أشواق نبيل نحاس بين الصوفية والفيزياء المستقبلية

أسعد عرابي 5 أكتوبر 2019
تشكيل
لوحات نبيل نحاس تمزج بين الصوفية والفيزياء المستقبلية
في قلب بيروت يتحفنا صالح بركات بمعرض ليس كغيره من المعارض، وبرحابة صالته البانورامية، حيث تتألق لوحات أحد أبرز الفنانين اللبنانيين - الأميركان وهو نبيل نحاس، بألغازه «الفراكتالية». هي التي تقع في برزخ متوسط بين مواجيد خضّم الأوقيانوس والمدى الفلكي. تتواصل هذه المشاهد النسبية مع رؤيوية المتصوف الجيلي الذي يبثنا سر العلاقة الشهودية بين العالم الأكبر (الماكروكوزم) والعالم الأصغر (الميكروكوزم) يكاشفه الرومي: «وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر» يحضرنا عندما نقرّب مجهرنا من لوحاته تعريف السيوطي للوجد: «كمن يسلم نفسه لزرقة المحيط ثم لا يرجو من غرقه نجاة». 

تستبطن باقة لوحاته ثريا من التداعيات الصوفية هي التي غذّت عبر قرون نسغ «تنزيهية» الفنون البصرية الإسلامية عن التشبيه. أثارت لوحات نبيل اهتمامي منذ أول لقاء معها في «فياك باريس» السنوي منذ أكثر من عقد من الزمان، جذبتني وأذهلتني أصالته التي تعتمد على منطق آخر جديد في التصوير يتقاطع مع الفيزياء الحديثة خاصة «فيزياء الشعث» وأشكالها التطورية العضوية على غرار البرامج الشائعة المدعاة «فراكتال» حتى تفرعت عنها صفات ومصطلحات كرافيكية سبرنية، لكن نبيل يتجاوز هذه التعقيدات المدعاة بالجغرافيا الفيزيائية ليعود إلى أبسط قواعد البرمجة الروحية الحدسية (وليس الحسابية) التي تسبر ما هو سري كنظام في الرقش والأرابسك وخاصة تحولات الالتباس في عنصر «المقرنص» في قصر الحمراء. فهو شكل الفراكتال الأول ومفردته الإسلامية.
تبثّ هذه المقرنصات النور دون أن تملكه بما يسمى بالفيزياء هذه بـ«رفيف الفراشة» أو الدغدغة الفيزيائية الملتبسة لشبكية العين. لكنها لدى نبيل تلامس الروح، فالتوزيع اللوني صائت، وكذلك تفريخ المفردات العضوية أو النجمية أو المحاربة، تذكر دوماً كموتيف أول مفردة (Le module) بعناصر الفلك من نجوم ومجرات وشهب وبعناصر الأوقيانوس في نفس الوقت من نجميات إلى شمسيات إلى بقية عناصر الرصيف المرجاني بما فيه الرخويات العائمة مع الأخطبوطات وغيرها.

إذا كانت هناك علاقة «فراكتالية» شائكة بين لوحات نبيل نحاس والرقش الإسلامي فهي في هذا المقام «المقرنصات» المرصوفة في الأسقف تعاند وهمياً صدام الجدران فتبدو ثريا مشكاتية نورانية متدرجة أقرب إلى نواظم ألوانه. ثم وبدرجة أقل الزيلليج الفسيفسائي النخبوي وليس الشعبي، لأن برمجته تعتمد على المعادلات العارفة «بالجبر والمقابلة»، وأهمية اقتراح فلسفة «الصفر» والعدم والفناء واللاوجود والخواء والصمت لدى العرب القدامي. ناهيك عن أن نبيل بتربيته الباوهاوسية الأميركية والمشرقية لا يفرق بين اللوحة والفن التطبيقي الاحترافي. بالنسبة له (مثل الصانع في الفن الإسلامي) يعمل بيده دون أدوات معقدة متصلاً مباشرة بالمواد الطبيعية وأشكالها الجوهرية. لا أدري طالما أنه يصبو إلى بعث هذا المفهوم الميتافيزيقي في الفن الإسلامي، لماذا أهمل مادة السيراميك: النور بعد النار واستبدلها بمادة البورسلان الطاوية. جميل عدم التعصب والمصالحة بين فلسفة جماعة الذوق المتصوفة وكونفوشيوسية ثنائية الفراغ والامتلاء. لكنهما متناقضتان، وبالقدر الذي نحس فيه بصمات التأثير الصوفي في صناعة الفنون الروحية الإسلامية نقف عند التعبير المحجّم الذي يتجنبه الحرفي المسلم. ما عدا عنصر المقرنص فهو مثل حالة نبيل ينحو منحى الحجم الثلاثي الملتبس بحيث يتداخل فيه الوجود بالعدم، السالب بالموجب، المقعر بالمحدب، يملك المقعر لوناً متقدماً ويملك المحدب بعكسه لوناً متراجعاً، يستخدم فناننا نفس الأحابيل والمخاتلات.



