أيّام قرطاج السّينمائيّة: رهانات ثقافيّة يرافقها أكثر من سؤال

أشرف القرقني 17 نوفمبر 2017
سينما
فيلم قطار الملح والسكر

أشرف القرقني

 

 

 

انطلقت في الرّابع من تشرين الثّاني/ نوفمبر الحاليّ الدّورة الثّامنة والعشرون من مهرجان أيّام قرطاج السّينمائيّة. واختتمت منذ أيّام قليلة في الحادي عشر من نفس الشّهر، حاملةً عناوين رئيسيّة وأهدافا كبرى، لعلّ أبرزها حسب ما جاء على لسان مديرها العامّ نجيب عيّاد، "تنمية السّينماءات العربيّة والإفريقيّة" بوصفها المهمّة الأولى لهذا المهرجان، والتي تمثّل "العودة إلى الأهداف الرّئيسيّة التي بعثت من أجلها هذه الأيّام".

وفي عمليّة استباقيّة للنّاشطين السّينمائيّين والمتابعين الذي تساءلوا عن سبب هذه العودة، يصرّح نجيب عيّاد قائلا إنّ هذه الأهداف "هي دون منازع أهداف العصر: تنمية السّينماءات العربيّة والإفريقيّة. وتشجيعها من خلال المسابقات، واستعادة المسابقة الرّسميّة للأفلام الوثائقيّة، ومضاعفة الجوائز الماليّة المسندة، فضلا عن تسليط الأضواء على التّجارب السّينمائيّة المبتكرة، إرساء شبكة للفاعلين في قطاع السّينما حتّى تكون قوّة معارضة فعّالة وتنظيم لقاءات مجدّدة وذات جدوى لصالح أهل المهنة ومحبّي السّينما".

ويعتبر المشرفون على هذه الدّورة أنّ إعلانهم لهذه المهمّة والعودة إلى الجذور التّأسيسيّة للمهرجان لا يعني نفيا للجهود السّابقة التي قدّمها المشرفون على الدّورات المنقضية، وإنّما حرصا على توكيدها وذهابا بها إلى ممكناتها القصوى. وقد تمّ العمل بناء على ذلك من أجل ترجمة هذه الخيارات في مستوى فقرات المهرجان وفعاليّاته.

فيلم الافتتاح:

اختير من أجل افتتاح المهرجان، عرض شريط "كتابة على الثّلج" لمخرجه الفلسطينيّ رشيد مشهراوي، مخرجٌ يعمل في رام الله، حيث أسّس مركز إنتاج وتوزيع السّينما عام 1996، معلنا مشروع إنتاج أفلام محلّيّة وتوزيعها في مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين. ومثل العديد من الأفلام التي وقع انتخابها في هذه الدّورة، يعرض الشّريط وعيا نقديّا للوضع الفلسطينيّ ومقاربة تختلف عن ضفّتي التّحزّب المألوفتين في غياب الانتباه إلى جدليّات تحكم واقعنا. هذه المقاربة توجّه سهمها إلى الانقسامات الدّاخليّة الفلسطينيّة ورفض الاختلاف والتّنوّع الدّاخليّ من خلال أحداث تقع في ليلة واحدة داخل شقّة صغيرة بقطاع غزّة أثناء العدوان. ويساهم هذا التّصدّع الدّاخليّ القائم على دحض الآخر الذي هو عنصر من عناصر الذّات الثّقافيّة والوطنيّة في إنهاك المقاومة ضدّ المحتلّ.

إنّه اختيار حاز على اهتمام نقديّ ومتابعة جماهيريّة مميّزة. ويعتبر فاتحة لإجراء الأهداف المعلنة. كما تجدر الإشارة إلى الاشتراك في مستوى الإنتاج، بالنّسبة إلى هذا الشّريط، وللمرّة الثّانية على التّوالي، مع المنتج التّونسيّ حبيب عطيّة الذي يواصل مهمّة استهلّها والده بهاء الدّين عطيّة، أحد الأعلام المؤسّسين  للسّينما التّونسيّة.

المسابقات الرّسميّة:

عرفت المسابقات الرّسميّة، سواء تلك التي تعلّقت بالأفلام الرّوائيّة الطّويلة والقصيرة أم الأفلام الوثائقيّة بشقّيها أم العمل الأوّل (جائزة الطّاهر شريعة) تنوّعا كبيرا في مستوى أفلامها من حيث التّجارب الإخراجيّة وأصولها وتوجّهاتها وخياراتها الجماليّة. لكنّها اشتركت في جلّها في مستوى فنّيّ محترم جدّا، جعل التّوقّعات في مستوى الجوائز تخيّب أحيانا وتصحّ في حالات أخرى. كما عكس جدلا موسّعا في ووسائل الإعلام ومواقع التّواصل الاجتماعيّ في حال بعض الأفلام المعيّنة لأسباب قد لا تتعلّق دائما بالفيلم ورؤيته وإنّما بمخرجه أو منتجه كما هو الحال مع فيلم "قضيّة 23" على سبيل المثال.

