أفلام الثورات العربيّة: أشكال سينمائيّة تحمّست لتوثيق الآني

نديم جرجوره 24 مارس 2015
سينما
فيلم "العودة إلى حمص" لطلال ديركي
تُذكّر الكتابة عن الأفلام العربية المتعلّقة بـ"الثورات العربية"، بعد نحو خمسة أعوام على اندلاعها، بدءاً من تونس أواخر العام 2010، بواقع السينما الأميركية إزاء حربي فيتنام ( نوفمبر/ تشرين الثاني 1955 ـ 30 أبريل/ نيسان 1975)، والعراق (بدءاً من 20 مارس / آذار 2003). ذلك لأن سينمائيين أميركيين عديدين لم يتمكّنوا من إنجاز أفلام روائية طويلة متعلّقة بالحرب الأولى، مع أن بعضهم مُشاركٌ فيها، إلاّ بعد مرور أعوام طويلة على انتهائها، فإذا بأفلامهم تثير سجالات لم تقف عند مسألة المادّة الدرامية الناقدة لواقع الحرب ومآسيها على الأميركيين وغيرهم، بل تجاوزتها إلى الشكل البصري المعتَمّد في تقديم الحكايات ومعالجاتها، وهو شكل يمزج سرداً شعرياً للصورة بواقعية حادة مليئة بالدم والجثث والعنف، من دون تناسي ذاك الخليط الفنّي بين توثيقِ لحظاتٍ ومعاينةٍ متخيَّلةٍ وجماليةٍ لوقائع وقصص وتفاصيل، بالإضافة إلى لقطات وحوارات وتعابير سردية وشكلية تنتقد الحرب وآلامها، وتساجل معانيها وضروراتها ومآزقها الأخلاقية والإنسانية والثقافية، متحرّرة كلّها من أي خطابية أو ثرثرة انفعالية.

أما حرب العراق، المستمرّة في مسّها المباشر حساسية الأميركيين، فلم يستطع سينمائيون أميركيون عديدون، لغاية الآن، تحقيق أفلام ذات مقوّمات إبداعية راقية، تتحرّر من وطأة الآنيّ، وتتخلّص من الانفعال الوطني الإنساني الذي يُغيّب كلَّ حسّ سجاليّ أو إشكاليّ أو جماليّ، وإن تبيّن في بعضها رغبة صانعيها في إثارة الأسئلة نفسها حولها، وفي محاولة فهم معناها ومدى ضرورتها، وفي قراءة نتائجها الأليمة والمدمِّرة للذات الفردية للجندي الأميركي، ولجماعته أيضاً.

يُقال إن سبب التناقض الحاصل في التعاطي السينمائي الأميركي مع هاتين الحربين نابعٌ، أولاً وأساساً، من المسافة الزمنية التي اتّخذها ويتّخذها السينمائيون إزاءهما. فطول هذه المسافة مع "حرب فيتنام" جعل بعضهم ـ الأهمّ سينمائياً وسجالياً ـ أقدر على التأمّل والمعاينة والقراءة الهادئة والعميقة لما يريد تقديمه، أمثال أوليفر ستون وفرنسيس فورد كوبولا ومايكل تسيمينو وغيرهم. بينما استعجال آخرين في تحقيق أفلام عن "حرب العراق" قبل انتهائها، يحول دون توصّلهم إلى براعة الصورة السينمائية في مقاربة الحدث، وإن كانت "النيّة" صافية: مواجهة معنى الحرب وأسئلتها عبر الصورة السينمائية. منهم: براين دي بالما في"ريداكديت" (2007)، وبول هاغيس في "وادي الله" (2007)، وكاترين بيغولو في The Hurt Locker (2008)، ونك برومفيلد في "معركة حْدِيثة" (2008)، وبول غرينغراس في "المنطقة الخضراء" (2010)، ودوغ ليمان في "لعبة عادلة" (2010)، وغيرهم، وصولاً إلى أحدث هذه السلسلة إنتاجياً وأكثرها سجالية: "القنّاص الأميركي" (2014) لكلينت إيستوود.


بعض هذه العناوين يسعى إلى نقاش نقدي إشكاليّ لمساجلة الحرب وتأثيراتها وأسبابها ومدى صحّة خوضها، لكن الشكل السينمائي لم يرتقِ لا إلى مصاف الاشتغالات السابقة لبعض هؤلاء السينمائيين، ولا إلى المقوّمات السينمائية المؤثّرة جمالياً وفنياً وتقنياً، ولا إلى "جمال" أفلام حرب فيتنام.

