عن فيلم "موديلياني": وجه جميل يخسر الرهان أمام مكعب
شخصية الفنان
على الصعيد الشخصي، ليس بإمكان كل موهبة أن تصمد وتنجح. لقد رسم موديلياني شابة ووقع في غرامها. يحتاج الحب ولا يطيق أعباء الحياة الزوجية. الخمر والزواج يدمران الإبداع. من جهته، رسم بيكاسو لوحات كثيرة عن علاقة الرسام والموديل الذي يرسمه. ويلمح إلى أن علاقة الرسام مع موديله تتطور لتصير عاطفية. بينما موديل بيكاسو مكعب، بارد حاد وصادم. في لوحات بيكاسو حجم نهود النساء أكبر من رؤوسهن.
يعرض الفيلم غرور الفنان وبؤسه. يمثل موديلياني نموذجاً دونكيشوتياً لانهيار الفنان البوهيمي غير الآبه بقوانين السوق التي صارت تتحكم في الفن. يقارن البوهيمي البئيس نفسه بالذين يبيعون لوحاتهم ويثرون ويشعر بالمهانة. وقد أدى أندي غارسيا دور الوسيم الإيطالي موديلياني بمهارة مدهشة.
يتطلب الإبداع طاقة رهيبة، لذلك لا بد من تنظيم وعزلة واشتغال لوقت طويل. يهرب الرسام من الحياة الزوجية والأطفال والروتين والمتاعب، يركز على الجسد لجلب الأنظار، لكنه منع من عرض لوحات النساء العاريات. وهذا غريب في باريس، حتى إنه سبق لإميل زولا أن علق على الضجة بصدد لوحة إدوارد ماني "غذاء على العشب" 1863، إذ استغرب زولا من تنديد الجمهور بالمرأة العارية بينما يعرض متحف اللوفر أكثر من خمسين لوحة فيها نساء عاريات.
لا أحد يبحث عن الفضيحة في متحف، بل يجري البحث عن الفضيحة الآنية.
يمثل موديلياني نموذجاً لفنانين في منعطف تاريخي يواجهون أزمة اقتصادية ومنافسة شرسة
لإثبات الذات، وهذا مدمر للأعصاب. ويحاول الفيلم تفسير أزمات الرسام الصحية والعاطفية والإبداعية بماضيه، طفولته، ديانته.
يهدر البوهيمي وقته في الشرب وهو مدمن يدمر ذاته، يدمر جسده وهو آلة العمل للتفوق. بينما بيكاسو يعمل ويبيع وترتفع معنوياته ويزيد دخله ويتعمق بحثه ويبدع لوحات أفضل ويبيع أكثر.
في فضاء ثقافي حداثي خرج الفنان من رعاية النبلاء وعليه أن ينجح في سوق الفن. السوق برجوازية تستهلك الفن وتدفع له بسخاء. لم يعد النزاع في صالون أو جريدة، إنه يجرى في ساحة كبيرة تتطلب لياقة ثقافية عالية وموهبة رهيبة للصمود في المجال. في هذه الأوضاع ليس في صالح الفنان أن ينهك نفسه في مقارعة أشباهه، من الأفضل أن يركز على جمهوره.
يحمل الفيلم اسم "موديلياني"، لكن بيكاسو يحضر في نصفه تقريباً. السبب؟ يصعب إنجاز فيلم عن بيكاسو الحازم. كان موديلياني فضائحياً مدهشاً ساحراً كشخص، لكنه كفنان لم يدرك التحولات التي تجري حوله. يقدم الفيلم صورة سلبية لبيكاسو الجشع، لكن المهم بالنسبة للفنان هو أثره الفني وليس طيبته الزائدة. الطيبة مفيدة في العلاقات العامة فقط. قديماً قيل "إن أعذب الشعر أكذبه".
عصر الفنان
على صعيد تاريخ الفن، وحسب ديفيد هوبكنز في كتابه "الدادائية والسريالية"، غيرت الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية فهم الناس لعوالمهم على نحو جذري، والعينة الفضلى للتغيير هي المقارنة بين لوحتي "نساء الجزائر" ليوجين دولاكروا، وبابلو بيكاسو. هناك مسافة أسلوبية رهيبة بين اللوحتين. وتفسير التحول هو أن الحداثة الفنية تقطع مع الإلهامات المعيارية للماضي. إنها في تقدم دائم. وقد انتقلت عدوى التقدم إلى الفن الذي صار طليعياً. والطليعة مفهوم عسكري يشير إلى الفرقة الاستطلاعية التي تستكشف الطريق قبل تقدم الجيش.
انتشرت التكعيبية (التي تقدم أشكالاً ثلاثية الأبعاد) وكذا السريالية، وهذان اتجاهان فنيان حديثان لا يستنسخان المشهد والبورتريه لأن الفن السوريالي "يقدم تحريفاً جذرياً للواقع" حسب كاتي ويلز في "معجم الأسلوبية". تحريف يجعل المألوف غير مألوف وبذلك تجبر الاستعارات الحية المتلقي على النظر إلى الموضوعات اليومية بعين أخرى. كانت التكعيبية في الوقت نفسه رفضاً وانتقاداً لفن الرسم في القرن التاسع عشر بل وهي أيضاً بديل له. وهي نموذج للعدمية الفنية المتعمدة كما أثبتت الدادائية.
هكذا "صنعت الحداثة طفرة في طريقة تأويل العالم. غيرت النظرة إلى ما يجري. أزالت
الأسطورة وسهلت اكتشاف وتعرية الذات" حسب مارتن هيدغر.
من هذا المنظور فإن فيلم "موديلياني" هو عمل فني ووثيقة تاريخية، فحسب هوبزباوم عانى الرسامون طويلاً من عجز الأساليب القديمة عن تمثيل الواقع الخارجي ومشاعرهم الخاصة. حدثت قطيعة بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بين 1900 و1910. بعدها حصل ثوريو الفنون البصرية من انطباعيين وما بعد انطباعيين على الاعتراف، فنظر بتقدير كبير في 1914 لما اعتبر منحطاً في 1870.
جرى التركيز على اللون والضوء وتفكيك العناصر في الطليعية التجريبية (مثل التكعيبية) التي لم تلق الترحيب في أوساط الجمهور العريض، لكن روادها كانوا واثقين بأن المستقبل لهم.
كان المستقبل لبيكاسو
وقد تعززت هذه الثقة بإقبال تجار الفن الأميركيين الذين كانوا يشترون اللوحات بعد الحرب العالمية الأولى، ممهدين الطريق لنقل مركز الفن العالمي من باريس إلى نيويورك.
وإلى جانب التكعيبية انتشرت السريالية لأنها ركزت على الفنون البصرية غير المرهونة بحواجز اللغة مثل الرسم والباليه والنحت والسينما. وتم اعتماد الكولاج لمزج الصورة والكتابة وأشياء دالة على فضاء اللوحة. وقد كتب الشاعر لويس أراغون عن الكولاج.
كان الكولاج في التشكيل هو شقيق المونتاج في السينما، ويمثل الفيلم القصير "كلب أندلسي" الذي اشترك فيه لويس بونويل وسلفادور دالي نموذجاً لثورة الفن الحديث. في الفيلم مشاهد لا صلة سردية بينها ومن أشهرها مشهد كابوس رجل يخرج النمل من ثقب في كفه ويجر بيانو فوقه حمار ميت.
كان الفيلم رد فعل ضد تقاليد السينما الروائية. والأهم كان ثورة أسلوبية ربطت الكولاج بالمونتاج.