زلزال حلب والبركان التعبيري لدى زهير دباغ

أسعد عرابي 30 سبتمبر 2017

 

أقامت صالة "أوربيا" معرضاً شخصياً للنحات السوري المعروف زهير دباغ. وذلك ابتداءً من الرابع عشر من سبتمبر/ أيلول مستمراً حتى منتصف تشرين الأول/ أكتوبر من العام الراهن ٢٠١٧.

 

حفل المعرض بعدة مفاجآت جعلت منه حدثاً مفصلياً ضمن عروض هذه الصالة التي تضاعف اهتمامها بالفنانين السوريين إثر "القيامة الشامية" والحرب الأهلية.

 

والفنان من مواليد حلب القديمة عام ١٩٥٣، هي التي مسح القصف ذاكرتها المعمارية الاستثنائية الزاهية. عاش في كنف حميمية حاراتها العتيقة منذ تفتحه على العالم، وبدأ التصوير شاباً في مناخها السرمدي، متأثراً برهافته الإبداعية بأجوائها الإسطورية حتى النخاع الشوكي، وانتقلت هذه الروح الميتافيزيقية إلى أعماله التصويرية قبل أن يسافر إلى دمشق ويدرس في كلية الفنون قسم النحت.

تخرّجَ عام ١٩٧٧، وعُرفَ بالتزامه الأيديولوجي اليساري مبكراً وما زال.

 



المفاجأة الأولى: أصالة مستوى المعروضات وعلو تقنيتها بعد انقطاعه عن ممارسة الفن سنوات طويلة وانشغاله بتحصيل لقمة العيش وتأمين مورد العائلة، من خلال تصميم الديكورات الناشطة في حلب، أو مساعدة زوجته في صيدليتها. ما خلا مشاركاته في معارض جماعية بالغة الأهمية. لذلك فهو المعرض الأول الشخصي في باريس. أراهن بأنه سيأخذ موقفه الحرفي بسرعة.

المفاجأة الثانية: أنه يغلب على المعرض التصوير وليس النحت الذي كان متفوقاً فيه، يعانق المعرض مع ذلك ثلاث منحوتات برونزية مخضرّة منخورة التعبير متوسطة الحجم إلى جانب واحدة وعشرين لوحة تربيعية ملونة متواضعة النسب بدورها. تختنق بنفس الأجساد الشبحية المأزومة.

 

يبرر هو ذلك بأنه ابتدأ مهنته قبل المرحلة الدراسية مصوراً، ولكنه عُرف كنحات، وها هو اليوم لا يفرق بين الاثنين، يملك الطرفان نفس الحساسية التشكيلية، خاصة الميتافيزيقية التراجيدية، خاصة وأنه ينحت أديم قماشة اللوحة بمواد وعجائن صباغية كثيفة وأقرب إلى النحت "الغائر - النافر"، معتمداً في إنهاء العمل الفني على تراكم طبقات التعديل والإلغاء والهدم والبناء، سواء بمراجعة الخطوط أم بتعديل ملامس السطوح وتنوع درجات خشونتها ونسيجها اللمسي المحسوس.

 



حضرني بالتداعي والتناظر أعمال لفنان فرنسي أقرب إلى التجريد هو "جان فوترييه" ولم يعارضني زهير عندما صارحته بذلك. يعاني جان مثله أولاً من أتون الحرب وعبثيتها ومجانية القتل فيها، فقد عيّنه المسؤولون في الحرب العالمية الثانية خلال خدمته العسكرية، على رهافته الفنية، ضمن الفرقة المكلفة بإعدام الأسرى أو المحكومين، وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى بدأ جان فوترييه يصور رؤوس هؤلاء الذين شارك بإعدامهم، بحيث تبدو بؤرة التكوين وكأنها منحوتة بعجائن الضوء الأبيض الكفيلة بإفناء الملامح الدلالية (السيميولوجية) للرؤوس.

 

لوحات زهير تعتمد مثله على رسم شخوص شبحية تتخلق من فناء هذه الأرضية الضوئية الكثيفة، بحيث تتراوح هيآتهم بين الغياب - وغلبة التجريد - والحضور، وغلبة تقاليد التعبيرية المحلية، تعاني الخطوط من نفس التراوح البرزخي بين الوجود والعدم مثل بندول الساعة. تعاني من الإلغاء والمحق والمحو بنفس وقت البناء والرسم الواثق والمحكم. لذلك فهو يتوقف في لوحته عند لحظة غير متوقعة، عند ذروة الانفعال الحزين والتأبيني بسبب اقتراب هيئة الشخوص خاصة الأنثوية من الأكفان والأضرحة. لا يهمه بالنتيجة اكتمال اللوحة بالمحسنات البديعية أو الأكاديمية فهو لا يصبو إلى إغراء المتفرج بل إلى استفزازه ونقل شهادة تحريضية إعتراضية عن فظائع حلب بطريقة غير مباشرة.

