الوهم البصريّ: نصف قرن من التاريخ الفني لفازاريللي
فازاريللي والفن العربي الإسلامي
لا ينكر الفنان نفسه خلال لقاءاتي معه هذا التأثير بل ويعتبره طبيعيًا في تربيته الفنية، فقد عاش في بودابست حتى عمر الأربعين. وكانت الآثار الفنية الإسلامية الباقية جزءًا من مناخات استلهامات رسومه الأولى. نعثر مثلًا على عناصر ذات مغزى روحي موروثه من إشارات «المنمنمات» أي رسوم المخطوطات العربية خاصة «رقعة الشطرنج» التي ستلعب دورًا مبرمجًا جبريًا في منصاته التالية الرياضية. وكان قبله المعلّم بول كلي يدرسها كبرنامج جوهري في التوزيع الموسيقي للألوان في الباوهاوس. كان فازاريللي يحرك الدائرة والمربع كما يحرك أحجار الشطرنج وفق معادلات الدرجة الأولى وسواها، بل وكثيرًا ما كنا نصادف في رسومه الكرافيكية نجمية الرمز الأرابسكي في الرقش الإسلامي أي المثمن، هو الشكل (المفردة) الكامل الناتج عن محاولة تدوير المربع وتربيع الدائرة وفق سعي خيماوي عدمي يصل مربع (الضريح على الأرض ورمزها مثلًا) بالقبة السماوية عبورًا من برازخ تحولات المثمّن. بل وكثيرًا ما استخدم نفس طرق النجميات التي توهم بالدوران مثل الأفلاك ومثل رقص المولوية وعناصر المقرنص الأندلسي.
من هذه المفردات المنقولة: الملاءة السوداء، أو حمار الوحش في شتى حالات خداعاته البصرية، أو الأزواج المزدوجة من الكائنات السوداء والبيضاء المتداخلة، المتبادلة جبريًا، أو المتصارعة أو المتقاطعة. لعلّه من الجدير بالذكر أن زوجته مصوّرة أقل منه شهرة، ولكنّها كانت منخرطة في تصوير أساليب المنمنمات والرسوم والحليات بطرزها المعروفة في بواطن صفحات المخطوطات العربية. أما عشهم الزوجي فكان يحفل بما لذّ وطاب من الحرفيات الإسلامية بما فيها النحاسيات المنقوشة بأزواج العزلان المتعارضة أو المتناظرة وسواها.
يبدو أنه من المثبت وبما لا يقطع دابرًا للشك استلهامه من موجيات بعض طرز الخط مثل
الديواني أو متاهات «الكوفي المربّع» التي نقل عنها هندسة بانو معدنيّ عملاق (بطول سبعة أمتار) معلقًا على واجهة جامعة بون. كما لا ينكر أن فلسفة «الغشتالت» التي طبقها تشبه فلسفة اتهام أبي حامد الغزالي لعين البصر بالتعثر في أخطاء سبعة لا تقع فيها البصيرة القلبية، مثل توّهم البعيد صغيرًا والقريب كبيرًا.
في العديد من الحالات كان فازاريللي يستعير منظور «عين الطائر» أو العنقاء المتعدّد مواقع الرؤيا ومتعدد مصادر الضوء الذي ندعوه بالعمودي، لأنه يكشف واجهات العناصر وما خفي خلفها.
ليس بالصدفة أنه كلف بتزيين ضريح الموسيقار الهنغاري بيلا بارتوك (صديق موسيقى المقام العربية) في بودابست. واختار لقبره المنصات المبرمجة الأقرب إلى هندسة الأرابسك. ولعلّه من الجدير بالتذكير أن الملك الأقرب فؤاد في القاهرة أقام آخر مؤتمر للموسيقى العربية عام 1932م واختار بارتوك على رأس قسم الاستماع مما سمح بانفجار نقاش بنّاء مع هذا العبقري وملحني أم كلثوم زكريا أحمد ورياض السنباطي حول طريقتي التلحين الأفقي أو اللحني الشرقي المواجه لأسلوب التزامن (الكونتروبوانت) في ديوان باخ الغربي. ونلاحظ أن ثمرة هذا اللقاح تتكشّف في التأليف اللاحق لبارتوك، هو الذي حاول التوليف بين الموسيقى الأفقية والعمودية. وكثير من المعلقين والنقاد يشيرون إلى توأمية الصداقة مع فنون المشرق العربي، تجمع بارتوك وفازاريللي. وهو ما يفسر اليوم تعدّدية فناني الحداثة العرب الذين انخرطوا في تيار الوهم البصري ولا مجال لذكرهم فقد نشرت العديد من الدراسات المعمقة حول تجاربهم.
