اللاجئون كما رسمهم بول غوراغوسيان

تغريد عبد العال 5 يونيو 2018
تشكيل
لوحة لبول غورغوسيان

 

تتحدّثُ الجماعةُ بلغتها الواحدة في لوحات غوراغوسيان، تضيعُ الوجوه كلها وتذوب الملامح. في المأساة الجماعية تلك تختلفُ زاوية النّظر كلّ مرّة، فأحياناً يكون النظر عن بعد هو ما يجعل الصورة أوضح عن الكيان المنفي أو المقتلع، وأحياناً الاقتراب أكثر يسمح بتكوين الصورة، حيث تتلوّنُ الأجساد كل مرة بألوان جديدة وتتلاصقُ على نسقٍ مغاير لكي تتشكّل هويّتها أكثر وترى روحَها من الداخل.

   في الضوء، يستمعُ غوراغوسيان إلى همس القامات الطويلة، الأمكنة تعني له الوجود ذاته، الفنان الأرمني الفلسطيني (1925 -1990) المنحدر من أسرة أرمنية نجت من المجزرة ونزحت إلى فلسطين ثم إلى لبنان بعد النكبة، كان قد حمل هذه الأمكنة أخيرا إلى الألوان وإلى كيان أسسه بتلك الكائنات الممشوقة، ولكنه لم يجعل تلك الألوان تحاصر وجودهم.  

  فقد جعلها مبهجة، تتنقل بين الزوايا المعتمة في حدودها الواضحة بين القامات الطويلة، لكنها لا تغطي هذا الجرح الداكن ولا تخفيه، إنها فقط مرايا لتلك الأجساد.

 نتطلّعُ جيّداً لكي نميّز أثر الألم هنا أو هناك، لكن يكفي هذا الحضور المفرط للأجساد الواقفة التي تذكر بالجثث الحية.

وما الذي جعل هذا الوجود يصمد رغم تغير الألوان التي كلما جعلها غوراغوسيان تعزف أكثر، كلما صار حضور هذه الأجساد متماسكاً ومتناغماً؟ هل هو الزّمن، أم إرادتُها في المقاومة، أو ربَما حريتها في شرب الألوان المتسربة من الضوء؟ قد يكون كل ذلك وأكثر، فاللوحة حين تكرر أجسادها الواقفة والغائبة، تجدد نفسها بتلقائية، وتعبث بشخوصها كي نقرأها كل مرة بطريقة أخرى. طغيان لون على حساب لون آخر ولكن في لوحات أخرى تتنوع الألوان في عمق اللوحة لتأخذ تفاصيلها ملامح وجود جديد في كينونة غير مرئية تستحق أن نقترب منها أكثر وأكثر، كأن الفنان يجعل عدسته أقرب لكي نرى فسيفساء ذاك الوجود.

يأخذ غوراغسيان صورة للكائن الجماعي فينعكسُ الضوء لكي يتضح الانكسار. الانكسار الحقيقي بلونه الأحمر في الوسط كما في لوحة الهمس، هنا بالتحديد يصبح للوجود معنى آخر، فيتشكّلُ كمكان له أبعاده وزواياه.

الهمس رقصةٌ هادئة تبتعدُ عن النّشيد كثيراً، فلا نشعر بحدّة التّفاصيل ولا ببلاغةِ الرّموز أو حشوِ الأجساد، ينساب حديثها الخافت حتى يغيب تماماً مثل ظلالها المتمايلة.

في لوحة المغادرة le depart، جسدٌ واحد يغادرُ اللوحة الجماعية، ويبقى المشهدُ على حاله.

الوجودية هنا لا تنسحب من جحيم الآخرين، فالحكاية تستمر أكثر رغم غياب الفرد عن الصورة الجماعية فتتكون لوحتان داخل اللوحة الواحدة. يخرج غوراغوسيان من لوحته لكن لوحته تبقى، ولا يتغير شيء قبل المغادرة وبعدها، لأنها بلا شك: قصته الحقيقية التي يتابع سردها في الذاكرة.

في تلك العزلة، يبقى كل شيء على حاله، يقول غوراغوسيان بلغة أخرى، حتى ملامح الأشخاص تبقى، ووقفة كل شخص في زاويته. اللاجئ أو النازح أو المنفي، يقف في زاوية محددة، يصير مكانها فراغاً ما يضيف عليه بعض الألوان. كما في لوحات غوراغوسيان الأخرى، قد يصعب جداً تحديد أين تتطلع هذه الشخصيات، لكن هنا بالذات يعطي هذا الشخص المغادر ظهره، وتتضح الوجوه أكثر، ربما يتطلع هذا الشخص في اتجاه آخر لكنه في النهاية يغادر لتبدو اللوحة ناقصة.