فيلم "تورنر": قلق الرسام أمام الكاميرا
لحظة مفصلية من تاريخ الفن
يتناول فيلم "تورنر" سيرة رسام، لكنه يتناول أيضا لحظة مفصلية من تاريخ الفن. لحظة تحول في أساليب اشتغال الرسام الذي تعوّد أن يحاكي الشخوص والطبيعة، فجاءت الكاميرا لتستنسخها بدقة أكبر. صور الكاميرا أقوى لذلك ستتخذها الحكومات شرطا على وثائق الهوية. بتفوق الكاميرا لم يعد للمحاكاة معنى، صار الفنان ملزما بأن يهدم ويعيد بناء ما يرسمه لكي يلعب في مساحة فنية جديدة لا تستطيع الكاميرا اللعب فيها. جوابا على دقة الكاميرا غيّر الرسام تورنر موضوعه، لا يرسم شروق وغروب الشمس، بل صور الانطباع الذي تتركه.
جعلت الكاميرا الوجوه والمناظر الطبيعية متاحة وتستنسخها، وهكذا حطم الاستنساخ فرادة
وتميز عمل الفنان. وقد بدأت الأزمة التي انفجرت في وجه تورنر يوم كان الرسام الإيطالي جيوفاني كناليتو (1697-1768) يستخدم camera obscura لكي يستنسخ المشاهد التي يرسمها. وهي كاميرا مطورة من "البيت المظلم" الذي وصفه ابن الهيثم في كتابه "المناظر". وقد خلق الاستنساخ اليدوي للمناظر التي تنعكس في الكاميرا أزمة للفنانين. أما وقد صارت الكاميرا تستخرج صورة للوجوه والمناظر فقد زعزعت أساليب الرسم لدى معاصري كناليتو، لذا لجأ مثلا فيسلي (1706-1782) إلى رسم العجائبي لينجو من إكراه الاستنساخ. الكاميرا لا تلتقط الأشباح.
كان الرسامون قبل اختراع الكاميرا المظلمة يرسمون الملوك والباباوات، وقد قضى فيلاسكيز (1599-1660) عمره يرسم أفراد العائلة الملكية الإسبانية، بينما رسم دافيد نابليون وزوجته. كانت الزوجة تقف ساعات طويلة أمام الرسام. حين انتشرت الصحافة في عصر الجماهير أي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر صارت صور الزعماء ترسم كاريكاتوريا. وفي القرن العشرين صارت صور الزعماء الملتقطة بالكاميرا تعلق في كل مكان لتأكيد حضور سلطة الحاكم وتمجيده. ودون معرفة هذا التحول، ودون معرفة camera obscura يصعب فهم لماذا عنون رولان بارت كتابه "كاميرا مضيئة" camera lucida الصادر سنة 1980، وفيه يؤكد بارت أن الفوتوغرافيا تمكّن الإنسان من أن يرى جسده أمامه.
صحيح يفتقد المنظر الذي تقدمه الكاميرا اللمسة الفنية، لكن الكاميرا مكنت مليارات البشر من رؤية أنفسهم على الورق. غير أنه في عصر الكاميرا لا يرى الفنان الحديث جدوى من إنتاج نسخة أخرى من المرأة الجميلة التي تقف أمامه. لا جدوى من رسم بورتريه لمارلين مونرو بالصباغة. فالكاميرا تقدم الممثلة طازجة.
كان تورنر نموذجا فنيا من عصر آخر، عصر مهدد بالزوال. لقد رفض تورنر بيع كل لوحاته لأنه فنان غير متصالح مع السوق. وسيأتي زمن يعتبر فيه الرسامون البيع هو كل النعم. سيصير الأعلى سعرا والأكثر مشاهدة معيارا للتفوق. وقد سجل إريك هوبزباوم أنه في بداية القرن العشرين انخفضت أسعار اللوحات التي رسمت في القرن التاسع.
كانت لقطة صدمة تورنر أمام الكاميرا تمهيدا لبدء فن جديد فيه فنان يريد أن يكتشف لا أن يستنسخ، وبعد مئة عام على رحيل تورنر سيحوّل أندي وارول (1928-1987) الكاميرا إلى وسيلة إبداعية توثق وتشوه ما تصوره. لم تقتل الكاميرا الفن التشكيلي بل أرغمته على تسلق آفاق جديدة.
بعد استنزاف المناظر الانطباعية، ستظهر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين توجهات تشكيلية جديدة لتجاوز العدوّة التي صدمت تورنر. انتقل الفنان من التصوير التمثيلي إلى التجريد والتكعيب والسريالية. وكانت تلك قطيعة فنية قوية مع الماضي، كما في لوحة الصرخة 1893 للنرويجي إدوارد مونش. في بداية القرن العشرين سيكون الرسامون مجبرين على البحث عن سبل بديلة بدلا من محاولة استرجاع ما سرقته الكاميرا منهم. وتمثل البورتريهات التعبيرية المرعبة للألماني أوتو ديكس (1891-1969) نموذجا لقدرة الرسام على تجاوز قدرة الكاميرا بفنه. بعد التعبيرية ليس صدفة أن يدفع رسامو بداية القرن العشرين فنهم نحو آفاق تجريدية وسريالية وتكعيبية. ويقدم فيلم "موديلياني" 2003 للمخرج مايك ديفيس المحطة الموالية من تاريخ الفن التشكيلي. وكان موديلياني وبيكاسو نجمين في باريس بداية القرن العشرين، نجم وأسلوب يصعد، ونجم وأسلوب يتهاوى.