصبح الجزائريون ينامون ويستيقظون عليه لأيام، أعلنت دار النشر في السادس عشر من تموز/ يوليو وبشكل مفاجئ قرار توقيف نشاطها وانسحابها من مجال النشر، مكتفية بالقول: "لم نكن إلا دعاة سلم ومحبة ولم نسع لغير نشر ذلك". ورغم عدم الكشف بشكل صريح عن سبب توقيف نشاطها، إلا أن المتابعين أرجعوه إلى مهاجمة الدار واتهامها بنشر عمل "إباحي" من قبل المعارضين، ولهذا أكدت في بيانها على دعوتها للسلم والمحبة.
وأجّج غلق دار نشر ميم الجدل وحوّله إلى ما يشبه الحرب، بين مؤيدين للقرار، وصفوه بأنه صائب وتحمّل للمسؤولية وبين من وجدوه مجحفًا وغير عادل، لا سيّما أن ميم تعدّ من بين أشهر وأنجح دور النشر في الجزائر، بأعمالها التي تصل إلى القوائم القصيرة في أكبر الجوائز الأدبية وتتوّج بها، على غرار فوز رواية "الديوان الإسبرطي" الصادرة عنها بالجائزة العالمية للرواية العربية عام 2020. ووجّه الكثير من الكتاب والناشرين رسائل دعم للناشرة مطالبين إياها بالعدول عن القرار.
واسيني ومستغانمي في واجهة الجدل
وتحوّل الجدل سريعًا من غلق دار النشر إلى أسماء كتاب جزائريين بارزين بسبب مواقف من رواية "هوارية" وعلى رأسهم الروائي واسيني الأعرج، الذي عبّر منذ البداية عن دعمه الكامل لحرية الكاتبة، ووصفه المعارضين لها بالانكشاريين الجدد، واعتبر في كتاباته ما يقومون به بأنها مطاردات وتهم مجّانية، وتشويه، وتأليب الرأي العام واللعب على الثالوث السهل، الوطنية والدين والأخلاق. واستنكر الكثير من القراء والكتاب والأكاديميين وصف الإنكشاريين، واستحال موقف واسيني من الحدث إلى حدث في حدّ ذاته، إذ واجه حملة شرسة ووابلًا من الانتقادات لفكره التنويري واتهامه الرأي الآخر.
وبينما جاءت الردود في شكل تعليقات ومنشورات قصيرة عبر الفيسبوك، اختار آخرون ردودًا أكثر تفصيلًا، وعلى رأسهم ردّ الدكتور لحسن عزوز، أستاذ النقد والأدب، الذي لقي تفاعلًا كبيرًا، إذ جاء فيه أن واسيني ومن خلال دفاعه عن رواية "هوارية " للكاتبة إنعام بيوض يحاول أن يظهر بمظهر دون كيشوتي محاربًا مصارعًا كل طواحين الأرض والسماء بحجة فهمه للحداثة وتصوير المسحوقين والطبقات المهمشة والمسكوت عنهم وكسر كل التابوهات والثالوث المحرم (الدين/ السياسة/ الجنس)، لكنه في نفس الوقت يرفع المشانق لكل باحث وناقد وقارئ ويصفه بالانكشاري (الذي لا أصل له) والمتطفل والبوم الناعق والإرهابي.
وكتب الدكتور عزوز، في ردّه على واسيني، أن هذا الأخير يحاكم رواد مواقع التواصل الاجتماعي كموقع مفتوح حر محاكمة عنيفة بمفردات لا تقل عما كان يفعله الفاشيون كتيار متعصب ودلالة ذلك "هجمة مسعورة، ظاهرة غريبة، هزائم داخلية، حراس النيات، الإنكشاريون الجدد، استسهال، الجهل القرائي، الشعبوية، حرب مرعبة، الدرجة الصفر للقراءة، الوطنية الزائفة" وغيرها، ويخاطبه: "لسنا انكشاريين يا واسيني، والجدل الثقافي حول رواية "هوارية" جدل يحصل في كل دول العالم عندما تسود الحرية في مبادئها ولو نظرت إلى العالم الغربي لوجدت أكثر من هذا في التخلّص من هيمنة الرأي الواحد فالجميع ينخرط في نشر رأيه ونقده وانطباعاته حول عمل روائي أو سينمائي أو تشكيلي أو مسرحي رغم أني لست من دعاة التجريح وإطلاق الأحكام الجاهزة وأحترم الجميع دون استثناء".