وقد تمّ الإعلان في الحفل الاختتاميّ عن نتائج هذه المسابقات وقرارات لجان تحكيمها المنتسبة بدورها إلى مدارس سينمائيّة وأقطار شديدة التّنوّع. فجاءت الجوائز على النّحو التّالي:

الفيلم الرّوائيّ الطّويل

-التّانيت الذّهبيّ: شريط "قطار الملح والسّكّر" لمخرجه ليسينيو أزيفيدو من الموزمبيق.

-التّانيت الفضّيّ: شريط "المتعلّمون" لمخرجه جون ترنقوف من جنوب أفريقيا

-التّانيت البرونزيّ: شريط "وليلي" لمخرجه فوزي بنسعيدي من المغرب

الفيلم الرّوائيّ القصير

التّانيت الذّهبيّ: شريط "آية" لمخرجته مفيدة فضيلة من تونس.

التّانيت الفضّيّ: شريط "دمْ دمْ" لمخرجيه بابي بونامي لوبي (السينغال)، مارك ريشيا (لوكسمبورغ) وكريستوف رولين (بلجيكيا).

-التّانيت البرونزيّ: شريط "ونس" لمخرجه أحمد نادر من مصر.

وينضاف إلى هذه الجوائز الثّلاثة ، تنويه بشريط "أسرار الرّيح" للمخرجة التّونسيّة إيمان النّاصريّ.

الفيلم الوثائقيّ الطّويل

التّانيت الذّهبيّ: شريط "كورو دو باكورو" لمخرجه سمبليس قانو هرمان البوركيني.

التّانيت الفضّيّ: شريط "كيمتيو-الشيخ أنتا" لمخرجه عصمان وليام مباي من السينغال.

التّانيت البرونزيّ: شريط "في الظّلّ" لمخرجته ندى مازني حفيّظ من تونس.

تنويه خاصّ:  شريط "اصطياد الأشباح" لمخرجه رائد أندوني من فلسطين.

الفيلم الوثائقيّ القصير:

التّانيت الذّهبيّ: شريط "جاكنسون" للمخرجة ليندا ليلى دياتا وجون مارك بوتو من نيجيريا

التّانيت الفضّيّ: شريط "لا مرافئ للقوارب الصّغيرة" للمخرجة اللبنانيّة جويل أبو شبكة.

التانيت البرونزيّ: شريط "غزّة بعيونهنّ" للمخرجتين مي العدة وريهام غزالي من فلسطين.

تنويه خاصّ: شريط "صوت الشّارع" للمخرجة منال قاطري من تونس.

ومن اللافت للنّظر أنّ عددا كبيرا من المتحصّلين على جوائز المسابقات الرّسميّة أو المسابقات الأخرى والتكريمات المخصوصة، مثل جائزة أحسن ممثّل وأحسن موسيقى تصويريّة، هم من المخرجبن والسينمائيين الشّباب الذين يملكون مشروعا وتوجّها مميّزا من قبيل المخرجة الفلسطينيّة مي العدّة التي أسّست شركة "عودة للأفلام" في رام الله بهدف إنتاج وتوزيع الأفلام الوثائقيّة والأفلام الرّوائيّة المستقلّة في المنطقة أو تشوبر كابمبي من الكونغو الدّيمقراطيّة، والذي يعتبر أحد أبرز الوجوه السّينمائيّة الأفريقيّة من الجيل الجديد وكذلك وليد مطار من تونس الذي حاز فيلمه على أكثر من جائزة خاصّة: جائزة طاهر شريعة لأحسن عمل أوّل،  جائزة   TV5 Mondeلأحسن عمل أوّل وجائزة علي بن عبد الله للصّورة ممثّلة في شخص المشرف على التصوير مارتان ريت.

 

جدل:  

ظهرت أثناء فعاليّات الدّورة جدالات عديدة تفرّقت بين الشّارع وقاعات السّينما ومواقع التّواصل الاجتماعيّ. وتدور جلّها حول عدد من الأفلام من حيث القضايا التي تطرحها أو مخرجيهم وتوجّهاتهم الفكرية والسياسية، من قبيل اعتراض العديد من المتابعين على مشاركة وتتويج فيلم "في الظّلّ" لندى مازني حفيّظ باعتباره فيلما "بذيئا" في نظر البعض أو خاليا من أيّ عمق في نظر آخرين. وموضوع الفيلم هو حياة المثليّين الجنسيّين في تونس وطريقة حضورهم في المجتمع أمام الرّفض الذي يواجهونه.