 

لم ينجز هذه الأعمال في حلب لأنه اضطر أن يتخذ محترفاً في بيروت خلال السنوات الأخيرة، هو ما يفسّر كثافة نشاطه في هذه المدينة واتفاقه مع "غاليري ٥٦" فيها للعرض والتسويق. واضطر أن يستقر فيها مع زوجته بعيداً عن سعير القصف الأعمى والحرب وشذاذ الآفاق، وانكب يعوض توقفه المتقطع عن الفن بتكريسه وقته ليل نهار للإنتاج ؛ النحت والرسم، وخصوبة معارضه في بيروت خلال أكثر من أربع سنوات.

 



من يعرف عن قرب أو بالاحتكاك المباشر عمق أصالة حركة "التعبيرية السورية" يدرك مدى الانتماء الأسلوبي والفلسفي والعضوي والمعاناتي لفن زهير دباغ، لخصائصها المتميّزة المأزومة بالحروب الخارجية والداخلية، لعله آخر فرسانها الذين تتابعوا منذ الخمسينات وعلى رأسهم مدرسة حلب نفسها بمعلمَيها فاتح المدرس ولؤي كيالي تبعهم سعد يكن ووحيد مغاربة وأحمد برهو ودباغ وآخرون. يبدو الانتماء التشكيلي الحلبي متمايزاً ليس فقط أسلوبياً وإنما باللهجة والمزاج ومحبة الحياة وكرم الضيافة، وثراء المدينة حضارياً ما بين قلعتها وحمّاماتها ومطابخها.

 

من يمكنه نسيان الناقد والمبدع الدكتور سلمان قطايه رحمه الله والكاتب الروائي الكافكاوي الذي تركنا مبكراً وهو جورج سالم ومشجّعة الفنون أميمة الزعيم وصاحب غاليري كلمات عدنان الأحمد ومثلهم كثير. تملك هذه الحاضرة مونوبولية الموسيقى الشرقية بمقاماتها وقدودها لنتذكر قائمة منشديها العريقة، من صبري مدلّل وحبوش إلى أديب الدايخ وعمر سرميني والمطربة الكبيرة ميادة حناوي، ثم فرقة الكندي التي شكلها الفرنسي عازف القانون جوليان والذي أصبح إسمه جلال الدين ثم ملك القدود ومن تبعه صباح فخري.

 

مرّت فترة مديدة أصبح فيها الرسام سعد يكن والموسيقار صبري مدلل شريكين في ميدانَي  إبداعهما، صوّر سعد أحوال وجد صبري وطربوشه وآلة عوده وغبطته ودوخانه ومولويته التي تلف مع الفلك الأعلى، وحقق مئات اللوحات والعديد من المعارض خاصة لدى صالة الفنان عصام درويش في دمشق.

 

إنّ خصائص تعبيرية كوكبة حلب جزءٌ لا ينفصل عضوياً عن خصائص التعبيرية السورية، هي التي تتفرع إلى مدارس وأغصان محلية: في دمشق حمّاد وعبدلكي وفائق وفؤاد دحدوح ومصطفى علي ونذير اسماعيل وياسر الصافي ومروان ونذير نبعة وبشار العيسى وبرهان كركوتلي وخيرو حجازي وعاصم باشا. وفي حمص كرم معتوق وإدوار شهدا وعبدالله مراد وغسان نعنع وغسان سباعي وأحمد دراق السباعي. في الساحل نزار صابور وعلي مقوص ومنهل عيسى، وفي حماة نشأت الزعبي ومصطفى النشار وإبراهيم جلل وعلي الصابوني  وأخوه ماجد، وحسكو حسكو، والأسماء التي أفلتت من ذاكرتي الهرمة أكثر من التي تذكرتها.

 

من خصائص هذه التعبيرية: التراوح بين التجريد والتراجيديا الجماعية (ما عدا مروان)، ثم محاولة البعض استعادة الأشكال الموروثة من الحضارات السورية الآرامية والكنعانية والفينيقية وماري ثم رسوم المخطوطات الإسلامية مثل النشار في حماة أو الأيقونات المالكية مثل الياس زيات.

 

البعض ينكر وجود خصائص مشتركة في التعبيرية السورية، يتجاوزون حقيقة أنه أينما وجدت لوحاتهم تعرف بانتمائها الأسلوبي المذكور. واليوم يرسّخ معرض زهير دباغ الفارس الجديد هذه الخصائص التي تقع بين جيل فاتح المدرس وجيل ياسر الصافي، يكفي إذن أن نعيد تأمّل لوحاته. وقد يعطيني بعض المعترضين عندها الحق! ربما!  

 

أشكر معرض زهير دباغ الذي هيّأ لنا فرصة مراجعة إضاءات التعبيرية السورية رغم ما يشوب هامشها من عكر وديماغوجية حزبية منقولة أغلبها عن الرسوم الدعائية الاستهلاكية لمجلات ألمانيا الشرقية قبل سقوط جدار برلين.