"واجب" للفلسطينية آن ـ ماري جاسر: صُوَر الذات وانعكاساتها

نديم جرجوره 19 أكتوبر 2017

 

يتميّز "واجب" (2017)، الروائيّ الطويل الثالث للفلسطينية آن ـ ماري جاسر (بيت لحم، 17 يناير/ كانون الثاني 1974)، بـ 3 ميزات أساسية، يُمكن الركون إليها في مقاربته النقدية:

1ـ) سلاسة السرد، المتناغمة وعمق الحكاية المرتكزة، أساساً، على لقاءٍ متأخِّر بين أبٍ وابنه، عشية الاحتفال بعرس الابنة/ الشقيقة.

2ـ) بساطة التصوير والتقاط الكادرات واللقطات والشخصيات، من دون أن تكون البساطة استسهالاً أو استعجالاً، إذْ يسعى التصويرُ إلى تحويل بساطتِه إلى منافذ مختلفة وعديدة للتوغّل ـ قدر المستطاع ـ في ذاتٍ فردية، أو في نمطِ عيشٍ لجماعة متقاربة/ متباعدة، أو في أحوال بيئةٍ، وفي اجتماعها ويومياتها وأنماط حياتها وتفكيرها وتواصلها وعلاقاتها، إنْ تختصّ العلاقات بالداخل الفلسطيني (أي داخل الجماعة تلك) أو بالآخر (الإسرائيليّ).

3ـ) طرح تساؤلات أساسية، تكمن في جوهر العلاقة الصدامية بين الفلسطيني والمحتلّ الإسرائيلي، من وجهتي نظر تتصادمان إحداهما بالأخرى، لكنهما ـ في لحظة درامية ما ـ تبدوان كأنهما تتكاملان معاً في محاولة سينمائية وإنسانية وواقعية للبحث في أساس المأزق الفرديّ إزاء نفسه داخل الكيان المحتلّ، وإزاء المحتلّ نفسه.


 

حيرةٌ تختصر تساؤلاتٍ

هذا مدخلٌ إلى عالمٍ تصنعه آن ـ ماري جاسر من وقائع العيش الفلسطيني، الموزَّع بين داخلٍ مُقيمٍ في "دولة إسرائيل المحتلّة" (أراضي الـ 48 تحديداً)، وخارجٍ يجد في دول المهجر نوعاً من أمانٍ وراحةٍ، لن تُبعِدا المرء ـ كثيراً ـ عن حيّزه الأصليّ، فتضعه في مواجهة ما معه، ومع تساؤلاته الجمّة. فالمشهد ما قبل الأخير، مثلاً، يعكس شيئاً من حالة الصدام تلك، ويرغب في اختزال مقتطفاتٍ من واقع الحكاية، إذْ يُصرّ أبو شادي (محمد بكري) على دعوة "زميله" الإسرائيلي إلى عرس ابنته آمال (ماريا زريق)، بينما ينتفض شادي (صالح بكري) على هذه الدعوة، لاعتباره "الزميل" عميلاً في الـ "شاباك"، تسبَّب في هجرته إلى إيطاليا، في مقابل نظرة أبي شادي إليه وإلى المسألة، والتي تُفيد أن الإسرائيلي نفسه "أنقذ" شادي، و"ساعد" ـ بطريقة ما ـ على تجنّب مشاكل كثيرة مع سلطة الاحتلال.

يبدو الأمر عادياً. شادي المهاجِر مُصرّ على مقارعة العدو برفض إرسال دعوة إلى عرس الشقيقة؛ وأبو شادي المُقيم في بلدته الناصرة مُصرّ على الدعوة، كـ "واجب" أخلاقيّ إزاء "زميل". لكن آن ـ ماري جاسر، بكتابتها السلسة والمحمَّلة ـ في الوقت نفسه ـ بكمّ من الصُوَر الواقعية والحسّية والانفعالية، تضع الصدام في دقائق قليلة، كأنها تكتفي بطرح المأزق، لانتباهها السينمائيّ الجميل إلى حقّ المُشاهد في قراءته وفقاً لمزاجه ووعيه وثقافته والتزاماته. وهذا، إنْ يكن حقيقياً إلى حدّ كبيرٍ، لن يعني أنها تتخلّى عن موقفٍ، أو تَنْفَضّ عن التزامٍ، أو تتنصَّل من قولٍ، بقدر ما تُغلِّف هذا كلّه في مشهدٍ يعبِّر، ببساطة وسلاسة وجمالية هادئة، عن حيرةٍ وارتباك، نابِعَين من هاجسٍ ذاتيّ فرديّ: فلسطين محتلّة، والإسرائيلي عدوّ. لكن، في الناصرة كما في غيرها من مدن "أراضي الـ 48" وبلداتها، تتداخل أحوال العيش اليومي بعضها ببعض، إلى درجة التساؤل عن قواعد الاشتباك أو التواصل بين الطرفين.