من جهتها أشعلت الكاتبة الجزائرية الشهيرة أحلام مستغانمي مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب منشور لها عبر منصة "إكس" وصفه القراء بـ"الخرجة غير المتوقعة"، جاء فيه: "لا يعود انتشاري لكوني كاتبة مُتحرّرة، بل لأنني كنت حُرّة في اختيار قيودي التي هي أقسى مما فُرض عليّ، أولها اعتباري الاحترام شرطًا إبداعيًا، أكتب كُتبًا يُمكن لقارئي أن يعود بها إلى بيته، سأتوقف عن الكتابة عندما يُخفي قارئي كتبي عن أهله".
وأثار المنشور موجة من الانتقادات لمستغانمي، إذ استغرب الداعمون لرواية "هوارية" كيف لكاتبة "عابر سرير" أن تعتبر الاحترام شرطًا إبداعيًا، وأن هذا الأخير لا يختلف عن رواية إنعام بيوض في شيء، في حين رفض آخرون المقاربة بين النصين، مؤكدين أن لغة "عابر سرير" جاءت راقية ولا يمكن مقارنتها إطلاقًا مع لغة "هوارية"، في المقابل انتقد آخرون منشور أحلام وخرجتها كونها اعتمدت التلميح ولم تكشف عن موقف صريح يليق بها ككاتبة مشهورة.
النسخة الإلكترونية توسّع الجدل أكثر
بعد أيام من الجدل الساخن، انتشرت النسخة الإلكترونية من الرواية، وأصبحت في متناول القراء الراغبين في اكتشاف النص كاملًا بغضّ النظر عما وُصف بالكلمات "البذيئة"، وتباينت الآراء حوله مجدّدًا، إذ اعتبر الداعمون فوز إنعام بيوض بجائزة آسيا جبار مستحقًا، وأشادوا بقوة النص وحبكته، في حين وجد آخرون الرواية مفكّكة وضعيفة من حيث اللغة والبناء، وذهبوا إلى حدّ المطالبة بالتحقيق مع لجنة الجائزة لأن النص لا يرقى إلى التتويج.
ولعل أول ما نشر حول النص، ما كتبته المترجمة والكاتبة لميس سعيدي بصفتها عضوًا في لجنة تحكيم جائزة آسيا جبار، واصفة أنه في رواية "هوارية"، تتحوّل أزقة وشوارع وهران إلى خطوط القدر في راحة يد، تكشف الروائية خباياها من خلال شفافية شخصية "هوارية"، ذلك الكائن النوراني الذي لم يتدنّس بالبيئة التي نشأ فيها ورفض كل مساومة على جسده ونقاء روحه، حتى لو دفع الثمن من سلامة عقله واتزّانه النفسي. وتتناول الرواية حقبة مهمة ومفصلية في تاريخ الجزائر الحديث، وهي حقبة الثمانينيات والتسعينيات، وتبحث بذكاء وصدق وبتشريح دقيق للمجتمع، في الجذور الحقيقية للمأساة، وهي جذور لا علاقة لها بالدين الذي تشيد الرواية بسماحته، ولكنها جذور تجد ماءها في الكبت والظلم الاقتصادي والاجتماعي الذي يقود بالضرورة إلى التطرّف والعنف.