تبدو الأفلام العربية المصنوعة بوحي من "الثورات العربية" أو من أجلها ولها، أقرب إلى علاقة الفيلم الأميركي بالحرب العراقية منها إلى علاقته بالحرب الفيتنامية. حتى الأفلام الوثائقية العربية المقتربة أكثر من المفهوم التسجيلي لهذا النوع السينمائي ـ علماً أن الأفلام الروائية العربية، الدائرة في فلك الحراك الشعبي العربي هذا، لا يزال عددُها قليلاً للغاية ـ لم تستطع كلّها أن تبلغ مرتبة اللغة البصرية السوية والجميلة في متابعتها فصولاً من حكاية "الحدث العربي" هذا، لوقوعها في التسرّع، ولانطلاقتها من رغبة صادقة وحقيقية (أي انفعالية حماسية) في توثيق الآنيّ لحظة حدوثه بأي شكل من الأشكال، خصوصاً أن التقنيات الحديثة المتوفّرة بين أيدي كثيرين، وأبرزها أجهزة الهواتف الخلوية المتنوّعة التقنيات الذكية، تُعين على تأريخ اللحظة بصرياً. ولعلّ هذا ما يشفع بالأعمال كلّها، كونها لعبت دوراً أساسياً في نقل الحدث لحظة وقوعه إلى أرجاء العالم.

يُمكن القول إن "أجمل" مثال على براعة "صُوَر الهواتف الخلوية والتقنيات الحديثة التي يسهل الحصول عليها من قِبَل الجميع" في تحويل المادة الملتَقَطة إلى صنيع سينمائي صادم وسجاليّ ومهمّ، يبقى لغاية الآن "ماء الفضّة، سورية ـ صورة ذاتية"، للسوريَّين أسامة محمد ووئام سيماف بدرخان، اللذين حوّلا تلك الصُوَر، بإضافة لقطات أخرى عليها، إلى فيلم سينمائي يمزج مرارة الواقع وقسوته بطرح أسئلة الصورة والسينما والحياة والموت والراهن والمواجهة. قوّة المتخيّل السينمائي ووجع اللحظة الراهنة قدّما عملاً بديعاً على الرغم من ألم المعاناة ووحشية الجريمة المرتكَبة بحقّ شعب ومجتمع وبلد، وصنعا معاً شهادة بصرية جديرة بأن تكون درساً في تحويل العاديّ إلى لغة سينمائية متماسكة، شكلاً ومضموناً، في قراءة الصراع القائم بين صُوَر الحياة والمواجهة وصُوَر التعذيب والقتل.

هناك أيضاً "نصف ثورة" (2012)، للثنائي الفلسطيني الدانماركي عمر شرقاوي والمصري الأميركي كريم حكيم. التقنيات الحديثة غير سينمائية، لكنها قابلة لاحتواء مشاعر متضاربة لشباب مصريين وعرب محاصرين في منزل في "وسط البلد" (القاهرة)، في أحد الأيام الأولى لبداية "ثورة 25 يناير". لم تحل قوة المشاعر دون تحقيق شريط وثائقي يميل إلى الفعل السينمائي محافظاً، في الوقت نفسه، على براءة اللحظة وحيويتها. التونسي إلياس بكّار استعاد، عبر "الكلمة حمراء" (2012)، شريطاً طويلاً من المعاناة التونسية في الصراع مع السلطة، منذ ما قبل اندلاع "ثورة الياسمين"، ووصولاً إليها، مؤرشفاً وناقلاً وسارداً محطات من تاريخها حتى اندلاعها. من القاهرة أيضاً، هناك "التحرير: الطيّب والشرس والسياسيّ"، للثلاثي تامر عزت وآيتن أمين وعمرو سلامة، الذي يريد الخروج من وطأة اللحظة إلى معنى الفيلم الوثائقي، من دون أن يقع أسير الانفعال. الصفات الثلاث في العنوان تعكس جوانب من حكاية "ثورة" مصر، بالعودة إلى تاريخ حافل من القمع والاستبداد والفساد، على ضوء حيوية الأيام الـ18 الأولى من "ثورة 25 يناير" نفسها.

