محمد القاسمي .. ألبوم معرض أريج حرية

ميشرافي عبد الودود 13 فبراير 2018
تشكيل
الفنان محمد القاسمي

"أتذكر القاسمي...

أتذكر لقاءنا الأول، في باريس بمقهى بولفار راسبي، أراه قادما، صعقني بمظهره على الفور؛ وجه "الفتى الناضج" المعروق، بنظرته الساحرة. وجه بروليتاري بأصوله العريقة، واهتماماته الأرستقراطية. كأنه منحوت بالسكين.

رجل متعدد الوجوه. خجول ورقيق لكن قادر أن يكون عنيفا في نفس الوقت. العنف الذي يجعله يهاجم القماش بضربات كبيرة سريعة قبل أن يضعها جانبا، أو يعود إليها، أو يتخلى عنها بصورة نهائية. إنه العنف الذي يلقي به خارج الحديقة الغناء لمنزله الأستوديو بتمارة، حتى يتمكن من صياغة أسطورة العالم الثالث بشكل أفضل، كبديل للتغريب البرجوازي المتعالي للإبداع المعاصر القادم من الطرف الآخر من هذا العالم الذي عايشه منذ مغادرته مرحلة المراهقة، ولم يسمح لروحه التي تنزع فطريا إلى الثقافة الصوفية بالتحليق. لم يكن متدينا، لكنه امتلك حسا عاليا بالمقدس، ثمة روحانية شكلت أساس عمله.

راسخ الجذور في ثقافته، ومنفتح على جميع الجماليات، سيقوم بالانفتاح بطريقة شخصية جدا على العوالم الأفريقية. وعندما أصبح هذا الفنان الاستثنائي محط اهتمام الكثير من النقاد وجامعي التحف المغاربة والفرنسيين؛ بدأب سيواصل تدوين مذكراته، كتابة نصوص تمثيلية لمشاريعه، وضع رسومات في كل مكان، كتابة القصائد تلو القصائد..مازجا كل ذلك. يرسم دون توقف، يسترد المواد، يعدّ ألواح القار بالقرب من الشاطئ رفقة صديقه عبد الرحمان السجلماسي، يحوّل كل ما تقع عليه يده، يقدم العروض ويحلم بأداء عام عظيم، أو طلبيات عابرة أو دائمة (معظمها لم ير النور)، مثل جمع كل الأسلحة المتروكة في العراق لإقامة منحوتة ضخمة، أو تلوين هرم الجيزة في القاهرة بالصباغة الزرقاء.

هذا هو الفنان المتعدد الوجوه الذي ينتظره المغرب، لكنه لا يعرف ذلك حتى الآن، يشتغل ليل نهار. إذا نظرنا للوراء، يسحرنا هذا السخاء. في الزمن الفعلي أو في حينه، امتلك قدرة  الإغواء الحقيقي على رفاقه وعلى كل من اكتشف عالمه. لكن ليس إلا في 1990، لما بلغ الخمسين، حيث سيسمح لنفسه بأن يكون مختلفا عن أقرانه، وأكثر انشغالا بالقضايا الجمالية من السوق، بالقارة الأفريقية أكثر من أوروبا وأميركا، بالإنسانية أكثر من التمتع بالسلطة، بحركة الفن المعارضة أكثر من الملكية الفردية للأفكار. هذه التعبيرية الجديدة اكتسبها من القارة السمراء. أفريقيا ليست سوى واقعه الجديد الذي أصبح خياره الوحيد، وشعرية لمخياله. صار فنان الصحوة الحاسمة في الفن واتخذ له بعدا آخر. من هذا المنطلق، أخذ يتقدم في كل يوم خطوة جديدة. – من الأفارقة – يعرف بالضبط ماذا يريد أن يظهر منهم ولهم: حصة الحلم.. حلم ينبع من مجتمعات فقيرة، لكنها تمتلك ثروة لا تستنفذ من الأساطير، ومستقبل يمكن أن يكون محملا بنماذج تمثيلية كفيلة بإعادة إدهاش العالم.

