من كواليس العصفور: 10 سنوات على رحيل يوسف شاهين

هشام أصلان 10 أغسطس 2018

 

1

"ما تُدخل يا منير مستني إيه؟ عايز عزومة؟"، لا أتذكر أي ظرف شاهدت فيه فيديو قصيرًا يعرض كواليس الفيلم، وصيحة يوسف شاهين في محمد منير عندما تلكأ الأخير في الدخول بصوته إلى المشهد: "ما نرضاش يخاصم القمر السما. ما نرضاش تدوس البشر بعضها. ما نرضاش يموت جوه قلبي ندا. ما نرضاش تهاجر الجذور أرضها".

في عام 1982 أُنتج "حدوتة مصرية"، الفيلم الثاني ضمن سلسلة أفلام يوسف شاهين السينمائية المحتوية، بوضوح، على مساحات كبيرة من سيرته الذاتية: "إسكندرية ليه؟"، "حدوتة مصرية"، "إسكندرية كمان وكمان"، "إسكندرية نيويورك". تناول في هذا الفيلم الأحوال الشخصية والعامة التي غلفت فترة ظهور مشاكله مع أمراض القلب والسفر إلى لندن لإجراء جراحة دقيقة كانت صعبة أيامها، وباقي الأحداث المعروفة. وبينما الأفيش مكتوب عليه أن الفكرة ليوسف إدريس، لا يعرف كثيرون أصل الحكاية.

فصاحب "بيت من لحم" واحد من أعضاء نادي جراحات القلب في الفترة نفسها. واجتمع الاثنان، إدريس وشاهين، على اتفاق. جلسات عمل ثنائية في حضور جهاز تسجيل، حيث يسجل إدريس ما يأتيه من أفكار لأحداث الفيلم، على أن ينتهي فيحولها شاهين لسيناريو مكتوب ليضع إدريس رؤيته النهائية. جلسة بعد أخرى قبل أن تتجلى النديّة والاختلاف حول مسار الفكرة ويتوقف العمل بينهما، ويحتفظ المخرج ببعض من طرح الكاتب قبل أن يكمل الفيلم وحده مؤطرًا باحتقاناته وأسئلته وتصوره الخاص.

الحكاية المُسلية كتبتها بالتفصيل آية طنطاوي في العدد الجديد من مجلة "الفيلم"، وهو عدد تذكاري جاء كنتيجة فخمة للتعاون بين هيئة تحرير المجلة وبين شركة "أفلام مصر العالمية" المملوكة لأسرة شاهين، التي دعمت العدد بمادة مهمة وصور نادرة من أرشيفه الخاص. بين هذه المادة تفريغ لمقاطع من الحوار الطويل بين يوسف شاهين ويوسف إدريس، التي أتصور أنها تُنشر للمرة الأولى.

2

هنا كثير من الرؤى النقدية والقراءة لعالم شاهين تقدمها أسماء من قبيل وليد الخشاب ومحسن ويفي وصفاء الليثي ورامي عبد الرازق ووليد سيف وآخرين. غير أن القارئ غير المتخصص سيجد متعة بالغة بتصفح مجموعة من الحكايات الكاشفة لكواليس هذا المخرج الكبير بكثير من التسلية، حيث حوارات صحافية مع بعض ممن كانوا قريبين له، سواء بالعمل أو بالتلمذة داخل بلاتوهه، فضلًا عن أن بعض هذه القصص يُصحح لدى المتلقي المهتم عددًا من المعلومات المغلوطة الشائعة.

سنعرف مثلًا أن الموسيقى التصويرية الشهيرة والجميلة لفيلم "المصير" ليست لكمال الطويل كما يُشاع، لكنها ليحيى الموجي: "المعروف أن كمال الطويل كان قد اعتزل التلحين قبل فترة طويلة من فيلم المصير، لكن يوسف شاهين أقنعه بالعودة لتلحين أغاني الفيلم، لكن الطويل رحل قبل إكمال هذا التعاون، وعلى عكس الشائع فإنه لم يلحن الموسيقى التصويرية للفيلم، هو لحن الأغاني وقدم جملًا موسيقية، بينما وزعت الأغاني وألفت الموسيقى التصويرية بالكامل".

