الفوتوغرافي جعفر المرعي: صور تنمو خارج الوقت
الناس الذين يخشون الكاميرا ويبدون مرتبكين أمامها يتحولون في مختبر المرعي إلى فضاء آخر، وكأنّهم خارجون من عدسته كجزء أساسيّ منها، اعتادوا عليها وحفظوا وقفاتهم أمامها منذ زمن، هنا تظهر واحدة من أدوات المصور الشاب لتقديم صورته من فرن الحكايات اليومية، فإذا ما أمعنا النظر في القدرة الهائلة للأشخاص العاديين والنمطيين في خلق جدلية الحياة سنعلم لمَ من المهم اليوم التركيز على المألوف والعادي لنخلق تصورنا الحقيقي عن العالم. هكذا تتكوّن الجمالية من العفوية والثقة المطلقة، إنّها ثقة الحياة، معرفة المكان واللغة وتعبيرات الحياة، وإذا ما كانت الصور المثالية للوجوه والملابس والوقفات تحتل عالم التصوير، مع جعفر ننتقل لمستوى آخر، إنّها الوجوه التي لن ننبهر بها للوهلة الأولى إنما سنغوص في تفاصيلها على مراحل، تشدّنا بغموضها، إنّها حالة الوعي للموجود من حولنا، للأدوات البسيطة إنما الغنية إنسانياً وفكرياً حتى تلك التي تجعل من الهيئة البشرية قالباً لفهم الرغبات والمشاعر بعيداً عن البهرجة البصرية.
التمازج بين الأسود والأبيض، وحركية الظل والنور، في التركيز على الأسود يجعلنا نغوص فيه، اللانهائي والمجهول في مقابل الأبيض السهل، الأليف والآمن، الأبيض حيث نجد الملامح والشكل المنتظر، الذي يساعد الأسود على إدراكه أكثر، الأسود حيث تختبئ الاحتمالات والحيوات المجهولة، هكذا يُقَدّم الإطار المبدئي للصورة ليشتمل لاحقاً على تناغم عميق للرؤية المكانية التي تضيف دعماً للمشهد من غير تدخل صريح ليغدو الشخص والمكان مكوناً لجدلية الألفة المخيفة.
يركز جعفر على جعل العناصر الضعيفة من حولنا إطاراً فنياً مقنعاً، هناك شيء ليس على ما يرام في الأجواء، هناك تهديد للوجوه، للأماكن، حتى في اللقطات الأكثر سلاماً، إلّا أن شغب العدسة يبدو جلياً في التقاطته المربكة، لينقل القلق وتشوش الأشخاص عبر آلية تناقض اللونين الأسود والأبيض، فالكادر شبه معتم يكمن داخله العبث، وهكذا يترجم اليومي إلى شرائح متجاورة، يقول في هذا الجانب: "أحب تصوير الأشياء البشعة في الحياة، مظاهر التعب والحزن والخوف، إنها مساحتي وخصوصاً عندما تتحول للأبيض والأسود"، وما إن نغوص أكثر سيتكشف الجزء الآخر من الشخصية، ذلك أن تعقيد الشخصيات العادية هو في ما تُظهر وفي ما تخفي وكأنّ الكادر المعتم هو أفكارها وحياتها ومخاوفها. الفضاء المكاني حيث تدور قصص جعفر المفضّلة والمحبوكة جيداً، يدعم الرؤية السردية للعمل، فالعمل الفوتوغرافي هو القصة التي نتخيلها حسب مرجعياتنا الفكرية وتبعاً لما يدعمه العمل الفني لهذه الرؤية.
الشخص العادي إذاً، هو من يمتلك الصورة، لكن أيّ شخص؟ شخوص متنوعون في سحناتهم وأوجاعهم المخفيّة، حائرون في بعض الأحيان وفي أحيانٍ أخرى متماسكون لكن هو ذلك التماسك الذي يتعلق ببيئاتهم، بأدراكهم العالم وبعلاقتهم به، يردد معقباً على صورة تجمع عجوزين يجلسان على درجٍ: "عندما تنظرين إلى هذه الصورة تشعرين بملل، بتعب وكآبة، بانتظار اللاشيء، إنها عناصر تنمو خارج الوقت" ومن هنا تظهر مهارة جعفر في إظهار التنوع الفكري من خلال الوجوه وما تخفي خلفها من هواجس وأحلام ومخاوف في لحظاتها العارية من أي تصنّع. فخصوصية الصورة إذاً تأتي من الجمالية المنبثقة، من اللامتوقع في نظرة الآخر لنا أو في تطلعه لمحيطه الذي يعكس رؤيته كذلك. لا نعلم ماذا سيفعل هذا الفوتوغرافي في أرشيفه المتراكم، ومتى تأتيه الفرصة كي يخرجه من غرفة التحميض إلى الضوء؟