سيزار رائد النحت المعاصر في مركز بومبيدو

أسعد عرابي 15 ديسمبر 2017
كل تراث سيزار على عملقته وخصوبته في معرض استعادي في متحف الفن المعاصر في مركز جورج بومبيدو، بمناسبة إحياء الذكرى العشرين على وفاته (مولود في منطقة مارسيليا عام 1921، واستقر في باريس شاباً لا يتجاوز الخامسة والعشرين حتى توفي فيها عن عمر الستة والسبعين عاماً عام 1998). المعرض هو الأول من نوعه فقد تجنبت الإدارة السابقة ذكره أو عرضه رغم شهرته حتى تغيرت الإدارة فكانت ضخامة المعرض الراهن نوعاً من التعويض عن هذا التقصير المزاجي عقوداً من الزمان. 

 

يبتدئ العرض منذ 13 ديسمبر/ أيلول 2017 مستمراً حتى نهاية مارس / آذار من العام المقبل.

لعل سيزار أشهر فنان في أوروبا والعالم، لا ينافس سعة انتشاره سوى بيكاسو، وأبلغ مثال على نجوميته الشمولية هذه، جائزة مهرجان السينما السنوي في مدينة كان والتي سميت باسمه وصمم جائزتها العالمية في حينها من رقائق الذهب المضغوط آلياً على طريقته قبل صقله.

 

استبدل منذ بدايته في الأربعينيات المواد النحتية النبيلة (أي الحجر والبرونز) بمستهلكات البقايا الصناعية لأنواع نتف وشظايا المعادن، بدأها من لحام صفائحها بحيث تمثّل الحيوانات الرمزية وبطريقته التعبيرية الدادائية المؤثرة.

 

لعلّ أبرز هذه الحيوانات الأسطورية التي راجعها مراراً مستلهماً إياها من استثمار بيكاسو لهذه النماذج نصف الآدمية ونصف الحيوانية مثل المونيتور والسانتور. استثمر الأخير بشتى المواد الجصية وسواها، ليمثل الانسان الشمولي الإغريقي الملتحم مع الفرس (الحصان المقدس) الممتد خلف جسده البشري. من هذه الحيوانات الكلاب وأنواع الطيور الجارحة مثل الصقر والديك (عام 1948) والقطة والوطواط (1954) ثم الرجل والطير(1954) ثم الشيطان (1956) ثم الآلهة الأم (إلهة الخصوبة) بقدمين نحيلتين (1956) إنتهاءً بمجموعة السانتور (1984). تشير هذه التواريخ المتباعدة إلى أن أسلوبه التشخيصي الحاد لم يفارقه في شتى مراحله التجريدية، يشبه أسلوبياً الخط الموازي التعريفي بذاكرته الإبداعية الرائدة.

 

سيزار شخصية ميثولوجية تشبه رأسه الساخر الأقرب إلى رؤوس الإغريق مع نظارته الفلكية (المستلهمة من الساعات الشمسية القديمة). يتميز بذكاء وموهبة خارقة لا تقل عن موهبة رودان النحتية. يعترف بفضل النحات كونزاليس في اختراع اللغة المعدنية في النحت، وأنواع ملصقاتها الاستهلاكية. واستخدام عملية اللحام بالنار لصهر ولصق زواياها.

 



بيير ريستاني و"الواقعية الجديدة"

 

يتمثل الانعطاف الأسلوبي الحاسم منذ بداية الستينات بتلبية سيزار لدعوة أبرز ناقد فرنسي في العالم، بيير ريستاني للإنضمام إلى جماعة "الواقعية الجديدة" إلى جانب بعض كبار الفنانين الفرنسيين ومنهم إيف كلاين وآرمان وهين وروتيلا وكريستو وتانغلي وسان فال وغيرهم. ثم وبعد عام من تأسيس ومعارض هذه الجماعة، يؤلف ريستاني كتابه الشهير يشرح فيه معنى الواقعية الجديدة التي جمعت هؤلاء وعلى رأسهم سيزار، هو الذي يرجع إليه فضل التفسير العملي الفني للمجموعة، عندما تناول أواني الفنان موراندي في لوحته، وبحث عن أواني تشبهها في نفايات المجمعات المعدنية، ثم يمررها تحت مكبس ميكانيكي ثم يلصقها مضغوطة على صفيحة معدنية، فكان لهذا الحدث فضل أول بشارة باستبدال الواقعية الجديدة : الوهم التصويري للطبيعة الصامتة بالتجهيزات المسبقة أي الواقعية مادياً، أي أنه استبدل واسطة "لوحة الحامل" التقليدية بالتجهيزات "الدادائية" المحدثة.

 

يقيم ريستاني ابتداءً من العالم 1962 معرضين لفناني الواقعية الجديدة في نيويورك ضمن إطار تبادل المعارض مع جماعة "البوب آرت" الأميريك الأقرب إلى تبشيره، لعله أول مصالحة ما بين عاصمتي الفن المعاصر: باريس ونيويورك لما بعد الحرب العالمية الثانية. نلاحظ تأثر الطرفين أسلوبياً ببعضهما. تظاهر في مقدمة هذا التأثير المتبادل سيزار (أصبح قريباً من البوب آرت في مصبوباته، خاصة باهمه العملاق بارتفاع 185س) وروشنبرغ من الطرف الأميركي الذي أصبح في تجهيزاته أقرب إلى الدادائية المحدثة الفرنسية وهكذا.

أصبح إذن هناك تحولٌ من المادة الاستهلاكية إلى شيء آخر بواسطة الآلة الصناعية أو الرقمية، وانحسر بالتالي التدخل اليدوي أو الحرفي.


 

نجد تجربة سيزار في عام ١٩٦٨ تنعطف باتجاه اكتشاف جديد، هو قدرة بعض المواد (من اللدائن البترولية نصف السائلة) على التمدد (مثل السيلان البركاني)، أصبح الحدث أو الفعل الإبداعي في هذه الحالة مستقلاً عن حسية المبدع، لأنه أقرب إلى قيادة مفاهيم إدراكية، مع التحول من الاستهلاك إلى الوظائف الجمالية المستقبلية في النحت. هو ما يعنيه سيزار بقوله في أكثر من مناسبة، بأنه "عصامي بصيغة مطلقة"، أي أنه ينتهل في ممارسته الفنية لكل ما هو خارج عن المألوف في التعليم الفني السابق. فالجدة والاختلاف مع الذاكرة أصبح هدفاً عبثياً (دادائياً) بحد ذاته. لكن هذا المنحى المغامر والخطر لم يعرض سمعة نحاتنا للجنوح أو المجانية، لأنه كما ذكرت في المقدمة يصرّ على أن يمارس نحته التقليدي الميثولوجي بصيغة متزامنة، تثبت كل مرة أن موهبته التقنية تتفوق على طموحه الطليعي أو الريادي، وهو ما نخلص إليه بالنتيجة عندما نتجول في بانورامية المعرض العملاق، أن موقع سيزار يظل متقدماً بقياس الحداثة وما بعدها، بل إن شهرته (التي تماثل نظيره الأسبق بابلو بيكاسو) تعتمد أكثر من موهبته الواثقة على شجاعته التجريبية التي تشارف حدود المخاطرة بسمعته.