التشكيلية السورية إقبال قارصلي امرأة الورد الجوري

سامر إسماعيل 29 سبتمبر 2017
لا يمكننا الحديث عن البدايات الأولى للفن التشكيلي السوري من دون أن نذكر الفنانة إقبال قارصلي التي عاشت حياة قصيرة، تمكنت من خلالها أن تربي أطفالاً أضحوا أسماء مهمة في الابداع السوري مثل الرسام الراحل وليد قارصلي، والسينمائي المبدع محمد قارصلي. وقد كانت الفنانة قارصلي مبدعة تجاوزت عصرها في الرؤية للواقع، وعبرت عن مرحلة مهمة من تاريخ سورية.

 

طفلة أخفت ثائرًا

ولدت الفنانة إقبال محمد ناجي قارصلي في دمشق عام 1925 وعاشت طفولتها ودرست في ريف دمشق قرية الزبداني، حيث كان يعمل والدها مديراً للمدرسة هناك. كانت إقبال في طفولتها تتميز بمسؤولية عالية، وفي أول تجربة لها وهي طفلة قامت بإخفاء ثائرٍ ضد الاحتلال الفرنسي وأخفته في مستودع الحطب وعالجته وأطعمته دون أن يشعر أحد بذلك. وفي تلك المرحلة من الطفولة، كانت تميل نحو التطريز الذي تفوقت فيه، وكانت ميولها واضحة نحو الرسم الذي سيكون مستقبلها فيما بعد.

تتزوج إقبال وهي في الخامسة عشرة من العمر برجلٍ يكبرها بما يقارب ثلاثين سنة، وترحل معه لتعيش في تدمر وسط البادية السورية لمدة 11 عاماً (1940 -1950)، حيث كان زوجها موظفاً هناك. وفي ذلك المكان، تتغير حياتها بعد أن تم إعطاء الزوج منزلاً كان يسكنه ضابط فرنسي هاوٍ للرسم، وقد نسخ العديد من الأعمال الكلاسيكية على جدران المنزل، وقد شكل ذلك لها عالماً من الدهشة والمفاجأة. لكن هذه الرسوم كانت لا تليق بموظفٍ موقرٍ، وهو ما جعل الزوج يأمر بطلاء الجدران. ولم تنم إقبال يومذاك إلا بعد أن سهرت حتى الفجر وألبست النساء العاريات الزي العربي، وأضافت غطاء لرأس فينوس وتفاصيل أخرى من الطبيعة التدمرية.

 




تجربة فريدة

تتبلور تجربة الفنانة في فترة الاستعمار الفرنسي، وكانت تطور ذاتها في الرسم بقلم الرصاص والفحم، وفيما بعد بالألوان التي كانت تصنعها بنفسها. كما قرأت الكثير من الكتب لتكون فنانة وإنسانة متقدمة على مجتمعها، فكانت في بداية الخمسينيات أول امرأة تشارك في المعرض السنوي بدمشق مع عشرة فنانين سوريين. ورغم اعتراض مجتمعها عليها في مزاولة فن الرسم  دعت لتحرير المرأة ونشطت اجتماعيًا في سبيل ذلك كما ساهمت بفعالية في محو الأمية.

 

أقامت إقبال قارصلي العديد من المعارض في سورية وخارجها وهي الفنانة الوحيدة التي وثّقت بلوحاتها الحملة المحتلة ويوجد منها لوحتان لدى ابنها، وهي أول فنانة تقيم معرضاً في الطبقة في بداية إنشاء سد الفرات. كما أنها أيضا أول فنانة يقتني متحف الأرميتاج أعمالها. وبعد سلسلةٍ من النشاطات الفنية، تصاب الفنانة بمرضٍ يأتي على شكل غيبوبةٍ وتشنجاتٍ مرهقةٍ مما أدى لذهابها الى أوروبا لتلقي العلاج، وهناك أقامت العديد من المعارض واختيرت عضواً فخرياً في اتحاد الفنانين الألمان.