أعمال الفنان محمد القاسمي 



وهنا، مقتطف حصري لضفة ثالثة من مونوغرافيا محمد القاسمي، ستصدر قريبا عن دار نشر البير سكيرا تكملة للكاتالوغ التعريفي، أعدتها مؤرخة الفن نادين ديسندر تحضيرا للمعرض الاستعادي الأول الذي سيقام بمتحف مرساي أكتوبر القادم 2018: "طفولتي عبثية في كل اتجاه؛ كان والدي عاملا متنقلا في مجتمع زراعي، لذلك عشت فترة أطول مع والدتي. أرادت أمي أن تكون لدي وظيفة. هكذا عملت متدربا لدى حائك، حداد، ميكانيكي، خياط. بالنسبة لأمي كنا نحتاج لضمانات، لقد تركت فصول الدراسة، عشت في الدار الكبيرة؛ الحي التابع لمولاي إسماعيل بين الأسوار العظيمة والممرات الملتوية. في وقت لاحق تتبعت دورات تدريبية. كان تلك الفترة العصر الذهبي لوزارة الشباب والرياضة؛ كانت هناك دورات تمهيدية في الموسيقى والمسرح والرسم من تنظيم الوزارة. اشتغلت كثيرا بمفردي. كنت أتجول في مكناس، التقيت رسامي الحامل الفرنسيين في أزقة المدينة العتيقة. كانت المدينة مثلما لغز، سحرتني مهابة الأسوار، البيئة المعمارية، المواد، المنازل المتوارية، القوة والغموض بين المدينة والقرية في طفولتي المبكرة. مكناس كانت كل هاته الروح السائدة للحياة في الشوارع، في الألعاب، في علاقات الحب العابرة، اكتشاف بيوت الدعارة، التحالف مع مولاي إسماعيل، المشاجرات مع الشرفاء الذين لم أكن أنتسب إليهم. في تلك الحقبة كنا متضامنين مع الجيش الفرنسي، لكن عندما نُفي محمد الخامس، قررنا حلق رؤوسنا على أن نعود إلى إسدال شعورنا عندما يعود. كنت رفيق مصطفى عندما كان يوزع المنشورات لمقاطعة المنتجات الفرنسية؛ في أحد الأيام، ألقي القبض علينا، قضيت ثلاثة أيام في مركز الشرطة، أتذكر والدتي الجالسة في مواجهتي محاولة تمرير بطانية لي، ومنذ تلك الفترة، بقيت محفورة في ذاكرتي احتفالات عيساوة، أهازيج المواسم، المنسوجات، الأرابيسك. ولا يزال ذلك له أهمية قصوى حتى الآن. من 1959 إلى 1965 عملت في مركز اجتماعي بسيدي سعيد كمعلم، مع يتامى المؤسسة. كما حصلت على شهادة اللغة العربية الكلاسيكية في فاس، قرأت الكثير، وأصبح لدي إدراك كامل بالوضع. مارست أيضا مسرح الهواة. لكن مهنة التدريس كانت عديمة الجدوى. في أحد الأيام حزمت أمتعتي وذهبت إلى باريس كمرشح حرفي في مدرسة الفنون الجميلة، غير أن التعليم كان تقليديا. سرعان ما بدأت في البحث عن شيء أفتقده. للحصول على لقمة العيش، جربت مهنا كثيرة، كنت موثقا لدى العمال المهاجرين، وسافرت باستمرار: برادو، متحف اللوفر، متحف الفن الحديث، بلجيكا، إيطاليا، كنت مسحورا بالأعمال العظيمة في المتاحف؛ مشاهدة بصمت وعمق، في مواقع التعليم المؤثرة. هذه الفترة استمرت عامين، لم أكن أتمتع بأي امتياز، المنحة الوحيدة التي تحصلت عليها كانت من قبل الألمان كرسام لاكتشاف المتاحف الألمانية. عند عودتي للمغرب، كان النقاش محتدما حول الثقافة الوطنية، الهوية. وكانت أيضا مرحلة التعلم؛ ظهر جيل كامل من الكتاب والرسامين والمثقفين. مجلة الثقافة الفكرية مع بنيس، ومجلة أنفاس مع اللعبي. عملت صحافيا، مصمم نماذج فنية، مصمم ملصقات لمدة عامين. فترة الملصقات المغربية، وأغلفة ورسومات المجلات؛ كانت أيضا فترة التسكع، الدورات التكوينية التي اكتشفت فيها جمود الفنانين من المدارس، أو غيرها كورشة عمل جاكلين برودسكي أو الدورات التدريبية لوزارة الشباب والرياضة. كما كانت أيضا فترة اكتشاف الجنوب والنقوش الصخرية، المذكرات المغربية، وتزايد الإحساس بالتمزق؛ الفراغ كان سيد الموقف، كان علينا البدء من الصفر، لا يوجد منفذ آخر سوى القطيعة. يضاف إلى ذلك متعة التنقل، والسفر في الكثير من المواقع الحميمية والمثيرة التي شكلت أساس عملي. هكذا ينضم  السفر الداخلي إلى الأسفار الخارجية، التقاربات بين الثقافة البربرية - العربية والعلامات، والحكايات. حينذاك تبزغ هذه التقاربات التي تحرر تجاذباتها حركة الفرشاة". 