فازاريللي والفيزياء الذرية
علينا أن نراجع الأطروحة التفصيلية حول هذا الموضوع التي تمثّل دكتوراه الأستاذ دهان، يكفي أن أقتصر على إشارات مقتضبة من ملاحظاتي الشخصية التالية: سألت ذات مرّة فازاريللي نفسه عن سبب إضافته لصفة السينيتيك على الأوبتيك علمًا بأن السينيتيك يمثّل تحويل الهيدروجين من سائل إلى بخار بالتسخين، يتحول إلى مادة تنبض برفيف جزئي أو ذرّي، وشاعت هذه الاستعارة في تنظير مدرّسي الباوهاوس للدلالة على مكامن النبض الوهمي الذري المخملي الخادع للعين. لكنّ فازاريللي أجابني بأنه استخدم هذا المصطلح ذا الأصل الفيزيائي لقرابة لفظه من السينما والمشهدية أي السينوغرافي والسبرينتيك المعلوماتي وهكذا، أغراه إذًا الاشتقاق والقرابة اللفظية والفنية. إذا عدنا إلى تجاربه التي تعتمد على البرمجة المعلوماتية في توزيع المفردات الهندسية الأولى: المربّع والدائرة والمثلث وسواها نجده يتعقّب الإيهام المدغدغ للعين عن طريق تراكب الألوان وتداخل هذه المفردات بالتالي على منصّة البرنامج، بحيث تبدو وكأنها مستلهمة من الأرابسك أو السجاد أو بعض أنماط البساط والموزاييك.
نعثر هنا على تطبيق النسبية في قياس مشاهد التلسكوب الفلكي (أو العالم الماكروكوزم) مع
المجهر الذرّي (أو العالم الميكروكوزم) وهو ما أشار إليه مبكرًا كاندينسكي في كتابه متأثرًا بعبارة عبد القادر الجيلي عن العالمين الكبيري والصغيري. يورد في هذا المقام مولانا جلال الدين الرومي قوله: «وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر». لا يقتصر فازاريللي في استلهاماته الفيزيائية على البرمجة النابضة الجبرية الشطرنجية، لأن هذه التجارب المتعامدة تتزامن مع الأحابيل الموجية المستقاة من هيئة الحلزون سواء الهندسي أم الفلكي الذي تنتظم على أساسه المجرّات بما فيها مجرّتنا المدعاة درب التبانة ( la vois lacté)، مطبقة في بعض الأحيان ألاعيب طراز الديواني في الخط العربي، طبقه المسلمون في تكوينات الشخوص في المنمنمات وفي العمارة (مثل مئذنة الملوية في سامرّاء المنقولة إلى جامع ابن طولون وطبّقها حديثًا في إنشاءاته البصرية العراقي مهدي مطشر).
لا شكّ في أن تأثير الفيزياء البصرية قبل الذريّة أعرق من استعارات فازاريللي، ترجع إلى عهد الانطباعية الأول على يد المعلم كلود مونيه عندما صوّر سلسلة لوحات عن تحولات الضوء على واجهة كنيسة روان، مثبتًا بذلك أن التزامن اللوني طريقة لتعيين زمان المشهد بتغيير المقام اللوني الغالب على أوهام الشبكية، ولا شكّ أن فنون الوهم البصري ما هي إلا سليلة للانطباعية عبورًا من التنقيطية.
تتيح لنا خصوبة العرض إمكان السياحة في استعراضات فازاريللي اللونية التوليفية على ساحة الشبكية ضمن عمليات خداعية سيركية شمولية عامة.
ابتدأ العرض منذ السادس من شباط/ فبراير مستمرًّا حتى السادس من أيار/ مايو 2019م.