صور أيقونية.. "زبلين" يحلق فوق القدس قبل 90 عاماً
مراسل "الأهرام" من على متن زبلين:
كانت "القدس كما لو ترى عبر فانوس سحري"
وحسبما نقلت صحيفة هآرتس عن مراسل الأهرام، فإنه "لأول مرة في التاريخ، كان الناس يرقصون في الهواء". وأضاف: "إنهم يتبادلون الأحاديث، يكتبون، يلعبون الشطرنج والورق، في حين يرقص البعض منهم على أنغام جهاز "الغرامافون". وعندما أصبحت السفينة زبلين فوق القدس، وصف المدينة وهي تحت الضوء الفضي للقمر، بأنها "مذهلة".. "لقد كانت تبدو كما لو أنها تُرى عبر فانوس سحري".
يذكر هنا أن رحلة زبلين الأولى فوق فلسطين ضمت بين ركابها دبلوماسيين وصحفيين ورجال أعمال، وطارت بسرعة 62 ميلاً في الساعة، على ارتفاع 755 قدماً. وكان القصد من الرحلة الترويج لاستخدام السفينة الجوية في السياحة، ونقل البريد، ما بين أوروبا والشرق الأوسط.
أما الصور الفوتوغرافية، التي خلدت تحليق المنطاد زبلين فوق القدس، فتعود إلى رحلته الثانية إلى مصر وفلسطين. وحسب وصف مندوب "الأهرام"، محمود أبو الفتح، الذي أوفدته الصحيفة، مرة اخرى، ليغطي رحلة غراف زبلين إلى الشرق الأوسط، فقد انطلق من قاعدته في فردريكسهافن في الساعة السادسة من صباح يوم 9 نيسان/ إبريل 1931، وكان خط سير الرحلة يتضمن المرور فوق مدينتي ليون، ومرسيليا، إلا أن سوء الأحوال الجوية حال دون ذلك، وتكرر الأمر مع العاصمة الإيطالية روما، ما أثار استياء بعض الركاب، حسب مراسل الأهرام، حيث قرر د.إكنر قائد المنطاد اتخاذ المسار الأكثر أمناً، ووقع اختياره على الشاطئ الذي في جزيرة صقلية، ثم الاتجاه إلى الجنوب الغربي نحو مالطا، ثم بنغازي، فالسلوم، ومنها إلى الإسكندرية، ودلتا مصر، والقاهرة. وبخلاف رحلة المنطاد زبلين الأولى، فقد حصلت رحلته الثانية على إذن السلطات البريطانية له بالهبوط فوق الأراضي المصرية، بل وحشدت عدة مئات من الضباط والجنود البريطانيين، الذين دربتهم على كيفية ربط حبال المنطاد بارض المطار لضمان هبوطه بأمان.
على أن المنطاد زبلين كان قد وصل الحدود المصرية قبل موعده المقرر بأكثر من 18 ساعة، ولضمان هبوطه في مطار ألماظة، بالقرب من القاهرة، صباحأ، وفي ضوء النهار، أمضى المنطاد ساعات الليل محلقاً في أجواء الإسكندرية، ثم اتجه جنوباً نحو القاهرة، ليحلق فوق مصر القديمة، وهليوبوليس، والقلعة، والأهرامات، وأبي الهول، ثم ليتابع مساره فوق النيل، ليعود بعد ذلك ويهبط في الساعة السادسة من صباح يوم السبت 11 نيسان/ إبريل 1931، في مطار ألماظة، حيث استقبل المنطاد العملاق استقبالاً شعبياً ورسمياً. وفي اليوم نفسه، عاد المنطاد لينطلق نحو الحدود الفلسطينية، ويصل إلى القدس في العاشرة صباحاً في جو مطير.
زبلين: 100 متر فوق كنيسة القيامة!
وحسب تقارير نشرت عن لحظة تحليق المنطاد فوق القدس، فقد أوقف الربان المحرك، وهبط بالمنطاد إلى ارتفاع مئة متر فقط من قبة كنيسة القيامة. كان ذلك يوم سبت النور حسب الطائفة الأرثوذكسية (11 نيسان/ إبريل 1931)، ما سمح لركاب المنطاد بمشاهدة الطقوس الاحتفالية للجماهير المسيحية المتجمهرة أمام ساحة الكنيسة، وفي الشوارع المحيطة بها.