وتؤكد لميس سعيدي في منشورها: "إن هذه الرواية تنتصر للفئات الشعبية المطحونة وتذكر بدون محاكمة أو استعلاء تناقضاتها، كما تذكر بمحبة تفاصيلها المبهجة، أعراسها وأكلاتها وإيقاعاتها فيما يشبه الاحتفاء بالثقافة الشعبية التي هي جزء مهم من التراث والهوية. وقبل كل شيء، تصنع الروائية عالمها ورؤيتها، من خلال مزيج ذكي ومتناسق بين لغة عربية فصيحة، سلسة وشفافة وطازجة وبين لغة عامية بمستويات مختلفة تقدم حينا الموروث الشعبي، وتكشف حينًا آخر بؤس الجهل والفقر وانعكاسه على اللغة".
وخلافًا لرأي لميس وقراءتها، وجد الكثير من القراء الكتّاب والدارسين الرواية ضعيفة وفقيرة من عدّة جوانب وخاصة اللغة، إذ كتب الدكتور نصرالدين بن غنيسة عن الفرق بين وصف الواقع كما هو في رواية "هوارية" وكتابة الواقع في الرواية الشهيرة "مدام بوفاري"، بقوله إن الكتابة عن الوضاعة بشكل جميل هو الرهان الذي التزمه فلوبير في روايته "مدام بوفاري" التي سعى من خلالها إلى إثبات أن المشاعر الوضيعة والأحزان البرجوازية يمكن أن تتحملها اللغة الجميلة، فالواقعية بالنسبة إلى فلوبير لا تعني "وصف الواقع" بما تعنيه من محاكاة له، بل "كتابة الواقع" بما تعنيه من ارتقاء جمالي في إعادة صياغة هذا الواقع.
ويشرح بن غنيسة أن أهم تهمة وجّهت إلى رواية "مدام بوفاري" هي تشجيع الرذيلة خاصة في أشهر مشهد من الرواية حيث يدعو ليون عشيقته إيما، زوجة الطبيب شارل، إلى أن تصحبه في جولة في العربة، واستطاع فلوبير أن يوهمنا أن الراوي الذي ينغمس في تفصيل سرد البيئة الخارجية لخط سير العربة، لا علم له بما يحدث داخلها، مع أن كل القرائن توحي إلى القارئ أن هناك ممارسات حميمية بين العشيقين. ويكتب: "بدون إسفاف ولا ابتذال، يغنينا فلوبير عن كل ما من شأنه أن يسقط في التسطيح التصويري الذي يستسهل وصف الواقع داخل العربة، بحجة الوفاء لهذا الواقع إلى حدّ التماهي معه، بدل الكتابة عنه، إيحاء، تاركًا للقارئ فرصة ملء الفراغات السردية بما يسعفه به خياله. ولكم أن تتصوروا الفرق بين وصف الواقع، كما تجلى في رواية ‘الهوارية‘ وكتابة الواقع، كما تجسد في رواية ‘مدام بوفاري‘".
في المقابل، كتب الصحافي عبد السميع عبد الحي، في منشوره: "إنها رواية سطحية وبلغة رديئة جدًا تظهر عدم تحكّم الكاتبة في السياق السردي، وهنا لا أقصد مطلقًا تلك الألفاظ الواردة في النص والتي أثارت حفيظة بعض القراء، فحتى في هذا السياق لم توفق الكاتبة في قاموس القذارة اللغوية الذي يتطلب من الكاتب في المجتمع الجزائري أن يكون مبدعًا بصورة جنونية حتى يضمن له حضورًا مقبولًا على الأقل في هذا الفضاء الذي أبدع فيه الجزائريون بشكل متفرد، ولكن ما أثار اهتمامي فعلًا ودفعني للكتابة ليس بالضرورة رداءة نص ‘هوارية‘ الذي لم يرق لدرجة الرواية، ولكنني فكرت في تلك النصوص المقدّمة للمنافسة على الجائزة وقدّرت لجنة التحكيم أنها أقل قيمة أدبية وإبداعية من ‘هوارية‘".
وما زال الجدل حول رواية ‘هوارية‘ قائمًا ويسيل الكثير من الحبر، بل هناك من ذهب إلى حدّ اعتباره ظاهرة اجتماعية تستحق الدراسة والتحليل.