الدفع بتقاليد الفن الإسلامي إلى حداثة الفراكتال
انبثق اكتشافه الأسلوبي (وفق ما ترويه ذاكرته) ابتداء من عاصفة أطلسية قذفت بنجميات الرصيف البحري المرجاني إلى الشاطئ الأميركي. فأصبح ينسّقها في لوحته ملصقة بطريقة مبرمجة جبرياً وعفوية في آن واحد وكأننا بصدد منصّة شطرنجية ذات عناصر فراكتالية قابلة للحدوث في الطبيعة، معتمداً فيها مثلاً على عدم التماثل. كما هي أوراق الشجر وتطورات برنامج الفراكتال وجوليا، لا توجد ورقة تطابق نظيرتها حتى ولو نبتتا من نفس الغصن، ولا توجد حالة للموجة تناظر سابقتها أو لاحقتها في التشريح الكرافيكي التطوري، كما لا يوجد حمار وحش موشوم جلده بنفس الأحابيل الشريطية السواء. وهكذا تضاريس لوحته التي ستفرخ حقلاً تربيعياً من نفس المفردات (Le Module) المتحول أبداً دون تكرار أو تناظر، يلون هذه المفردات المتراكبة والمتحولة بصيغة النحت النافر (مثل مجاميع المقرنصات) بألوان مشبعة بالصباغة مثل هذيان الأزرق النيلي (الأنديكو) لدى إيف كلاين، نجميات متوهجة بالجمر ومطفأة بالصقيع والفوضى الحدسية (في تحولات اللون المتخم بالصياغة) والتنسيق الجبري، محافظاً في النهاية على ألغاز ما يدعى بالتأثير المخملي أو الفراشاتي (السينيتيك) الذي يدغدغ العين كرافيكياً.
ابتدأ منذ السبعينات باحتراف هذا التأثير عن طريق استثماره لأشكال شجرة الأرز اللبنانية. هي التي تحولت إلى تصميم طابع بريدي بمناسبة ذكرى العيد الخامس والسبعين للاستقلال، فهو من مواليد بيروت عام ١٩٤٧م، درس في جامعتي لوزيان ويال في الولايات المتحدة، مستقراً في نيويورك منذ ذلك الحين، معتلياً سلم النجاحات العالمية (بما فيها متحف المتروبوليتان)، تتخاطف معارضه الصالات البارزة في المونوبولات الغربية، وبلغت لوحته في مزاد الدوحة «سوتبس» عام ٢٠١٤ (٢٤٥٠٠٠) دولار.
وإذا كان ضمن عدد من فناني جيله في نيويورك يستثمرون نظرية الفراكتال المنبثقة عن فيزياء الشعث (كما شرحتها في الدراسة السابقة: فنون وفيزياء) فإن نبيل نحاس يملك خصائص حرفية ثقافية نخبوية متواصلة مع ذاكرته الروحية الصوفية، هي التي كانت تنظمها جماعات الذوق في تجويداتها الحرفية المراقبة من الطرق النقابية. يبدو معرضه وكأنه يدفع بالموروث الرقشي الهندسي الإسلامي باتجاه الفيزياء المستقبلية، وهذه ليست المرة الأولى التي يعرض فيها لدى صالح بركات فقد جمعتهما معارض سابقاً. فشكراً للاثنين.

كلمات مفتاحية

الفن العربي المعاصر التشكيل التصوف الفن المعاصر