لن يكون تعداد العناوين كلّها متاحاً لكثرتها. هذه نماذج تعكس شيئاً من المطلوب في صناعة صورة وثائقية عربية مستمَدّة من حراك شعبي عفوي وسلميّ، أُريد له لاحقاً أن يغرق في الدم والعنف والتمزّق. الوثائقي أسرع في اللحاق بالحدث، والروائي القصير اختبارٌ قابلٌ لأن يؤرّخ ويؤرشف بلغة أكثر سينمائية وجمالية. تجربة "18 يوم" (2012) ـ المتضمّنة 10 أفلام قصيرة لـ10 مخرجين مصريين تناولوا وجوهاً وفصولاً من ثورتهم ـ تؤكّد أن للفيلم القصير إمكانية مواكبة الحدث لحظة وقوعه، واتّخاذ بعض المسافة منه للتأمّل فيه وقراءته ومعاينته، وإن وقع البعض في فخّ الانفعال والحماسة، من دون أن تغيب شفافية السينما عن عمله.


هذا يُحيل إلى الفيلم الروائي العربي الطويل. التجارب قليلة، لكنها جديرة بالمُشاهدة والنقاش: "نورمال" (2011)، للجزائري مرزاق علواش، و3 أفلام مصرية هي "بعد الموقعة" (2012)، ليُسري نصرالله، و"الشتا اللي فات" (2013)، لإبراهيم البطوط، و"فرش وغطا" (2013)، لأحمد عبد الله، بالإضافة إلى "سلّم إلى دمشق" (2013)، للسوري محمد ملص. هذه أمثلة تواكب حراكاً، وترتكز على السينما لتقول شيئاً من واقع الحال. الأول ينقل وجهات نظر شباب جزائريين ـ متأثّرين بـ"ثورة الياسمين" في لحظاتها الأولى ـ حول "الربيع العربي".

إنه فيلم داخل فيلم، وقصّته منسوجة من قصّة أخرى: شاب وخطيبته صوّرا فيلماً عن أحوال الشباب الجزائريين قبل نحو عامين على بداية الحراك الشعبي في تونس. الآن، يريدان لقاء من تمّ تصويرهم في الفيلم غير المُنجَز، أثناء الحراك. لن يكون اللقاء عرضاً للمُصَوَّر فقط، بل هو سجال يطال الراهن. الثاني منطلق من "الحادثة" المعروفة بـ"موقعة الجمل" (2 فبراير/ شباط 2011)، ليرسم ملامح أناس داخل "الثورة" وخارجها. بعضهم مستفيد منها، وبعضهم الآخر يحاول أن يفهم ما يجري. الثالث تنويع على الموضوع نفسه، من خلال 3 شخصيات لكلّ منها حكايته: ضابط في مباحث أمن الدولة، مذيعة تلفزيونية ومهندس ديكور. تتداخل الحكايات وسط الحراك الشعبي، وتتعرّى الشخصيات من أقنعتها ومخاوفها وعزلاتها، ويتحوّل لقاء المسارات إلى انعكاس للالتباسات الحاصلة في الأيام الأولى لـ"الثورة". الرابع منطلقٌ من لحظة إطلاق سراح معتقلين في سجون مصرية أثناء "الثورة" نفسها. الشخصية الرئيسة صامتة، أو عاجزة عن الكلام، أو رافضة إياه. رحلة العودة إلى المنزل العائلي محفوفة بمخاطر ومشاهدات قاسية لما يجري. الخامس محاولة لسبر أغوار البيئات الاجتماعية والثقافية السورية، عبر شباب سوريين منتمين إلى طوائف وطبقات اجتماعية مختلفة، يلتقون في منزل دمشقي أثناء الحراك الشعبي، ويروون شيئاً من أحوالهم وحكاياتهم.

لن تكون السينما، بلغتها ومفرداتها وطقوسها وجمالياتها، حاضرة بقوّة وجمالية وفعالية إبداعية في الأفلام كلّها. "وطأة" الراهن أقوى من أن تُحرّر النصّ السينمائيّ من انفعال صانعه أحياناً. "نورمال" أكثرها سينمائية. "الشتا اللي فات" و"فرش وغطا" أكثرها التماساً للقلق النابع من تراكم الأحداث والأسئلة. الفيلم السوري مرهونٌ برغبة التأكيد على متانة البنى الاجتماعية السورية في مواجهة الموت. "بعد الموقعة" محاولة للمشاركة في معاينة اللحظة.