تمثلات الحرف في التراث التشكيلي العربي

أشرف الحساني 18 أغسطس 2018
تشكيل
لوحة للفنان عقيل أحمد
 

تمثل موضوعة الحرف إحدى أهم الموضوعات الخصبة لكثير من التجارب التشكيلية العربية، إذ اكتشف الفنانون العرب قيمته وأهميته مبكراً، لما يملكه من إمكانات تشكيلية تجريدية ثرة وغنية، وما يطبعه من أصالة عربية ساحرة على فضاء اللوحة، وهو ما حدا في سبعينيات القرن المنصرم بجماعة البعد الواحد بالعراق، في شخص الفنان شاكر حسن آل سعيد، إلى تحرير بيان فني كان الغرض منه المساهمة في وضع اللبنات الأولى لتأسيس مدرسة فنية معاصرة تعتمد على استلهام الحرف العربي، بوصفه تراثاً فنياً ورمزياً داخل اللوحة التشكيلية العربية.

فقد مثلت "الحروفية" للفنان العربي أول فرصة وسبيل للخروج من سطوة تقاليد الفن الغربي والتحرر من بعض تقنياته، من أجل خلق واجتراح لغة فنية تشكيلية جديدة تمتح من تراثها الفني. ولعل هذه "المدرسة" التي بزغ نجمها في المشرق العربي، تشكل اليوم حركة تشكيلية جديدة ومائزة في كل من أسلوبها ومتون خطاباتها ومعالجاتها الفنية الجمالية، من خلال البحث عن هوية جمالية عربية، بعيدة كل البعد عن القوالب الغربية الجاهزة مع استشكال قراءة جديدة معاصرة للتراث الفني العربي.

في هذا الاستطلاع سنحاول الإجابة عن جملة من الأسئلة، التي باتت تؤرق مجموعة من الفنانين والباحثين داخل مختلف الأقطار العربية حول تيمة الحرف. فكيف إذن جاء هذا الاهتمام المتزايد بالحرف كمكون فني جمالي عربي؟ ثم إلى أي حد توفقت جماعة البعد الواحد في إضفاء خصوصية فنية وجمالية عبر استلهامها الحرف داخل فضاء اللوحة التشكيلية العربية؟ أسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عنها في هذا الاستطلاع بمعية باحثين وفنانين تشكيليين.

تؤكد الباحثة التونسية صماري دلال، في بداية حديثها، أن الخط العربي "هو فن مستقل بذاته، ويعد عصّياً إلا على من أتقن قواعد بنائه وأسسه وتمكن بفعل الممارسة من الإبداع فيه، ولم لا الإضافة إليه بهدف المرور به إلى تكوينات جمالية تخاطب البصر والروح، بما هو أحد أهم مكونات الحضارة العربية الإسلامية، وقد تم توظّيفه مع مرور الوقت في العديد من الفنون الأخرى كالخزف والنسيج وصناعات فنية كالنحاس والخشب. ولكن تبقى الاستفادة الكبرى منه في ميدان الفنون التشكيلية حيث طور الخطاطون فن الخط العربي ليعانقوا من خلاله أكثر الأبعاد الجمالية، من خلال استعارة حروفه وتعرجاته وجماليات بنائه لتأثيث أسطح اللوحات التشكيلية أو تصميم المنحوتات والخزفيات... كمفردة تشكيلية غير مقروءة، يستند من خلالها التشكيلي أياً كان اختصاصه إلى أهم الخصائص الجمالية التي تميزه والاستفادة منها على مستوى البناء التشكيلي لديه وكذلك استغلال بعدها الرمزي في مخاطبة الآخر بكثير من المحلية"، وتعتبر الباحثة أن "جماعة البعد الواحد، وعلى رأسهم شاكر حسن آل سعيد، كانوا الأبرز والأسبق في كتابة نص بصري جديد يعتمد على الحرف العربي ذي البعد الواحد في صياغة أسلوبه وتوجه خاص يحتفي بالثقافة الصوفية، ورهانات الأبعاد والخلفيّات الروحيّة والتاريخيّة والمعرفيّة للحرف العربي.

وتضيف "فأبدع من خلال هذا المبدأ العديد من الفنانين، ولكن كل ما جاء بعدهم كان بمثابة الاجترار لما أتت به هذه المجموعة وأصبح لمدة من الزمن فخاً، وأرى شخصياً أن الروح عادت إلى الخط العربي في ميدان الفنون مع ما يحدث منذ مدة وحتى الآن من حسن توظيفه في ما يسمى بفنون الفيديو والفنون الرقمية والافتراضية، حيث أعيد استثماره إلى جانب الضوء والصوت وإعادة صياغة علاقة جديدة له بالفضاء المغلق والمفتوح، هذا إلى جانب حسن وجوده في ميدان التصميم، سواء كان تصميم المنتوج أو التصميم الداخلي والخارجي. وتجدر الإشارة إلى أن الخط كفنّ وليس كمفردة لا يزال يستقطب اهتمام العديد من الفنانين في مختلف الدول العربية وتنظم له العديد من المسابقات في تركيا خاصة وإيران ومصر وبالجزائر، ومع هذا يظل الأقل حظاً، سواء في مناهج جامعات تدريس الفنون أو حتى في تنظيم دورات تكوينية خاصة، أو على مستوى موضة الملتقيات الفنية التي تنظم اليوم".