حسن بورقية:

يمكن اعتبار معرض "أريجُ حريةٍ.." المقام حاليا في رواق وكالة المعادن (كونْطْوار المعادن) والمستمر إلى غاية العاشر من الشهر الجاري بمراكش، بمثابة تكريم للفنان المغربي محمد القاسمي.. إذْ خُصِّص له ولأعماله كتاب فني أنيق ضخم من جزأين إلى جانب كاتالوغ تعريفي لجمهور الزوار والمهتمين. تم تقديم عشرات الأعمال (الورقية في الغالب)، تمثل ثلاث مراحل من تجربة هذا الشاعر، المناضل الحقوقي والفنان المبدع.. تتخللها ملصقات جدارية شفافة بآراء القاسمي حول تجربته ورؤيته للفن.. في أبسطها يقول بإن "السفر الداخلي ينظمُّ إلى الأسفار الخارجية، ونقطُ الْتقاء الثقافة الأمازيغية والعربية بين العلامات، والحكايات، هكذا صَحَتْ نقط الالتقاء تلك وحررتْ تناقضاتُها حركةُ الصباغة".

هذا النزول أو السفر الذي لا يشبه الأسفار، يبدو أنه البداية في عمل القاسمي.. يتطلب اختبارات ثلاثة: النزول إلى الذاكرة الشخصية؛ النزول إلى الذاكرة الجماعية وأخيرا النزول إلى ذاكرة المادة، ذاكرة العالم أو الكون.. كأن كل ما كان يختزنه جسده هو استعارة لِلا نهائيةِ المادةِ. ومثلما يتعلق الأمر بحالة المتصوفة، فإن هذه الحالات الثلاث ـ التطيرية، الإشراقية والمُوَحِّدة ـ ليست بالضرورة متتالية، إنما تشتغل في الآفاق الثلاثة دفعة واحدة.

المعرضُ يُقرِّبُ المُشاهد من الرؤية التي يصدر عنها الفنان ـ الشاعر، ينبجس اللون كالكلمة وتصبح اللوحة كالقصيدة، كأن اللوحةَ لا تُرْسَمُ بل تُضاءُ.. تتداخل في الألوان بالمواد، الزيت بالماء، الخشب بالتراب، الحجر بالورق.. تسبح كائناتُ القاسمي في شكلٍ ينزع في امتلائه إلى اللاشكل، يتحلل كلُّ شيء، ثم ينبعث في فضاءاتٍ تتجاوبُ اللوحاتُ فيما بينها وتُخَلْخِلُ زاوية نظرك وكلَّ مرجعيةٍ.. ينتفي الفرق بين لوحة من الحجم الصغير و الكبير، بين الفراغ والامتلاء، فيُشبه الكُلُّ "كتاب الرمل" لبورخيس، ككتاب لا نهائي يولد بلا بداية ولا نهاية.

عمل للفنان محمد القاسمي 




هناك ملاحظة أخرى، تتعلق بكتابة نصوص قصيرة، جمل أو كلمات، بخط يده، في مكانٍ داخل نِسَبِ النورِ والظلِّ، في لعبةٍ تصير فيها الألوان والمواد "صوتَ" النصِّ ورنينِه، والعكس صحيح.. نصوص وكلمات من مثل "قال الشاعر.." أو "الشاعر يموت"، ليقول عبورَ وتلاشيَ ما ينفلِتُ ولا يحتفظ منه سوى بعلامته الهشة وهي تمنح الحياة لهذا المنفلتِ.. كما قال الشاعر البوسْني، عبد الله سِدْرانْ، في تجربته الحَدِّيةِ مع الحرب والموت: "وحدها تبقى/ تلك الكلمات التي لم نقُلْها".

شيء آخر لافت للانتباه في أعمال القاسمي، تلك الكائنات التي تتردد في فضاء اللوحة، بهيئتها الفارغة، ككائن متسرنمٍ، أو نائمٍ صاحٍ، مشدودٍ إلى مدار النجوم، ظامئ دوما إلى أفق بعيد يضطرُّه إلى حفرٍ ديماسيٍّ مثل دود الأرض الأعمى، لا شيء يوقفه في عالم غير مكتمل الصورة.. لذا أتت أعماله عبارة عن رسوم تحضيرية لأسرار لا تنضب، يسعى الشعر بأسلحته الأصلية إلى إضاءتها.

"ما لا يُشَخَّصُ" هو المكان الذي يقيم فيه القاسمي، المكان الذي يغرف منه عوالمَه ويحلِّق لملامسة قرص الشمس (كما يظهر في بعض أعماله).. ثم يعود مثل قرصان الأشكال، يعرضها علينا في مربعاتٍ زرقاء، بنّية وآجورية، ويدعونا للمساهمة في طفولة رموز الألوان والأشكال والكلمات، وهي تحمل شهادةً عن عالمٍ ممكنٍ، ذي علاقة بالسطحي والباطني، الرمزي والعضوي، القريب والبعيد، انطلاقا ربما من معرفةٍ - قبل تاريخِ العينِ - بما يجري بين البياض والسواد حيث توجد منطقة الكسر بين ما يقال وما لايقال.