حيرةٌ مُلتَقَطةٌ، سينمائياً، ببراعة وجمالية، لأن آن ـ ماري جاسر تُتقن تمرير المواقف بهدوءٍ، لن يُخفي غليان مضامينها وأسئلتها. وإذْ يوصف "واجب" بأنه "فيلم طريق" (ترجمة حرفية للتعبير الإنكليزي Road Movie) ـ لأن أحداثه برمّتها تجري بين شخصيتي شادي ووالده أثناء توزيعهما بطاقات الدعوة، متنقِّلَين بالسيارة القديمة للوالد في شوارع الناصرة وأزقّتها وحاراتها وبين ناسها، كما في بعض الحيّز الإسرائيلي المحتلّ فيها بقعة جغرافية ـ إلّا أن تفاصيل كثيرة تنشأ في هوامش المتن الأصليّ، وتعكس جوانب من الحياة اليومية في تلك المدينة: ثقل التقاليد الاجتماعية، بأشكالها وصُوَرها وتعابيرها كافةً؛ والحِيَل التي يمارسها بعضهم لإخفاء حقائق شخصية، كما لحماية المظهر الاجتماعي للعائلة وخفاياها من أي شائبة أمام الناس؛ والنمائم التي لا تنتهي؛ والموقف العدائيّ ـ المبطَّن غالباً، والذي بظهوره يختبئ خلف أكاذيب وادّعاءات ـ إزاء أفرادٍ يسلكون نمطاً "متحرّراً"، إلى حدّ ما، من وطأة الثقل الاجتماعي للتقاليد تلك؛ إلخ.





أسئلة حسّاسة

هذه أمور يكشفها "واجب" بمواربة جميلة، وإنْ تظهر بشكلٍ واضحٍ، أحياناً، من دون أن تكون مدّعية أو نافرة. بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض المخفيّ داخل عائلة أبو شادي ينكشف، شيئاً فشيئاً، عبر المحيط البشريّ والاجتماعيّ، أو من خلال كلامٍ مباشر بين الأب وابنه: حكاية الزوجة/ الأم (لن تظهر أبداً، إلاّ عبر اسمها وحكايتها)، التي تتخلّى عن الجميع من أجل حبّ آخر، لن تكون مجرّد قصّة "مزعجة" و"مُستَفِزّة" في بيئة محافظة وتقليدية، بقدر ما تنفتح على سؤال الرغبة الفردية والحاجة الفردية والمتعة الفردية، التي تصنع قراراً صعباً كهذا، والتي تدفع إلى تحقيقه رغم ثقل التقاليد الاجتماعية. هنا، أيضاً، سيقع صدامٌ ـ وإنْ كان مخفَّفاً ـ بين الأب وابنه، يبدو أولاً مرتبطاً بمشاركة الزوجة/ الطليقة/ الأم بعرس ابنتها، أو عدمه، مع أن المسألة تنبثق من وجهتي نظر مختلفتين: فالأب مهتمٌّ بابنته، وبضرورة أن تحضر الأم، مُخْفياً نقمته عليها بسبب تخلّيها عنه؛ والابن منشغلٌ بنتائج قرار الأم ومدافعٌ عن القرار ونتائجه، وهو قرار يدفعها إلى حياة أخرى وعلاقة أخرى وبلدٍ آخر، ويصل بها إلى لحظة حرجة: فالزوج الجديد يحتضر، وموعد العرس قريب.

بهذا المعنى، لن يرتبط الصدام بين شادي ووالده بمسألة العلاقة بالمحتلّ الإسرائيلي فقط، لأنه يبرز أيضاً في حالة اجتماعية وإنسانية، تتمثّل في حقّ الفرد في اختيار ما يُناسبه من أساليب عيشٍ. وهذا ينسحب على شابّة قريبة لهما، تختار استقلاليتها في مجتمع يرفض استقلالية المرأة في حياة يُفترض بها، بحسب التقاليد تلك، أن تشهد زواجها وإنجابها وتأسيسها عائلة. لذا، تتأكّد سلاسة السرد وبساطة التصوير باختيارهما أسئلة حسّاسة تُصيب عمق الحياة ومساراتها، وتنشغل بوطأة الاحتلال، وبقسوة تقاليد مفروضة قسراً على بيئة فلسطينية مختلطة.