أما الباحث المغربي بنيونس عميروش فلا يلبث أن يذكرنا بأن توظيف الخط العربي في اللوحة قد مثل "أحد المقومات الأساس في الفن العربي الحديث والمعاصر، ضمن سيرورة مرحلة تاريخية حاسمة طبعت حركات التحرر الموصولة بمفاهيم الهوية والوحدة والقومية، انطلاقاً من "جماعة بغداد للفن الحديث" وامتداداتها عبر "المدرسة الحروفية" التي وسمت أعمال "جماعة البعد الواحد" بداية من معرضها الأول في بهو المتحف الوطني ببغداد في عام 1971 (شاكر حسن آل سعيد، جميل حمودي، عبد الرحمان الكيلاني، محمد غني حكمت، ضياء العزاوي، رافع الناصري)، لتنتشر مبادئ "الحروفية" في مختلف الأقطار العربية بعامة".

 ويضيف على ذلك أنه في التجربة المغربية مثلاً "نجد إبداعات الفنان عبد الله الحريري الذي مدَّد مسار تجاربه لبلوغ نبره الخاص، ضمن هذا المَيْل نجد كثيراً من الفنانين المغاربة الذين استأثروا بجاذبية الخط العربي، من أمثال المهدي قطبي وإبراهيم حنين ومصطفى السنوسي ومحمد موسيك وعمر أفوس وحسن المقداد ومحمد بستان ونور الدين ضيف الله. فإذا كان هؤلاء يشكلون متوالية الأجيال، منذ سبعينيات القرن الفارط، في تنويع أنماط استثمار الخط في بعده "الكتابي" والعلاماتي والتعبيري، فإن عددا من الأجيال الجديدة الذين ظلوا أوفياء للقماشة والفرشاة والطلاء المادي، أبَوْا إلا أن يدلوا بدلوهم في توليف الحرف و"الكتابة"، ضمن ممارساتهم التصويرية بتبايُنات بارزة في الصياغة والتأليف، انطلاقاً من أساليبهم الذوقية والتقنية، حيث التقنية تستوجب بعضاً من مهارات الخطاط Le calligraphe وحسه المعياري، فعلى هذا الأساس تُمْكِن مقاربة لوحات سعيد الرغاي مثلاً. في حين تمتد الحركية التلقائية كـ "كتابة" عند العربي الشرقاوي، بينما يتخذ الحرف هيئته الاختزالية لدى رشيد باخوز". ويخلص الناقد بنيونس عميروش إلى أنه منذ أن تم تكريس الحرف العربي في التعبير التشكيلي العربي بعامة، لم يسلم هذا التوجه "الحُروفي" من مناقشات بين مؤيد ومعارض (باعتبار أنماط كتابة الخط العربي تحمل جماليتها في حد ذاتها، أي في قواعدها)، غير أن الجدل المحوري ظل ينصب باستمرار في كيفيات إدماج الحرف وتجلياته التي ترسم حدود التعبير وفواصل الكاليغرافي والتشكيلي، في اتجاه إنتاج إبداعية فريدة وخلاقة.

ومن جانب آخر، يرى الفنان التشكيلي السوري عقيل أحمد، أحد الفنانين العرب المنشغلين بتجربة الحرف داخل اللوحة، "أن استخدام الحرف العربي في اللوحة التشكيلية وتشكل تيار ما سمي بالحروفية جاءا نتيجة التأثر بالفنون الغربية شكلاً وتكويناً، إذ هناك نوعان من هذا التأثر، قسم من الفنانين استخدم الحرف كعنصر تشكيلي ضمن اللوحة وكان الحرف هو شيء طارئ على التكوينات المأخوذة من الثقافة الغربية، يعني إذا أزلنا الحرف واستبدلناه بشيء آخر فليس هناك مشكلة، ومنهم من استخدم فكرة الحرف العربي في اللوحة فلم يكن الحرف فيها عنصراً ثانوياً، بل كان جوهرياً لها وكان مكوناً أساسياً للعمل وليس عنصراً طارئاً في البحث التشكيلي. وكانت جل الأسئلة والأجوبة مستمد من ثقافة هذا الحرف ولم يكن متعلقاً بثقافات أخرى. ثانياً، أن الحرف العربي له دلالات بصرية ودلالات لغوية وانتماء لثقافة محددة، إذ هو يصنع لوحة عربية بكل التفاصيل وليس مضطرا للاستعارات البصرية من الفنون الأخرى، فالحالة التعبيرية للحرف هي تجريد للغة سمعية وتحويل المسموع لمرئي تطور عبر مئات وآلاف السنين من كتابات الكهوف مروراً بالإشارات الرمزية كما اللغة الفرعونية، وأخيراً عندما اخترعت الأبجدية، وهي تحويل الكلام المسموع إلى إشارات بصرية اتفق على أنها أبجدية، ثم جاء استخدام الحرف في اللوحة المعاصرة استكمالاً لهذه النقطة تحديداً، وهو استشكال لغة بصرية جديدة، من خلال التكوينات وطرح تساؤلات جديدة غير مطروقة من قبل داخل الموروث التشكيلي العربي".

  • باحث جمالي مغربي