وقد علّق رئيس لجنة التحكيم للأفلام الوثائقيّة الطويلة تيرّي ميشال على هذه المسألة قائلا: " لقد تجرّأت المخرجة على خلق هذا الوثائقيّ. وكانت لجنة التنظيم جريئة في برمجته. وحتّى لجنة التحكيم تملك الجرأة لتكرينة وتتويجه".

 بالإضافة إلى هذا الفيلم، هيمن على نقاشات الجي سي سي كما يلقّبها التّونسيّون، موضوع شريط "القضيّة رقم 23" لمخرجه اللبناني زياد دويري. وقد لقي هذا الفيلم في بلد المخرج ترحيبا هامّا لما صوّره من مشاكل عميقة في بنية المجتمع اللبناني، مشاكل مسكوت عنها ومدفوعة قسرا إلى الظلّ.

لكنّ الجدل الحاصل أيّام قرطاج السّينمائية تركّز حول المخرج زياد الدويري واتّهامه باتّخاذ موقف مهادن للاحتلال الصّهيونيّ، استنادا إلى معطيات مختلفة. وقد بلغ الأمر أن طالب سينمائيّون تونسيّون بالإضافة إلى عدد من الجمهور بمنع عرضه، الأمر الذي لم يتحقّق. وفي المقابل، تحدّث صحفيّون ومبدعون عديدون عن أهمّيّة الفيلم فنّيّا ورؤيويّا وعن استحقاقه لجائزة من بين جوائز الأيّام.

ومن الجدير بالذّكر، أنّ "القضيّة 23" التي هي محلّ نزاع بين مواطنين لبنانيّين أحدهما مسلم من أصول فلسطينيّة والآخر مسيحيّ يتجاوران في السّكن. وينشأ بينهما عراك، يتحوّل إلى قضيّة عدليّة تتحوّل بدورها  إلى قضيّة كبرى في ظلّ توسّعها وتعاطف عناصر عديدة مع الطّرفين، لنكتشف أنّ التّوتّر الدّراميّ يتجاوز الشّخصيّتين ويتّخذ تقاطعات عديدة، من بينها علاقة أب وابنته تفرّق كلّ منهما بين نيابة المشتكي ونيابة الدّفاع.

الانتماء الدّينيّ المختلف وما يمكن أن يحدثه من تصدّع في مجتمعاتنا العربيّة، الحروب التي عانينا منها طويلا وأفرزت تعقيداتها وتناقضاتها والإنسانيّ الذي ينتظم كلّ هذا... هذه هي الإشكالات التي ينبني عليها الشريط ويطرحها في إيقاع فيلميّ يجانسها وسرد محكم وأداء تمثيليّ مميّز.

 

سينما العالم/ تحت المجهر

تعدّدت فقرات المهرجان الأخرى التي توازي المسابقات الرّسميّة والتي تشكّل ثراء الأيّام وتعكس توجّهاتها. فكانت "نظرة على السّينما التّونسيّة" مركّزة على جهود المخرجين الشّباب خصوصا و "قرطاج السّينما الواعدة" التي فتحت اهتمامها على مخرجين عرب من مصر والمغرب ولبنان والعراق وأفلامهم القصيرة المنتجة حديثا. ولعلّ أبرز قسمين يمكن التّطرّق إليهما في هذا السّياق، قسم سينما العالم التي واكبت أفلاما من تركيا (شريطين)، إيطاليا، ألمانيا (3 أشرطة)، السّويد/ الدّانمارك، فنلندا، فرنسا، بلجيكيا، اليونان، قطر، المملكة المتّحدة وسلوفينيا. أمّا القسم الثّاني فهو في حدّ ذاته متفرّع إلى أربعة عناصر تجمعها لفظة  Focusبمعنى التبئير في الاصطلاح السينمائيّ، ومفاده التّركيز والاحتفاء بسينما معيّنة وتخصيص مجال واسع لمشاهدة أبرز أفلامها ومناقشتها.

وفي هذا الخضمّ كان هناك احتفاء مخصوص بالسّينما الآسيويّة، الأمريكيّة اللاتينيّة، السّينما الجزائريّة تخصيصا وكذلك السّينما الجنوب إفريقيّة والكوريّة الجنوبيّة والأرجنتينيّة.

وعلى هذا النّحو يرى المشرفون أنّهم قد التزموا بما رسموه لأنفسهم من اهتمام بالسينماءات المهمّشة نوعا مّا الخارجة عن المركز وغير المهيمنة على السّوق، تلك السّينما التي تقترن أكثر بهواجس الإبداع والتّفكير في الإشكالات الرّاهنة لشعوبها والإنسان المعاصر عموما. وانطلاقا من الرّؤية نفسها، امتدّت أيّام قرطاج السّينما إلى أكثر من سجن مدنيّ في البلاد التونسيّة لتقدّم برمجة مخصوصة خلف الأبواب الموصدة.