لن يكون "واجب" وحيداً، في المسار السينمائيّ لآن ـ ماري جاسر، في كيفية اشتغاله، المتمثّل بسرد الأصل في الحبكة الدرامية، عبر منافذ تنفتح على هوامش المتن، الممتدة على تاريخٍ وراهن وانقلابات وأنماط عيش وأحلامٍ وخصوصيات تتعلّق بالفرد الفلسطيني، إنْ يكن مُقيماً في بيئته الجماعية، أو خارجاً منها وعليها. فالروائيّ الطويل الثالث هذا ـ الذي يُمثِّل فلسطين في التصفيات الأولى لـ "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي لعام 2018 (تُعلَن اللائحة القصيرة، التي تضمّ خمسة أفلام، يحمل كل واحدٍ منها صفة "مُرشَّح رسميّ"، في 23 يناير/ كانون الثاني 2018، علماً أن حفلة إعلان النتائج وتوزيع الجوائز تُقام في 4 مارس/ آذار 2018) ـ يستكمل شيئاً من مشروعها السينمائيّ.

ففي "ملح هذا البحر" (2008) لن تكون عودة ثريا (سهير حمّاد) إلى بلدها المحتلّ (مولودة في الولايات المتحدّة الأميركية ومُقيمة فيها) ـ بهدف استعادة بعض المال الخاصّ بجدّها، المودَع في مصرفٍ بريطاني منذ ما قبل النكبة (15 مايو/ أيار 1948) ـ القصّة الوحيدة، لأن لقاء يحدث بين ثريا وعماد (صالح بكري) يفتح نوافذ كثيرة لإطلالة حسّية على أساليب عيش في البلد المحتلّ، كما على أحلامٍ موؤودة ورغبات مكبوتة وضيق حياتي قاتل.

وفي "لما شفّتك" (2012)، يُشكِّل اللجوء إلى الأردن، في ظلّ "حرب الأيام الستة" (5 ـ
10 يونيو/ حزيران 1967) وما بعدها بقليل، جوهر نصٍّ مفتوحٍ على معنى الهوية والانتماء، وعلى سؤال المقاومة والعلاقة بالجغرافيا العربية وامتداداتها في السياسة والاجتماع والدعم، وعلى واقع العلاقات المحطّمة بين زوجين، أو بين أم وابنها، أو بين مراهق والعالم الجديد الذي يُقيم فيه من دون أبٍ (يختفي أثناء تلك الحرب، فإذا بالزوجة والابن ينتظرانه)، والذي يعثر فيه على حيّز لتمرّد صامت وقاسٍ.

 

تاريخ سينما وتاريخ أفراد


وإذْ يرى المخرج والناقد العراقي قيس الزبيدي، في مقدّمة كتابه التوثيقي "فلسطين في السينما"
("مؤسّسة الدراسات الفلسطينية"، بيروت، الطبعة الأولى، 2006)، أن أفلامَ فلسطينيين وعرب وأجانب، مُنجزة في أعوام عديدة سابقة، متمكّنةٌ من اختزان ذاكرة غنيّة، لا يُمكن إغفال أهمية الرجوع إليها وضرورته، لأنها، بالنسبة إليه، "تنتمي بحقّ إلى تاريخ الناس"؛ فإن الأفلام الـ 3 لآن ـ ماري جاسر تُشكِّل جزءاً أساسياً وفاعلاً ومؤثّراً من تاريخ الناس هذا، إذْ تغوص في أحوال أفرادٍ، وتروي قصصاً منهم وعنهم، وتعكس أحوالهم وانفعالاتهم وهواجسهم ومصائبهم وآمالهم المعلّقة، وترسم صُوَراً عن فلسطين ومساراتها ومتاهاتها عبرهم، وترتبط بهم إلى أبعد الحدود الإنسانية الممكنة.

وهذا كلّه بلغة سينمائية تلتزمها آن ـ ماري جاسر، وتحاول أن تجعلها ركيزة ثقافية وجمالية لها: سلاسة التعبير، وبساطة التصوير، وتكثيف اللحظة. صحيحٌ أن تفاوتاً يقع بين الأفلام الـ 3 تلك على مستوى كيفية ترجمة ثلاثية السلاسة والبساطة والتكثيف، إلاّ أنّ المُشاهدة قادرةٌ على تبيان الاعتماد الجماليّ عليها، والتفاوت الفني والدرامي والتقني في استخدامها، في الوقت نفسه. ففي مقابل تمكّن "واجب" من ترجمة الثلاثية في مضمونه وسياقه، بشكلٍ أجمل وأعمق وأهدأ، يخفّ حضورها في "لمّا شفتك"، الذي يبقى أقلّ الأفلام الـ 3 حيوية سينمائية (رغم أهمية أسئلته)، بينما يكشف "ملح هذا البحر" عن استجابته لها في أكثر من مشهد ولقطة وحالةٍ.

هذه ملاحظات نقدية تحاول إيجاد منفذٍ إلى عالم سينمائيّ، تصنعه آن ـ ماري جاسر عبر مسار يجمع جماليةَ لغةٍ بوقائعِ عيشٍ، ويطرح أسئلة خاصّة تكشف، في لحظات عديدة، مدى اتّساعها الإنساني والفني والدراميّ.

 

ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"