بعد ذلك، طاف المنطاد فوق مسجد قبة الصخرة، ومباني القنصلية الألمانية، ومدرسة شندلر، ومقر المندوب السامي البريطاني إلى جنوب مدينة القدس. وعلى إثر هذه الزيارة القصيرة للقدسن التي استمرت لساعات قليلة، عاد المنطاد زبلين أدراجه، إلى القاهرة، حيث هبط فيها ثانية في الساعة الرابعة من بعد ظهر اليوم نفسه، ليغادرها يوم 13 نيسان/ إبريل إلى إسطنبول، في طريقه إلى ألمانيا.
واصف جوهرية عن المنطاد زبلين:
"إنها لبلد طائرة فوق القدس!
نشير هنا إلى شهادة طريفة للموسيقي المقدسي، واصف جوهرية، عند مشاهدته للمنطاد زبلين في سماء القدس من سطح كنيسة القيامة في أثناء سبت النور، حيث كان يعمل مراقباً في الكنيسة أثناء الاحتفالات الدينية المسيحية. يقول واصف جوهرية: "سمعنا صوتاً عظيماً وهديراً زلزل أرجاء الكنيسة، رغماً عن غوشة (ضجيج) الجمهور الذي كان فيها. وحيث أن باب الكنيسة، كما هي العادة، كان مغلقاً، ولا يمكن فتحه إلا بعد فيضانات النور العظيم، أطللت من نافذة لدير الأرمن التي تشرف على سطح كنيسة القيامة الخارجي، أمام المدخل الرئيسي، وشاهدت ذلك المنطاد العظيم العجيب "زبلين غراف" في جو القدس. ويا له من منظر مدهش مريع، لما كان يتحلى به هذا الاختراع من عظمة. وقلت في نفسي إنها لبلد طائرة في السماء...". وقدر واصف جوهرية، بعد حصوله على صورة للمنطاد زبلين، وهو يحلق فوق فندق الملك داود، أنه بحجم يزيد على عمارة فندق الملك داود، أحد أهم فنادق القدس، الواقع خارج أسوار المدينة القديمة.
أخيراً، بقي أن نشير إلى أن رحلة زبلين الثانية فوق القدس لعام 1931 حظيت بفرصتين للتصوير، الأولى على يد المصور الأرمني المقدسي، إيليا كهفيدجيان (Elia Kahvedjian) (1910 - 1999)، والثانية على يد مصوري "الأميركان كولوني" في القدس. تتمتع الصورة المعروفة لإيليا كهفيدجيان بوضوح شديد، وقد اختار لحظة تحليق المنطاد فوق مسجد
الصخرة المشرفة والحرم القدسي لالتقاط صورته.
أما الصور الملتقطة على يد مصوري "الأميركان كولوني"، وعددها 13 صورة، فقد أصيبت أصول معظمها (نسخها السالبة) بالعطب، جراء تسلل الرطوبة والماء إليها إبان تخزينها في أحد أقبية جمعية الشبان المسيحية في القدس(YMCA) ، بعد إنهاء "خدمات ماتسون للتصوير" في المدينة، وانتقال إريك ماتسون وزوجته إلى الولايات المتحدة عام 1946. ففي هذه الأثناء، كانت مجموعات كثيرة من صور الأميركان كولوني، وكذلك مجموعات صور ماتسون، قد تعرضت للتلف جراء التخزين السيء لها، لسنوات طويلة في ذلك القبو، إلى أن استخرجت في سبعينيات القرن الماضي، ونقلت إلى الولايات المتحدة، واستقرت، في نهاية المطاف، في مكتبة الكونغرس في واشنطن.
ومن حسن الحظ أن إحدى تلك الصور التي التقطت للمنطاد وهو يحلق فوق قبة كنيسة القيامة قد نجت من التلف، لتوثق، إلى جانب صورة إيليا كهفيدجيان، أكثر المشاهد الأيقونية للقدس، وقد ارتفع في أجوائها منطاد زبلين في رحلته الثانية، الخاطفة والأخيرة إلى فلسطين.
(*) كاتب، رسام ومصور فوتوغرافي.