 

لقد كان قدراً مكتوباً على إقبال ان تترك مزاولة الرسم بالألوان الزيتية التي هي أحد أسباب مرضها فركضت حينها تسابق الزمن قبل أن يدركها الموت لتنتج عدداً من الأعمال بغية التحضير لمعرضٍ لها. وكانت تعمل ليل نهار، ولكن عند اللوحة السابعة والثلاثين التي لم تكملها تمكّن منها المرض وأوقف قلبها عن الحياة عام 1969 نتيجة تسمم مزمن بسبب مادة الرصاص الموجودة في الألوان الزيتية. والمفارقة، كما يقول ابنها الدكتور محمد قارصلي، هي (أن الرسم الذي انتشلها من الجهل والاستسلام لمصير المرأة التقليدي، أن الرسم الذي أعطى لحياتها معنى هو الذي قد يأخذ هذه الحياة وينهيها).

 

إقبال الرسامة


تعود تجربة الفنانة الفعلية الى بداية الخمسينيات من القرن المنصرم حيث دأبت على المشاركة في المعارض الجماعية. وكان معرضها الفردي الأول عام 1964، الذي يعد علامة بارزة باعتباره أول معرض فردي تقيمه تشكيلية سورية وحدها. وكأي فنان هاوٍ، كانت تتسم أعمالها في هذه الفترة بالبساطة والميل نحو الواقعية، متأثرة حينها بالفن الكلاسيكي الأوروبي، إذ ربما لم يتح لها آنذاك الاطلاع على فنون الحداثة مثل الانطباعية التي تأثرت بها فيما بعد، لكنها في ذلك الوقت كانت مهتمة بالظلال والدرجات اللونية التي يعكسها الضوء، فاعتمدت أحياناً على تدرجات اللون الواحد دون إضفاء ملونات ناتجة عن علاقة الشكل مع المحيط. إن أهمية تجربتها تكمن في حضورها الفني في الخمسينيات حين شهدت سورية تبلوراً ونضوجاً على مختلف المستويات الإبداعية.

 

في فترة الستينيات تحقق الفنانة نقلة نوعية وتتطور تجربتها في دراسة الشكل من حيث اللون ودراسة والحجم والتكوين، وذلك ناتج عن انفتاحها على الثقافة البصرية الغربية. لكن هذا التأثر لم يتجاوز التعبيرية والانطباعية، مضافاً إليهما سمات الفنانة التي تجلت بشاعرية وغنائية خاصة. ولم تمِل الفنانة نحو الفن التجريدي لكنها مالت نحو اللعب باللون، وأيضاً استهواها التجريب والبحث التقني، فاشتغلت على التأثيرات التي تتركها العجائن والسماكات اللونية وأحياناً من خلال كشط اللون في عدد من الأعمال.

 

إقبال قارصلي هي مثل العديد من الفنانين الذين تعايشوا مع الريف، وتأثروا به، فكان للزبداني حضور في ذاكرتها، وهو ما أسس ربما لجمالية ارتكزت عليها في العديد من الأعمال التي تناولت الطبيعة مثل لوحة (معلولا - طريق الديماس). وكان لجمال لوحاتها الطبيعية تأثير جعل الكاتبة اعتدال رافع تسميها "امرأة الورد الجوري". وفي هذه الأعمال وغيرها عبرت الفنانة عن نبضها وحساسيتها العالية اتجاه اللون، وهي أعمال لا تقل أهمية عن الأعمال العالمية. وفي جانب آخر من تجربتها الفنية، عبرت فيه عما يحدث في سورية من حراك سياسي ووطني فاشتغلت العديد من الأعمال التي تناولت القضايا الوطنية  مثل لوحات (الثورة السورية الكبرى – إلى متى – نازحات). كما تناولت الفنانة موضوعات مثل البورتريه والزهور وغيرها. وفي تلك المحاور تشكلت تجربتها بعمق وبحث جمالي ساهم في إرساء الذاكرة البصرية للفن التشكيلي السوري مع الرواد الآخرين. إن إقبال قارصلي صنعت حياتها وفنها وحققت حضوراً عربياً وعالمياً.