مع صدور العدد، تلقيت اتصالًا من صديق يسأل عن معلومة سمع بها تفيد أن شاهين لم يكن يعرف القراءة والكتابة بالعربية. لم أكن سمعت بها من قبل، ولكن بتصفح العدد هناك أكثر من لقطة تقول، بشكل غير مباشر، إنها معلومة ليست صحيحة. على سبيل المثال يحكي الكاتب المصري أحمد الخميسي، في شهادته، عن صداقة والده الشاعر عبد الرحمن الخميسي بـ"جو". والواقعة التي شهدها طفلًا بينهما، عندما ذهب شاهين إلى الخميسي في مكتبه ليطلب منه تمثيل دور في أحد أفلامه. وعندما استغرب الخميسي، قال له شاهين إن "الفيلم هيفرقع ويكسر الدنيا. وهيبقى عن قصة أخوك الشرقاوي الأرض"، وكان يقصد رواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي. شاهين إذًا، وبنسبة كبيرة جدًا، قرأ الرواية على أقل تقدير ليتحمس لشخصياتها بهذا الشكل. وبالفعل قام الخميسي بالدور العلامة في الفيلم، دور "الشيخ يوسف البقال".

3

يسري نصر الله:

"مرة كان يختبر ممثلة ناشئة، وطلب مني أن أظل موجودًا لأخبره رأيي فيها، وسجلنا معها 11 مرة وعندما سألني قلت: مش مصدقها، فانفجر في: إنت حمار. كل ممثل عنده حدود وهي كده كويسة.. بعد عشرة أيام سمعت صوته يزعق في البلاتوه: (هاتولي الولد اللي بيشتغل في لبنان ده)، وقال لي: قف معي حتى ترى أنه حتى نور الشريف عنده حدود، وأذهلني أنه تذكر وجود شاب يريد تعلم السينما فينادي عليه ليرى ويفهم". صاحب هذه الحكاية، المخرج الكبير يسري نصر الله، وقبل هذه الواقعة بفترة، كان يعمل صحافيًا في جريدة "السفير" اللبنانية ويأمل في العمل مخرجًا، وعندما عرض عليه شاهين العمل معه بـ30 جنيهًا مصريًا في الشهر، رحب بالأمر تاركًا 3000 دولار شهريًا راتبه في جريدة "السفير"، ويقول: "بدأت هذا التدريب العملي، وكنت أكنُس البلاتوه فعلًا".

محمود حميدة:

يقول الفنان محمود حميدة "الطزاجة الدائمة هي التي كانت تميز يوسف شاهين عن غيره، وأعتقد أن السبب عدم دراسته السينما وتعلمها بينما يعمل بها، لذلك تجد خصوصية لكادراته وللمونتير الذي يعمل معه وبقية طاقم العمل. على سبيل المثال، تجده يتعامل مع بعض الملحنين الذين لم يسبق لهم التأليف الموسيقي، أو يتعامل مع موسيقي بحجم كمال الطويل ويجعله يعمل بشكل مختلف تمامًا.. كان يتعامل مع كيف يرى هو المشكلة وكيف يراها العالم، لذلك كان يوجد القصة لتوظيف وجهة النظر. التجربتان الوحيدتان المختلفتان كانتا الأرض والناصر صلاح الدين".

4

في مراحل مبكرة من الحياة، رحنا نلوك كليشيهات: "يوسف شاهين بيعمل أفلام مش مفهومة"، "كل الممثلين بيتكلموا بطريقته"، "شهرة على الفاضي"، "علاقته بالغرب هي سبب شهرته"، غير أنك بعد سنوات كثيرة ستُدرك أن أيًا من تلك الأسباب لا يسمح باستمرار النجاح والجلوس مُرتاحًا فوق القمة. هذه مناطق لن تنال رؤيتها، أبدًا، من دون استحقاق وسمات للموهبة المدعومة بالاجتهاد، وعدم الانشغال بتقييم اللحظة، أو ربما عدم الانشغال بالتقييم عمومًا، ليس تقليلًا من شأن المتلقي، ولكن وعيًا بقيمة الزمن كمتلق تنهار أمامه حسابات اللحظة وراهنها.

كلمات مفتاحية

سينما أفلام عربية السينما المصرية يوسف إدريس يوسف شاهين